شجرة سارة: الإثيوبي، وحشة اللجوء، والإياب المستحيل …! بقلم / عادل كلر ـ الخرطوم
18-Nov-2020
عدوليس
“السودان حبيبتنا والله وأي حاجة”، قالتها سارة. السيدة الإثيوبية المتحدرة من قومية التقراي، والتي تعمل في بيع الشاي والقهوة بالخرطوم بحري، تحت شجرة أكاسيا بزاوية احد الميادين العامة بوسط المدينة؛ قالتها سارة ذات ال(32) ربيعاً، والأم المعيلة لأربعة من الأبناء المقيمين معها بحي “ديوم بحري” الذي تقطنه كثافة مقدرة من جيران السودان القادمين من هضاب وسهوب أكسوم، منذ عقود، في حياة تنداح فيها فواصل المواطنة والتعايش مع خشونة المهجر وغربة الثقافة، ف”ديوم بحري” برزخ جغرافي في عميق العاصمة ومزيج لعفوية الشعوب عابرة الإثنيات والأعراق.. والحدود!
“السودان حبيبتنا والله وأي حاجة”، قالتها سارة وهي تبث نجواها من على كرسيها البلاستيك أمام وهج فحم الموقد البلدي “الكانون”، تحت تلك الشجرة التي طالما احتوت أحاديثاً ومؤانسات عن اثيوبيا وحالها -اللاسلم واللا حرب والثقافة والكنيسة والمسيح- برَّدت عنها وحشة المغترب وأشجان المنفى، في كنف جمع صديق، نثرثر معها عن حال العيش والفترة الإنتقالية وروتين الحياة اليومية، تحت ظلال كرم مذاقات أكواب القهوة التي تعدها ببراعة إثيوبية ونكهات زنجبيل الهضاب التليد، قالت جملتها تلك، وصمتت مطلقة زفرة حرى ومردفة كلمة: (لكن!). وتابعت: “السودان نحبو شديد لكن تاني ما نقدر نقعد، السودان بقى سعب [صعب] شديد”. ذات أصيل ما من أيام أغسطس الماضي، تحت تلك الشجرة.
ولا تختلف حالة السيدة سارة عن حال الآلاف من الإثيوبيين المقيمين بمدن السودان المختلفة، والذين رمت بهم أقدار بلادهم التاريخية وأوضاعها السياسية والاقتصادية على امتداد القرن العشرين، الى السودان لجهة التقارب الجغرافي والوجدان، وبصورة أكثر كثافة إبان النزاعات المتكررة التي شهدتها ساحة إثيوبيا، ومؤخراً بفعل الاضطهاد القومي والعامل الاقتصادي. حيث أشارت محررة نشرة البنك الدولي “إليسا مسريت” في فبراير 2018 الى أن أثيوبيا وبالرغم من أنها من أسرع الاقتصادات نمواً إلا أنها لا تزال تعاني من الفقر، ومع أنها دولة ثلثي سكانها من الفئة العمرية دون الثلاثين عاماً لكن أغلبهم عاطلون لا تتوفر لهم فرص العمل.
الآن، وعقب اندلاع الحرب الأهلية ما بين الحكومة الفيدرالية وحكومة إقليم تقراي -الجبهة الشعبية لتحرير تقراي TPLF أحد أقوى مكونات التحالف الحاكم في اثيوبيا EPRDF الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الاثيوبية- وانتقالها الى ما ينذر بتحولها الى صراع اقليمي مفتوح، تتدفق أمواج من اللاجئين والفارين من جحيم الحرب اللافح من الداخل الإثيوبي إلى الأراضي السودانية، في ظروف إنسانية سيئة واوضاع بالغة الهشاشة، جراء النسخة الحالية من النزاع الأهلي الإثيوبي المفتوحة على احتمالات خطيرة للغاية، بحسب تصريح رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد” الذي قال: “ندرك أن أنشطة فرض القانون تحتمل مجازفات بإنتهاكات لحقوق الإنسان لحقوق الإنسان والاساءة إليها”. هذا التصريح الذي أتى من أعلى هرم نظام يقوم على أساس فيدرالية القوميات، القائمة على نظام الأرض-الإثنية، في دولة تخالف التعريف العملي ل”الدولة” إذ أنها ليست المحتكر الوحيد للعنف في المجتمع.
وفي عقابيل مشهد ثورة ديسمبر السودانية، وتسنم الحكومة الإنتقالية في السودان زمام تسير البلاد، لم ينعكس هذا الإنتقال بصورة إيجابية على أوضاع اللاجئين الاثيوبيين، حيث يعانون من أوضاع إدارية وانسانية ومعيشية متدهورة، رغم إعلان مفوض الأمم المتحدة السامي لشئون اللاجئين “فيليبو قراندي” رصد مبلغ (40) مليون دولار للاجئين في السودان لدى لقاءه برئيس الوزراء السوداني حمدوك بالخرطوم في أبريل 2020، وتفاقمت أوضاع اللاجئين لدرجة تنظيم وقفات احتجاجية أمام مقر المفوضية السامية لشئون اللاجئين بالخرطوم في فبراير وابريل، منددين بسوء الإجراءات الخاصة بتجديد بطاقات اللاجئين وتعامل السلطات السودانية، مطالبين ب”إحالتهم الى مراكز عبور طاريء الى دول أخرى”. وحالة تدهور أوضاع اللاجئين المتفاقمة نحو الاسوأ، لا سيما في ظل جائحة كوفيد-19، انعكست كعامل سلبي آخر، حيث أكدت منظمة Save the Children “أنقذوا الأطفال” في مايو 2020 فقدان (10) ألف من عاملات الشاي الاثيوبيات العمل بسبب تدابير كورونا في السودان، وحذَّرت المنظمة في بيان لها من تأثيرات هذه التدابير على قدرة (50) ألف مهاجر على توفير الموارد لتغطية إحتياجاتهم الأساسية من غذاء وماء وايجار مساكن، مما ينتقص من قدرتهم على الإلتزام بالتدابير الوقائية
وفي الثامن من نوفمبر الجاري تداعى مئات اللاجئين الاثيوبيين رفقة عشرات النشطاء السودانيين للاعتصام أمام مفوضية الأمم المتحدة السامية لشئون اللاجئين، احتجاجاً على تجاهل مطالب اللاجئين الإنسانية، وعدم تجديد البطاقات منتهية الصلاحية، واستمرار حملات السلطات السودانية التي تصادر حق العمل من هؤلاء اللاجئين وترفض عليهم غرامات باهظة، وتعرقل إجراءات استخراج تصاريح العمل، في تدهور أسعار العملة السودانية والإرتفاع الجنوني لتكاليف المعيشة، مع تدني قيمة مبالغ الإعانة الراتبة من المفوضية، فضلاً عن معاناة اللاجئين الإثيوبيين مع الجهات الرسمية الأممية وسلطات السودان، تنعقد مفارقة أخرى، تضيف بعداً مأساوياً في معاناة هؤلاء اللاجئين اليومية، الذين يعيشون داخل العاصمة السودانية، حيث أسندت الحكومة الإنتقالية مهام توزيع ومراقبة الخدمات بالأحياء من خبز وغاز طبخ الى احدى مكونات لجان المقاومة، وهي لجان الخدمات، والتي تقوم بمهام توزيع الخدمات على شرط “المواطنة” السودانية، وهو ما يلقيء اعباءاً ورهقاً غير يسير على آلالاف اللاجئين بالعاصمة السودانية، وهي العوامل التي تتقاطع وبالمرة مع جوهر رسالة الأمم المتحدة -نفسها!- في اليوم العالمي للاجيء للعام 2020:”نهدف إلى تذكير العالم بأن كل شخص يمكن أن يكون له بصمة إيجابية في المجتمع وأن كل عمل مهما كان صغيراً يمكن أن يحدث فرق ويخلق عالم أكثر عدلاً وشمولاً ومساواة”.
وفيما يتقافز معدل التضخم في السودان بحسب الجهاز المركزي للإحصاء خلال أغسطس وسبتمبر واكتوبر، من 167٪ الى 212٪ الى 229٪ على التوالي، ومحالاً بصورة مباشرة الى قفزات موازية في أسعار السلع الغذائية وإيجار العقارات وتعرفة المواصلات، والخبز وغاز الطبخ والدواء، في ظل وحشة واستحالة العيش بالنسبة للآلاف اللاجئين الاثيوبيين في السودان في ظل واقعه الإقتصادي الراهن، وموجات مستمرة ومتدفقة عابرة للحدود، للآلاف الفارين من سعير الحرب وآلتها المستعرة بإقليم التقراي وما جاوره من بقاع، يختفي وجه سارة، السيدة المتحدرة من إقليم تقراي، من تلك الزاوية بالميدان الذي يتوسط الخرطوم بحري.. وتبقى أدوات عملها من كراسي ومواقد فحم تحت تلك الشجرة، شاهدةً على غياب شمس اللاجئين الى أقصى تراجيديا التقراي.