الجيش الاريتري وتهم ارتكاب فظاعات في تقراي !! بقلم / فتحي عثمان
6-Mar-2021
عدوليس
في السنة الثانية والأخيرة من امتحانات الماجستير، خاطبنا أحد الأساتذة مودعا: ” لقد تعلمتم معنى الحروب ومآسيها، فأخرجوا الآن للحديث عن السلام ومحاسنه.” وبقدر ما بدت نصيحته أبويه حادبة فقد كانت أيضا تعكس روح الثقة في التأهيل الذي قدمه المقرر المستحدث في الجامعات حينها، وهو تخصص دبلوماسية السلام والتنمية المستدامة، وهو تخصص يقوم على إعادة بناء المجتمعات بعد الحروب عبر استخدام المناهج المتداخلة: الدبلوماسية والقانون الدولي الإنساني “إتفاقيات جنيف لحماية المدنيين أثناء النزاع المسلح والبروتوكولات الإضافية” والعلوم الإنسانية. واستجابة لنصيحة معلمي سأقدم مساهمة تحت عنوان المقال أعلاه، وهي ليست مساهمة العالم الخبير، ولكن جهد الطالب الفكير.
قبل الحديث عن مزاعم واتهامات حول جرائم الحرب في التقارير الإعلامية نذكر بالمقولة القديمة: “عندما تبدأ الحروب تكون الحقيقة هي أول الضحايا.” والاتهامات المتبادلة بين أطراف أي صراع هي أدوات للحرب، وسوف تظل كذلك ما دامت الحروب. الاعلام يستقي معلوماته من شهود، أو حتى من ضحايا، ذوي مصالح وأهواء وميول ولهم رأي في الحرب وهم أخيرا بشر من لحم ودم. الصحافة الاستقصائية المحترفة وحدها تبدو القادرة في أوقات الحروب على الاقتراب من الحقيقة بتجرد وشجاعة مثل اكتشاف مجزرة ماي لاي التي ارتكبها الجيش الأمريكي في فيتنام في نهاية ستينات القرن الماضي، والتي كشفها تحقيق صحفي جرئي.
ولأن الصحافة الاستقصائية تجمع بين مخاطر البحث والتقصي ومهارات التحقيق البوليسي، فهي الأقدر، وبمواصفات خاصة، على كشف الانتهاكات والجرائم. لذلك لا يمكن التعامل مع التقارير الإعلامية السائدة بالتقبل الأعمى. أما تصريحات المسئولين الكبار في الدول: وزير الخارجية الأمريكي، وزير خارجية فنلندا، مفوضة الشئون الإنسانية في الاتحاد الأوروبي فهؤلاء يضيفون بعدا استخباريا إلى معلوماتهم، وتظل معلوماتهم أيضا محل نظر وفحص. لهذه الأسباب نضع ما ينسب إلى قوات الدفاع الارترية حتى الآن في خانة المزاعم والاتهامات، عملا بقاعدة المتهم برئي حتى تثبت ادانته. ولن تنجلي حقيقة الاتهامات إلا بتحقيق شامل وشفاف ومستقل ومحترف ومدعوم بإرادة سياسية ثابتة حتى لا ينتهي في سراديب النسيان.
ونسأل بمعايير الفحص والموازنة: “ماهي العوامل التي تدفع الجيش الارتري لارتكاب فظاعات في إقليم تيغراي؟ ونجمعها، ولا نحصرها في العوامل التالية، استرشادا بنصيحة الأستاذ.
عامل دخول الحرب:
دخل الجيش الاريتري الحرب في إقليم تيغراي بدافع وأوامر شخصية من الرئيس والقائد الأعلى لقوات الدفاع الارترية. دوافع الرئيس من خوض غمار الحرب هي الثأر والانتقام، فإذا كانت هذه هي الدوافع فليس هناك ما يمنع قادة الجيش والجنود من ارتكاب الجرائم؛ وفي هذه الحالة بالذات ستحظى الفظاعات التي يرتكبها هؤلاء بالثناء والمدح والمكافأة بل والتغطية عند الحاجة.
طبيعة الجيش الاريتري:
تقوم قوات الدفاع الاريترية، والتي عمادها الجيش الشعبي لتحرير ارتريا على الولاء الأعمى والعسكرة الصماء، وهذا سر نجاحه في حرب التحرير. ويبنى الجيش على تراتبية صارمة وانضباط حازم وتنفيذ للأوامر دون نقاش، وفي العادة يتحمل القادة، لا الجنود مسئولية القرارات، مما يقتل روح المبادرة ويخلق جرأة واعتمادية لدى الجنود بمعرفتهم أنهم غير محاسبين عن أعمالهم. ليس في قوات الدفاع الارترية فرع للقضاء العسكري، فالبلاد نفسها لا يحكمها القانون فمن الطبيعي أن تغيب المساءلة العسكرية القانونية في حال وجود انتهاكات لحقوق الانسان او ارتكاب جرائم أثناء الحروب، وهذا يسمح بالإفلات من العقاب حتى لدى متخذي القرار العسكري. ويسجل التاريخ انتهاكات وجرائم لا حصر لها لضباط وجنود الجيش الارتري داخل البلاد ويستطيع أي شاب وشابة ارترية ممن أجبروا على الخدمة العسكرية تقديم العشرات من أمثلة الانتهاكات المتنوعة مثل التعذيب والسجن والاغتصاب والتصفيات.
التميز في الانتهاكات:
للتذكير فقط تصادف كتابة هذا المقال الذكرى الثالثة والأليمة لاستشهاد المقاوم التسعيني موسى محمد نور في سجون يحرسها أمن وجيش الطاغية، حيث استشهد في الثالث من مارس 2018. وهذه جريمة واحدة من سيل من الجرائم ضد المواطنين. ولقوات الدفاع الاريترية والأمن الاريتري تاريخ طويل من الإجرام يخدم مهارات ارتكاب الجرائم والتستر عليها والإفلات من العقوبة.
طبيعة الحرب في تيغراي:
أول ضحايا هذه الحرب هم اللاجئين الاريتريين في تيغراي. بين ليلة وضحاها أصبح هؤلاء مكشوفين أمام نفس القوات التي فروا من جبروتها في بلادهم؛ ولأن حكومة إقليم تيغراي التي كانت توفر لهم الحماية مع الأمم المتحدة زالت عن الوجود.فإن إختفاء هذه الحكومة أزال العوائق أمام القوى العسكرية الجديدة: مليشيات الأمهرة، الجيش الاريتري، والجيش الاتحادي الاثيوبي ومنحها حرية التحرك والتصرف بدون محاسبة او رقابة في ظل التعتيم الإعلامي المفروض على الإقليم مما يمهد الأرضية لارتكاب جرائم وسط شعور بالقدرة على الإفلات من العقوبة. قوات الدفاع الارترية تنظر للاجئ كخائن لأنه فر من خدمتها وقوانينها، ومما يضاعف الاتهامات بالخيانة هو اختيار اللاجئ او اللاجئة لتيغراي العدو الأول للشعب في عرف الحكومة، فإذا كانت الحكومة الارترية وسفاراتها تعتبر اللاجئ في أوروبا خائن على سبيل المثال، فكيف يمكن لها أن تعامل اللاجئ أو اللاجئة الساكن تحت حماية “الوياني”؟
وعي الجنود والوازع الأخلاقي:
ومثل الحقيقة فإن الفضيلة والأخلاق هي الضحية التالية للحروب. أن الحروب لا تخاض بواسطة القيم والأخلاق، وإلا لما كانت صفتها وديدنها الدمار والموت. وحتى جنود الدول العظمي لا يكونون مدركين تماما للجوانب القانونية المعقدة لأفعالهم عند ارتكاب جرائم ضد المدنيين، مثال الجنود الأمريكان في سجن أبو غريب، فما بالك بجيش جزء كبير من جنوده وحتى قادته لا يقرأ ولا يكتب. أما القول بمثالية الجندي الارتري وقيمه النبيلة أثناء الحرب فليعرف القائلون بذلك بأن هذا الجيش لا يقاتل مثل قتاله أيام الثورة لحماية شعبه ضد عدو فاتك، بل هو يحارب العدو ذاته ولن يتعامل بالمثالية والفضائل المتوهمة. وكما قال بنجامين دزرائيلي: “عندما يكون الناس أنقياء فلا فائدة للقوانين، وعندما يكونوا فاسدين فإنهم ينتهكون القوانين.”
ولو كان المتحاربين يحمون المدنيين في تطاحنهم الفتاك لما كانت هناك حاجة للقانون الدولي الإنساني.
هل تؤكد العوامل أعلاه ارتكاب قوات الدفاع الاريترية لفظائع في تيغراي؟
أولا لا نميل إلى ابتلاع ادعاءات واتهامات الآخرين جزافا ودون تحري، فأغلب الاتهامات تأتي من أطراف تعتبر “معادية” لقوات الدفاع الاريترية، ثانيا، وكما أسلفنا فإن أي اتهامات بارتكاب جرائم حرب وانتهاكات حقوق انسان، قد يكشفها الإعلام، ولكن لا تثبتها سوى التحقيقات ذات المواصفات القانونية الصارمة. وهدف هذه المساهمة هو كشف السياق والسلوك للمتهم وهو الوسط الذي يتم فيه جمع أدلة الإدانة او البراءة، وهذا السياق هو دخول قوات الدفاع الارترية الحرب وتطاول أمدها وتعقد ملابساتها، وقرار دخول الحرب وتجاوز اول نقطة للحدود بعد استرجاع الأراضي الاريترية جعل من هذه القوات ضحية للنيران على الأرض وللاتهامات الدولية المتتالية، وها هي الأنشوطة تلتف حول رقبة الجندي الارييتري وقائده.
ومن الراجح وضمن تداعيات هذا السياق أنه إذا حانت لحظة محاسبة ومساءلة قائد هيئة الأركان لقوات الدفاع الارترية الجنرال فلبوس ولد يوهنس فسوف ينبري للدفاع عنه عدد مقدر من الناس باعتبار أنه الفارس “قاهر الوياني” وسوف تستميت فئة ما في تبرئته من أي جرائم في تيغراي في حال ثبوت التهم عليه، أما جرائمه في اريتريا فقد تم غض النظر عنها منذ وقت طويل لأنه برى سيفه وخرج للدفاع عن سيادة الوطن.
إن الباب الذي ستهب منه كل العواصف ضد ارتريا وجنودها هو قرار المشاركة في الحرب بغرض الثأر والانتقام ولا لأي شيء آخر سوى ري غليل حاكم أسمرا وفي هذا دافع كبير لارتكاب فظاعات في الحرب الحالية.