مقالات

حديث الذكريات والمذكرات ( الحلقة الأولى ) – بقلم / محمد سعيد ناود

8-Feb-2007

المركز

عشت أحداثا كبيرة مرت بالبشرية في شتى القارات ، وأولى هذه الأحداث الاستعمار التقليدي المباشر عندما تحركت أوروبا وبدأت تهرول بجيوشها وأساطيلها البحرية ومبشريها ، وتنافست فيما بينها وتقاسمت النفوذ في الكرة الأرضية بقاراتها ومحيطاتها وبحارها وجذرها وأصبح الأوروبي ـ أي الرجل الأبيض ـ هو السيد المطاع وباقي البشرية بشتى أنواعها عبيدا لهذا السيد .

وقد تميز الرجل الأبيض بعدم الرأفة والرحمة متجردا من كل القيم والمثل الأخلاقية حيث سيطرت عليه مصلحته التي كانت تهيمن على سياساته في شتى المجالات ولذا استغل إنسان المستعمرات كأيدي عاملة رخيصة في المناجم والمصانع .. وقام بنهب الثروات من معادن ومنتجات زراعية وبالذات القطن والأخشاب وخلافها . واستغلوا خيرات المستعمرات في بناء بلدانهم ، وفي نفس الوقت حافظوا على تخلف الإنسان والأرض في المستعمرات . وقد كان ذلك سلوك كل المستعمرين الأوربيين في كل القارات والأقطار ، وتمثل سلوك المستعمرين غير الإنساني في ممارسة سياسة الفصل العنصري في جنوب القارة الإفريقية بأبشع صوره . إلا أن القارة الأفريقية وبعد قرون أعطتهم درسا في التسامح والإنسانية . وكان ذلك الدرس من قبل القائد الأفريقي بل والعالمي ” نلسون مانديلا ” والذي وضعه الرجل الأبيض في السجن لربع قرن وفي جزيرة معزولة . وعندما حرره شعبه بعد نضال متواصل وتضحيات كبيرة وبالتضامن من قبل كل القوى الخيرة المناهضة للاستعمار في العالم ، فأنه – أي نلسون مانديلا – رفع شعار التسامح وليس الانتقام ، وكان ذلك درسا هاما للرجل الأبيض كما أعطى ذلك القائد درسا لكل حكام أفريقيا والعالم الثالث عندما تنازل عن السلطة طائعا مختارا بل وزاهدا . وفي مرحلة الاستعمار التقليدي وكنا في إرتريا من نصيب ايطاليا أولا بنظامها الملكي ثم بعده بنظامها الفاشستي والذي ترك ذكريات مؤلمة استمعنا إليها من الآباء . وفي مقدمة تلك الذكريات المؤلمة فإن ايطاليا وفي طموحاتها غير المشروعة بالتوسع وبناء إمبراطورية شاسعة من المستعمرات في أفريقيا فقد اتبعت نظام السخرة – أي العمل الإجباري دون مقابل مادي – للأيدي العاملة الإرترية في شق الطرق بالجبال وإقامة المباني للسيد الإيطالي .. ثم جندت عشرات الآلاف من الإرتريين _ قسرا _ في حروبها الظالمة في ليبيا ، إثيوبيا والصومال .الكثيرون من هؤلاء المجندين بالقوة لم يعودوا لأهلهم ووطنهم من تلك الحروب .فقد انتهوا في ساحات حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل ، أما من عاد منهم فقد عاد وهو يحمل نياشين وميداليات نحاسية تؤكد شجاعتهم . وتلك النياشين والميداليات ظلوا يحتفظون بها ويقومون بتلميعها من الصدأ بشكل دائم حتى يفارقوا الحياة . بل كان الإيطاليون وأثناء حروبهم يستولون على الجمال والحمير والبقال من المواطنين الإرتريين للاستفادة منها كوسائل للنقل .. وقبل ذلك كانوا قد قاموا بنزع الأراضي الزراعية الخصبة من أصحابها دون تعويض وتمليكها للإيطاليين دون مقابل .والأسوأ من هذا وذاك نظام التمييز العنصري الذي مارسه المستعمرون الطليان في إرتريا ، والآباء والأجداد الذين عاشوا تلك الحقبة من الزمان يحكون بمرارة كثيرة كيف كان الإيطالي يرتاد المطاعم والمقاهي والبارات والأحياء السكنية الخاصة به والطرقات ووسائل المواصلات المحرمة بحكم القانون على أي مواطن إرتري مهما علا منصبه أو وضعه الاجتماعي ، ويا ويل من يخالف ذلك جهلا أو تجاهلا . وكانت تلك الممارسات تتم بشكل أكثر بروزا في العاصمة اسمرا والمدن الكبيرة من إرتريا . وكان الأوروبي الأبيض البشرة سواء كان إيطالي الجنسية أو غيرها مرهوبا وكأنه نوع لاينتمي لباقي البشر . والجيل الحالي من أبنائنا والذي ولد متحررا من عقدة الرجل الأبيض والذي ينظر إليه باعتباره مثل باقي البشر فإنه لن يهضم ممارسات التمييز العنصري واحتقار اللون الأسود الذي مارسه الرجل الأبيض ضد إبائه وأجداده . وكردة فعل وكرفض للسياسات الاستعمارية فقد برزت حركات مقاومة ضدها في كل المستعمرات .. إلا أن المستعمرين واجهوا ذلك بالمزيد من الاضطهاد والقمع الوحشي وسجن وتشريد وقتل زعاماتها . وقد حدث ذلك في كل الأقطار التي ابتليت بالاستعمار دون استثناء وفي كل القارات ، والأسماء التي قادت تلك النضالات كثيرة وبارزة ولكننا نشير لأسم واحد كنموذج لها وكان هذا الاسم يلهب مشاعر شعوب المستعمرات ألا وهو ” المهاتما غاندي ” . وغاندي درس في بريطانيا حتى نال الإجازة في القانون وأثناء وجوده هناك فقد درس عن قرب وبالمعايشة اليومية الحياة اليومية في الغرب عموما وفي المملكة المتحدة على وجه الخصوص . وبعد عودته لبلاده شد الرحال إلى جنوب أفريقيا ومارس مهنة القانون كمحامي هناك ، كما دافع عن الملونين وحقوقهم ضد النظام العنصري الذي كان سائدا هناك بواسطة الرجل الأبيض ” الأبارتيد ” حتى تعرض هو شخصيا للاضطهاد . وفي أوائل القرن العشرين عاد غاندي إلى بلاده الهند ليشرع هناك في ممارسة النضال ضد الاستعمار البريطاني ولهذه الغاية قام بتكوين حزب المؤتمر الهندي والذي التفت من حوله الجماهير الهندية على اختلاف عقائدها الدينية المتعددة . وفي مقاومة الاستعمار البريطاني اتبع أسلوب العصيان المدني وبعيدا عن العنف . كما رفع شعار مقاطعة البضائع البريطانية وبالذات الأقمشة التي اشتهرت بمصانع ” لانكشير ” البريطانية في إنتاجها والتي كانت تستورد ألاقطان من المستعمرات وبأسعار زهيدة وبعد تصنيعها تعيد تصديرها بأسعار غالية وناشد غاندي شعوب الهند لكي تشرع في غزل ملابسها بنفسها وليضرب مثلا لهم فقد نزع الملابس الإفرنجية الصوفية البريطانية التي كان يرتديها وأصبح يغزل ملابسه بنفسه . وهنا عمت الهند من أقصاها إلى أدناها صناعة الغزل والنسيج المحلية مع المقاطعة التامة للمنتجات البريطانية من الغزل والنسيج .. فقامت السلطات الاستعمارية البريطانية بمواجهة حزب المؤتمر ورموزه وزجت بهم في السجون وفي مقدمتهم المهاتما غاندي . فقد عمت حركة العصيان المدني من الاعتصامات والاضرابات ومحاربة الصناعات البريطانية وممارسة الغزل والنسيج شملت القارة الهندية بكاملها حتى رضخت السلطات البريطانية الاستعمارية أخيرا واعترفت بحزب المؤتمر كممثل للشعب الهندي وبالمهاتما غاندي كزعيم للهند ، وأصبحت تتفاوض معه بشأن مستقبل الهند والقضية الهندية . والنضالات التي كان يخوضها الشعب الهندي وزعيمه غاندي كانت تمثل إلهاما وقدوة لحركة التحرر الوطني في قارات آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية . وان المهاتما غاندي زعيم الحركة الوطنية الهندية وزعيم حزب المؤتمر كان في طريقه إلى مؤتمر المائدة المستديرة بلندن عن طريق البحر . وعند مروره بمصر عبر قناة السويس فقد تمت تحيته واستقباله بزعامات من مصر . وان أمير الشعراء أحمد شوقي شاعر مصر المعروف قام بتحيته بقصيدة عصماء تطرق فيها أولا للشاة التي كان يصطحبها غاندي في كل رحلاته ليحلبها ويشرب حليبها ، كما كان يحمل مغزله الخاص لحياكة وصناعة ملابسه ، كما أن لعبة الحاوي الهندية المعروفة خاصة عندما يعزف الحاوي للثعبان بألحان معينة ويتحكم فيه كما يشاء . وكل ذلك أجمله الشاعر احمد شوقي في قصيدته العصماء التي حيا فيها المهاتما غاندي ، ونقتطف منها الأبيات التالية : سلام النيل يا غاندي وهاك الزهر من عنـدي سلام جالب الشاة سـلام ناسج البرد وقل هاتوا أفاعيكم إلى الحاوي من الهند وفي السودان وعند نهوض الحركة الوطنية ضد الاستعمار البريطاني ، ابتداء بمؤتمر الخريجين ثم قيام الأحزاب السياسية فقد كان الجميع يتابعون أخبار نضالات الشعب الهندي وزعيمه المهاتما غاندي ، وآنذاك كنت طالبا صغيرا بالصف الرابع الأولي . وكان أساتذتنا يغلقون نوافذ الفصل ثم يختزلون جزء من بعض الحصص ليشرحوا لنا تاريخ نضالات الشعب الهندي وزعيمه غاندي . وكنا نستمع لكل ذلك بإعجاب شديد . كما أن جميع التجار الهنود بمدينة بور تسودان – وكان عددهم كبيرا- كانوا يعلقون صور المهاتما غاندي وهو يغزل ملابسه بنفسه ومعه صورة خليفته ” جواهر لال نهرو ” برسم اليد في محلاتهم . وكنا نتوقف أمام تلك الدكاكين ونحن ننظر لتلك الصور بكل إعجاب . وتحت تأثير ماكنا نسمعه من المعلمين عن الهند وعن غاندي فقد انتشرت بين الطلاب صناعة حياكة الفنايل الصوفية باليد وبشكل بديع . ومن جانبي ورغم صغر سني آنذاك فقد أجدت ذلك مثل غيري من الطلاب . وحتى اليوم احتفظ بصورة نادرة لشقيقي الأصغر حيث صنعت له بيدي فنلة وأخذت معه صورة فوتوغرافية . يتبع…..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى