مقالات

جسر الوجدان بين ارتريا والسودان ( 6 ) : محمد سعيد ناود ـ اسمرا

24-Nov-2007

ecms

لقد انتهت ثورة أكتوبر بالانقلاب العسكري الذي قاده العقيد آنذاك والمشير بعد ذلك جعفر النميري في مايو 1969م ، وقد دام نظام حكمه 16 عاماً . وهي فترة طويلة مرت بها القضية الإرترية بأطوار متعددة في الساحة السودانية . وبحكم طول الفترة الزمنية لنظام حكم الرئيس النميري ، وبحكم أن هناك تنظيمات وقيادات كثيرة قد عاشت تلك الفترة فلابد أن هناك الكثيرون ممن سيكتبون عن تلك الفترة بإسهاب . وعليه فإن حديثي عن تلك الفترة سيكون موجزاً للغاية .

تميزت فترة حكم الرئيس نميري في علاقته بالثورة الإرترية بالتقلب وعدم الثبات في موقف واحد . فكان يتحول من النقيض إلى النقيض ، فتارة معنا بماهو فوق طموحنا ، وتارة أخرى ضدنا لدرجة التطرف . ففي ثورة أكتوبر كنا نتعامل مع الشارع السوداني مباشرة مع الجماهير السودانية عبر أحزابها السياسية ونقاباتها المهنية والفئوية وعبر الإعلام في الصحافة . ولكن الرئيس نميري وبنجاح انقلابه حل الأحزاب السياسية والنقابات وأغلق الصحف ، ومن ثم حصر علاقة الثورة الإرترية بالأجهزة الأمنية دون أن يسمح بتجاوز تلك القناة أو التعامل خارجها . وكان ذلك بالنسبة لنا تجربة جديدة لم نألفها من قبل . وبينما نحن مستمرون في علاقتنا عبر تلك القناة سمح لنا بافتتاح مقرات لتنظيماتنا مع مباشرة أنشطتنا كارتريين أما في الإطار السوداني الرسمي كان تعاملنا عبر جهاز الأمن العام فقط . وكنا نعيش حالة من التناقض وعدم الارتياح لأن من كنا نتعامل معهم بالأمس من أبناء الشعب السوداني وقياداته وكانوا سنداً ودعماً لنا رأيناهم وقد أصبح مصيرهم السجون والمعتقلات وبعضهم سيق إلى المشانق ، وبالمقابل كانت مكاتبنا مفتوحة تزاول أنشطتها ، ولكن كنا نتوجس خيفة ، وكان تخوفنا في محله . فعند توقيع اتفاقية أديس أبابا عام 1972م بين الحكومة السودانية وحركة ( الأنانيا ) تحت رعاية الإمبراطور هيلي سيلاسي اذا بنا نفاجأ وفي يوم واحد ودون مقدمات بإغلاق كل مكاتبنا بواسطة رجال الأمن والشرطة . كما تم استدعاءنا بمكاتب الأمن وإشعارنا بعدم القيام بأي نشاط سياسي بعد الآن . وبعدها أخطرنا رسميا بواسطة الأمن لمغادرة السودان كممثلين وقيادات ممن كان يتواجد في السودان ، ومن جانبي رفضت تنفيذ تلك الأوامر بمغادرة السودان باعتباري مواطن سوداني ، فأجرى معي تحقيق بواسطة الأمن لفترة تقارب الشهر لسحب الجنسية مني وبالتالي لكي يتم طردي من السودان . وعندما لم يفلح الأمن في ذلك حددت أقامتي بالخرطوم بحيث لا أبارحها إلى أي مكان ، على أن أحضر يوميا لمكاتب الأمن ليطمئنوا بوجودي في الخرطوم . وبالرغم من هذه الوضعية الشاذة إلا أنني إستمريت كممثل للتنظيم بشكل سري ، وبحكم العلاقة الوطيدة التي كانت بين تنظيمنا والثورة الفلسطينية فقد جهز لي ممثل ( فتح ) بالخرطوم غرفة خلفية بداخل مكاتبهم لممارسة عملي دون أن تشعر أجهزة الأمن السوداني . كما سمحوا لي باستخدام جهاز اللاسلكي للربط بين عملنا في الخارج والسودان والداخل . وبينما كنت مواصلا عملي على هذه الوضعية وصل من الميدان كل من المناضل الأمين سراج والمناضل تخلي ( ود أربعتي ) للخرطوم ليحملا بعض المطبوعات ومصاريف الميدان التي كنت أتسلمها من الخارج . فإذا بالسفارة الأثيوبية تأخذ علماً بالأمر بواسطة أحد جواسيسها المندسين وتقوم بإبلاغ الأمن السوداني بذلك . وفي نفس الوقت كنت قد أخذت علماً بهذا التطور . فقام الأمن السوداني باعتقالي واعتقال الأخوان الأمين سراج وود أربعتي ولحسن الحظ لم يجدوا لدينا مايديننا . كما أنكرنا معرفتنا ببعضنا البعض . ولم يمضي وقت طويل بعد الإفراج عنا حتى تم اعتقالي بعد ذلك لقضاء أكثر من شهرين في سجن كوبر بالخرطوم بحري . ثار الشعب الإثيوبي وسقط هيلاسيلاسي فإذا بالرئيس نميري يتحول وبدون مقدمات إلى صديق للثورة الإرترية ، ويعلن في خطابه المذاع من مدينة القضارف عبر الأثير بأنه يقف إلى جانب الشعب الارتري في سبيل استقلاله . وكان ذلك أول تصريح من نوعه لحاكم عربي وأفريقي . أذكر أن الرئيس نميري اجتمع بنا في تلك الفترة داخل القصر الجمهوري وخاطبنا في حديث مقتضب قائلاً : (( أنا كعسكري أفكر بالمسائل العملية أكثر من الحديث النظري ، دعونا نتفق حول الهدف الرئيسي وهو ـ استقلال ارتريا ـ ، فأنا كرئيس دولة سأعمل في مجال رؤساء الدول وأقوم بحشد المؤيدين لاستقلال ارتريا ، وأنتم تعملون في مستوى الشعوب والأحزاب لنفس الغاية . دعونا نوزع الأدوار فيما بيننا ، ولامانع لدي أن تهاجمونني في الإعلام وتقولون أنني ضدكم )) . وأتبع الرئيس نميري القول بالعمل ، فقد سمح لنا من جديد بحرية الحركة ومزاولة لأنشطتنا في داخل الأراضي السودانية ، وأصبح السودان معبراً هاما لنا لمرور المواد العسكرية وغيرها عبر الجو والبحر والأرض إلى إرتريا . وخطى الرئيس نميري خطوة أخرى غير مسبوقة عندما سمح لنا بركن إذاعي من الإذاعة السودانية ، وأذكر ذلك اليوم الذي دخلنا فيه إلى الإذاعة في أم درمان وجلسنا ومدير الإذاعة واتفقنا على التفاصيل . وفي اليوم التالي بدأ الإرسال الإذاعي وكنت أول من أفتتح ذلك الركن الإذاعي ووجهت من خلاله رسالة وأخبار عن القضية والثورة الإرترية . وماكان يسهل مهمتنا في السودان هي الحدود المفتوحة بين البلدين حيث لاتوجد نقاط جمارك أو جوازات ، كما أن المواطنين في طرفي الحدود يمثلون قبائل مشتركة واحدة . أيضاً تشابه السحنات والوجوه والملامح والألوان وحتى اللغة والعادات ، كل ذلك كان عاملا مساعداً لأن التمييز بين الإرتري والسوداني لم يكن أمراً سهلا ً . فقد عبر عن ذلك الرئيس نميري حيث كنا في اجتماع حضره كل من المناضلين :عثمان سبي ـ أحمد محمد ناصر ـ الزين يسين ـ محمد سعيد ناود ، وكانت المرة الأولى التي نجتمع به فيها ، فعندما بدأنا بالحديث قاطعنا قائلاً : (( إذا التقيت بكم في الطريق كيف سأميزكم خاصة وأن لسانكم وأشكالكم وألوانكم لاتختلف عن أي مواطن سوداني )) . استمر معنا الرئيس نميري بهذا المستوى من التأييد والتسهيلات لفترة ليست بالقصيرة ، ولكنه عاد في فترة متقدمة حيث هدد بلإنسحاب من اجتماع عقدته النقابات السودانية وكان ضمن الحضور وفدا يمثل اتحاد نقابات عمال ارتريا . وعندما دخل الرئيس نميري إلى القاعة ورأى أمامه اللافتة الارترية حتى استشاط غضبا وقال : (( لا أعرف دولة باسم إرتريا ، فإما أن أنسحب أو ينسحب هذا الوفد الذي حمل اسم ارتريا )) . وبالطبع انسحب الوفد الإرتري وبقي الرئيس نميري في القاعة . إنها كانت إحدى حالات الرئيس نميري التي عرفت بالتقلب وعدم الثبات في موقف واحد ولكن بالمحصلة النهائية لايمكننا أن ننكر بأن الرئيس نميري ونظامه قد قدم دعماً لايستهان به للقضية والثورة الإرترية . السودان الذي بدأنا نتحرك فيه ونحن مطاردون من نظام إبراهيم عبود فقد تحول عبر عشرات السنين من النضال المتواصل إلى أهم مركز ومعقل للثورة الارترية وذلك بفضل تلاحمنا مع الشعب السوداني . فقد انتشرت مكاتب الثورة الارترية في كل مكان في المدن السودانية ، كما أصبح أهم ممر عبر أراضيه للسلاح والمواد التموينية . كما أن الأنشطة الاجتماعية من تعليم وصحة وهيئات إنسانية ارترية انتشرت وسط اللاجئين الإرتريين ووسط جالياتنا في المدن السودانية . وأبرز مثال على ذلك جهاز التعليم الإرتري الذي قدم خدماته التعليمية الكبيرة لأبناء اللاجئين الإرتريين . كما أن السودان قدم لنا في مجال التعليم ما لايمكن التنكر له حيث فتح مدارسه وجامعاته ومعاهده لأبناء ارتريا حيث تخرج المئات ، ولازال الكثيرون ينالون التعليم في السودان . mahmoudnawed@yahoo.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى