كإنبثاق المعجزة …… كهطولها ! بقلم / عبد القادر حكيم *
5-Apr-2021
عدوليس
لطالما ظل التوثيق هاجساً يؤرق الكثير من الإريتريين والإرتريات من مناضلين وكتّاب وصحفيين والسواد الأعظم من أبناء وبنات هذا الوطن الذي قاومت شعوبه قوى الإستعمار في مختلف الحقب التي امتدت لقرون خلت. إذن وإن ظل ذلك الهاجس يؤرق مضاجعنا بما يشكل قلقاً مزمناً مخافة أن يضيع ذاك التراث البطولي/ الابداعي/ الإنساني كافة، بعدم التوثيق له؛ إلا أن ذاك القلق كانت تحد من شدته عدة محاولات إمتدت خلال فترة الكفاح المسلح بواسطة أقلام مناضلين وقادة خبروا المعارك ودوّنوا يومياتهم.
سأحاول الكتابة، هنا، عن احدى الشخصيات الوطنية، والتي لعبت دوراً كبيراً في العمل السرّي لجبهة التحرير الإريترية، في منطقة حلحل ومناطق وبلدات أخرى عمل بها خلال تنقلاته؛ وعلى نحوٍ خاص في حياة أسرتي التي أنتمي إليها؛ أسرة إدريس حكيم. ولأنّي لم أجلس إلى الراحل محمد إيمان، وهذا إسمه، وأكتب أو أسجّل يومياته، فإنني سأعتمد على إفادات أشقائي الكبار، الذين حكوا لي، من الذاكرة، أحداث جسام تعرضوا لها وسائر سكان منطقة حلحل، في مجزرة حلحل، أو كما يتم الإشارة إليها من قبل سكان المنطقة بـ ( حريق حلحل).. وعن دور الراحل محمد إيمان في إنقاذ حيواتهم. ولسيرته الحسنة في حلحل، يذكره الجميع ممن عاصروا تلك الفترة بالخير ، ويشهدون له بصفاته التي تحلّى بها من شجاعة ومعاملة طيبة. ويضيف أفراد أسرتي الذين عاصروه، والذين ربطتهم بالراحل علاقة وطيدة، امتدت إلى سنوات عدة بعد أن طاله وأسرته خيار اللجوء، أسوة بالسواد الأعظم من الشعب الإرتري، يضيفون إلى تلك الصفات حسن التدبر والإقدام والذكاء.
بلغ المد الثوري أوجه في فترة الستينات وذلك نتيجة تراكم نوعيّ لسنوات النضال السياسي في الخمسينيات، كأحزاب الكتلة الاستقلالية وتنظيم حركة تحرير إريتريا وانتشارها في كل بقاع الوطن عبر خلاياها السرية المعروفة بالمجموعات السباعية، وكذلك بتأثير مباشر ويوميّ لمجريات الكفاح المسلح؛ ولذلك، نجد أنّ ذلك المد الثوري المتعاظم كان يواجه بمحاولات قمع مستمرة من قبل سلطات الاحتلال الإثيوبي، إذ شهدت تلك الفترة اعتقالات وتصفيات جسدية على قارعة الطرق، ومجازر مروعة، يربط كثيرون بينها وبين انشقاق قائد المنطقة الخامسة ( ولداي كحساي) وتسليم نفسه إلى العدو الإثيوبي. هذا وكان الهدف من تلك المجازر هو إيقاف ذلك المد الثوري المتعاظم مرّة وإلى الأبد. لكن، وبالرغم من تلك الانتهاكات التي يندى لها جبين البشرية، والتي تعرض إليها الشعب الإريتري الأعزل، فإنّ قبس الثورة ظل مضيئاً وجذوتها ظلت مشتعلة، لأنّ الثورة الإرترية كانت قادرة وباستمرار على تغيير خططها وابتكار أساليب فعالة، عملية، موحية وموجعة.
حريق حلحل:
كانت التقارير التي جمعت بواسطة الأجهزة الأمنية للاحتلال الإثيوبي، عن سكان منطقة حلحل، منتصف الستينات مزعجة للغاية، فبقدر ما كانت المنطقة صغيرة وتتوفر على عدد سكان أقلّ؛ فقد كان لا يكاد يخلو بيت لم يلتحق أحد أبنائه بالثورة. ولذلك، قرر المستعمر الاثيوبي الغاشم والهمجيّ بكل الصلف والخسة التي ورثها عن أسلافه الطغاة، تدمير المنطقة تدميراً كاملاً؛ حرق قراها وقتل إنسانها وسلب ونهب ماشيتها. الجدير بالذكر أن منطقة حلحل تعرّضت لمجزرتين إثنتين، تفصل بين الأولى والثانية ثلاثة أعوام فقط، كانت الأولى عام 1967، وهي ستكون محور حديثي، والأخرى كانت عام 1970م.
في ذلك اليوم المشؤوم، قدمت قوة تابعة للجيش الإثيوبي، والمعروفة بـ ( طور سراويت) من مدينة كرن عاصمة إقليم سنحيت، والتي تبعد عن حلحل بنحو 25 كيلو متر،، صعدت تلك القوة إلى هضبة حلحل، مدججة بالأسلحة، وحال وصولهم إلى حلحل قاموا بالانتشار حول قراها، في تشكيلات كان واضحاً منها أنهم يتأبطون شرّاً.. فما كان من محمد إيمان، عضو قوات الكوماندوس، إلاّ أن جاء إلى دارنا، وطلب من والدي أن ينفد بجلده هروباً إلى كرن قبل أن يستفحل الأمر، ووضع له خطة الهروب، كان قد جلب له معه ( كاب) رمادي اللون، وطلب منه أن يضعه على رأسه بدلاً عن العمامة التي يستعملها عادة، كمحاولة ذكية للتنكر، وأن يأخذ معه إحدى مريضاته ويدعي أن حالتها الصحية حرجة وتستدعي نقلها فوراً إلى كرن لتلقي العلاج – صادف أن كانت إحدى قريباتنا مريضة وموجودة معنا بغرض العلاج – وأن يذهب مباشرة إلى موقف المواصلات، يقع على مسافة أقل من مائة متر من دارنا، وأن يصعد ومريضته المزعومة إلى شاحنة كبيرة صادف تواجدها هناك. تحركت الشاحنة إلى كرن، وبعيد مغادرة والدي البلدة بما لا يزيد عن ساعة واحدة، كان الحريق قد اندلع في أطراف البلدة، تم قتل بعض من تصادف وجودهم في الأنحاء،، ثم وخلال ساعات قليلة، عند منتصف النهار قدمت قوة أخرى، أكبر من الأولى وأكثر تسليحاً ووحشية، وقاموا بإضرام النيران وأطلاق نيرانهم على كل من يتحرك إنساناً كان أو حيواناً، وجاءت مجموعة منهم إلى دارنا، وأرهبوا جميع من في الدار، سألوا عن والدي، ودخلوا إحدى الغرف فوجدوا أحد أقاربنا ويعمل مساعداً طبياً في بلدة ملبسو القريبة من حلحل، وقاموا بترويعه، سألوه: ” من أنت؟ ” فأجاب : ” أنا طبيب ” فاعتقد قائد القوة أنه المطلوب، أي أنه والدي، فقام بتلقيم مسدسه، وصوبه تجاهه لقتله، ولكن تدخل أحد الأدلاء أنقذ حياته، إذ صاح : هذا ليس حكيم حلحل، بل حكيم ملبسو، وإذ ذاك سأل القائد : ” وأين حكيم حلحل إذن؟ ” فأجابه محمد أمان : بأنه ذهب إلى كرن مصطحباً مريضة كانت بحاجة إلى اجراء عملية،، فصاح القائد : ” حتى ولو ذهب إلى كرن فإننا سنجده ونقتله. بعد ذلك انسحبت القوة خارج دارنا، ورجع محمد إيمان إلى المعسكر، الذي يقع خلف دارنا بمسافة تقريبية هي مائتي متر. وبينما هو في منتصف تلك المسافة، هجمت على دارنا قوة أخرى،، كان هدف تلك القوة هو النهب وحرق الدار على ساكنيها، وبعد أن قاموا بترويع اخوتي، صعد أحدهم إلى قطية كانت تستخدم للضيوف، ممسكاً بيده علبة ثقاب، وإذ ذاك صاح أحد اخوتي بمحمد إيمان، الذي التفت ورأى الجندي، صاح به أن ينزل من هناك، ورجع راكضاً إلى الدار، ثم وجه إليه سلاحه مباشرة بعد أن قام بتلقيمه، وصاح به: ” تنزل أو سأفرغ هذا على رأسك”.
نزل الجندي واشتبك معه في معركة كلامية، قائلاً له :
” إنك تمنعني عن أداء عملي، وأن التعليمات تقول بإحراق جميع البيوت بلا استثناء..”
يقاطعه محمد إيمان:
” هذه الدار هي لحكيم البلدة.. بمعنى أن الرجل يعمل موظفاً في الدولة ولا يحق لك إحراقها، وإذ ذاك عوى الجندي الأثيوبي، فتجمّعت شرذمة منهم في الدار، فدخل محمد إيمان في مساومة معهم، قائلاً :
” لكم أن أحرقها بنفسي بعد مغادرة أفراد الأسرة ” .
وهكذا خرج أفراد أسرتي على شكل مجموعات؛ في البدء أختي الكبرى، زوجة الشهيد هنقلا برفقة إثنين من إخوتي الكبار، وتوجهوا إلى موقف السيارات واستقلوا شاحنة كبيرة، وجدوا بها موطأ لأقدامهم بصعوبة.. كان الموقف عصيباً جداً، إذ أن الحرائق كانت مستمرة في أطراف البلدة.. سائق الشاحنة استغل توجه قوات الجيش إلى القرى المحيطة بالبلدة، فتحرك صوب كرن، نزولاً عبر الطريق الرئيسي. والدتي ومعها بقية إخوتي استقلوا شاحنة تابعة للكنيسة الكاثوليكية.. وتوجهوا صوب مدينة كرن؛ وهناك إلتم شمل الأسرة، ومكثوا بحي ( بَتّريَت) زهاء ثلاثة شهور.. نُقل والدي خلالها إلى مدينة تسني الحدودية، ثم ما لبثت أسرتي أن التحقت به.
هنقلا وإيمان:
كان القائد الشهيد إدريس هنقلا، في بداية التحاقه بجيش التحرير الإرتري، كثير التردد إلى مسقط رأسه حلحل، في مهمات عمل، بعضها كان بهدف جمع المعلومات الاستخبارية عن العدو، وكذلك بغرض جلب بعض المواد التموينية؛ وهي وسيلة كانت شائعة في تلك الفترة المبكرة، نسبياً، من فترات الكفاح المسلح، ومعظمنا قرأ في أدبيات جبهة التحرير الإرترية، المواقف التي تعرض لها الشهيد القائد آدم قلوج بسبب تردده المستمر إلى بلدته قلوج. كذلك كان دخول وخروج القائد الشهيد إدريس هنقلا إلى حلحل متسللاً ينطوي على كثير من المخاطر، فكان الراحل محمد إيمان يقوم بمهمة المراقبة – كما هو المصطلح في الاستخبارات العسكرية – لتسهيل دخول وخروج آمن للشهيد هنقلا.. كان محمد إيمان في الموعد المحدد لدخول هنقلا إلى حلحل، والذي كان عادة حوالي الثامنة مساء، يقوم باستلام وردية الحراسة ليلاً، بحكم رتبته العسكرية كضابط صف في قوات الكوماندوس، ويقوم بتسليم المهمة إلى أحد مرؤوسيه في صباح اليوم الثاني، بعد التأكد من خروج الشهيد. هنالك الكثير من المواقف الصعبة التي حدثت أثناء ذلك، لكن، في إحدى المرات كاد أن يُكتشف أمر الشهيد هنقلا، إذ أن أحد عناصر البوليس كان قد لاحظ صعود شخص ما إلى جبل ( ييطَقب) في ضاحية ( أرئس) حيث تسكن هناك بعض الأسر من عائلتي.. جاء الشرطي برفقة قائده إلى محمد إيمان وأخبراه بالمعلومة، وطلبا منه تشكيل قوة ومداهمة المكان، إذ ربما يكون ذلك الشخص الذي تم رصده، هو المتمرد إدريس هنقلا، وإذ ذاك أُسقط في يد محمد إيمان!.. وأخذ يفكر بسرعة عن كيفية التصرف والخروج من المأزق.. ولو لم يكن رجلاً رابط الجأش لانكشف الأمر ولوقع ما لا يحمد عقباه.. تظاهر أمام الشرطيين بالغضب، وتحدث بحماسة عن ضرورة المداهمة والقبض على ذلك المتمرد، فيما كان عقله في ذات الوقت عبارة عن آلة تفرد الأفكار، تفرزها، تربطها أو تهرسها.. وكما تمّ رصد ذلك الشبح الصاعد إلى جبل ييطقب، تلك الليلة، والذي لم يكن غير الشهيد هنقلا نفسه، عن طريق الصدفة، جاء المخرج من تلك الورطة عن طريق الصدفة أيضاً؛ لكن لعب فيها ذكاء ورباطة جأش الراحل محمد إيمان دوراً مهماً في اقتناص تلك الصدفة والاستفادة منها.. تحركت قوة من الكوماندوس وبعض عناصر الجيش مدججة بأسلحتها الآلية صوب الجبل، في الطريق، وكسباً للوقت، طلب منهم محمد إيمان التريث قليلاً، لأنه من الممكن ألاّ يكون المتمرد لوحده، قد تكون معه مجموعة، وأنه من الجائز أن الشرطي وقعت عيناه على الشخص الأخير، إستجابوا لطلبه، فمكثوا قليلاً بالقرب من ( ماي كِلِم ) وهو موقع لبئر ماء.. أثناء ذلك مرّ على مسافة منهم عمّي حمد سلمان.. وبالرغم من الظلمة الخفيفة التي بدأت تغبش الرؤية فإن محمد إيمان الذي بدا ساعتها كالباحث عن معجزة ، خمن من يكون ذلك الرجل !! .. وهنا رقص قلب محمد إيمان طرباً!.. يا لمحاسن الصدف!.. صاح به، بلغة التقريت، التي كان يجيدها بطلاقة.
” يا حمد سلمان، نحن قادمون إلى داركم لكي نحتسي القهوة،، قوموا بإعدادها فوراً “..والتقط على الفور عمي حمد سلمان، الشفرة!!.. ولأنه كان به عرج نتيجة إصابة قديمة في إحدى ركبتيه، فقد قام بإرسال أحد صبيان العائلة، كان برفقته، بأن يسرع في الصعود إلى الجبل وإخبار الأهل بضرورة هروب هنقلا بأقصى سرعة!.. وأنّ الإثيوبيين في طريقهم للقبض عليه، تسلل هنقلا هبوطاً من الجبل في اتجاه عكس تواجد القوة المتربصة به، سلك وادياً يؤدي إلى جبال سمر عول. حين هجمت القوة على الجبل، كان الشهيد هنقلا قد هبط من الجبل، وكان كل شيء عادياً وسط ثغاء الماعز وروائح متخالطة من روث الأبقار والبخور العدني، وكان عمي عثمان سلمان يصلّي صلاة العشاء في مصلّى جدي لأبي سلمان حاج.
تقول السيرة الذاتية للراحل المقيم محمد إيمان، والتي تحصلت عليها من إبنه أول خير، هكذا:
الإسم كاملاً : محمد إيمان عبد الله حبيب.
تاريخ الميلاد: 1935م
مسقط الرأس: قرية عدي بحايلاي بمنطقة قوحايين.
في السطور التالية، سيتولى أول خير محمد إيمان، إبن الراحل المقيم، تسليط الضوء على حياة والده بعد نقله إلى العاصمة أسمرا، يقول:
” إلتحق الوالد رحمة الله بالعسكرية سنة 1960م. أثناء خدمته تنقّل ما بين أسمرا كرن، مندفرا، نقفة، حلحل، وغيرها من المدن الإرترية. في عام 1977 هرب الوالد من العاصمة أسمرا باتجاه المناطق المحررة وهو بكامل زيه و عتاده العسكري. وخوفاً من أن يتم البطش والتنكيل بأسرته بعد هروبه، طلب من والدتي أن تذهب كالمعتاد لاستلام راتبه وان تدعي جهلها بمكان وجوده واعتقادها أنه في مهمة عسكرية خارج المدينة كما كان يحدث كثيرا. وصل الوالد رحمه الله الى مكان سيطرة الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا في ذلك الوقت، وسلمهم السلاح والعتاد. خيَّره المسؤولون ما بين الانضمام لهم في النضال أو الذهاب إلى أي مدينة محررة يختارها. إختار الوالد رحمه الله أن يستقر في مدينة كرن -التي كانت تحت سيطرة الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا – ويتفرغ لإعالة أسرته. انضمت إليه أسرته بعد رحلة محفوفة بالمخاطر يعلمها من عايش تلك الفترة.
في منتصف سنة 1978 بات واضحاً أن الاحتلال الاثيوبي قاب قوسين أو أدني من إعادة احتلال مدينة كرن وأن الاوضاع على الأرض لا تسير لصالح الثوار. قرّر الوالد رحمه الله اللجوء إلى السودان؛ لأن سقوط المدينة في يد المحتل وهو فيها كان حتماً يعني إعدامه وربما التخلص من كل أسرته. وماهي إلا أيام حتى سقطت المدينة في يد المحتل.
سافر الوالد رحمة الله عليه بعد فترة قصيرة الى المملكة العربية السعودية ليوفر الحياة الكريمة لأسرته التي استقرت في مدينة كسلا بالسودان. في عام 2003 عاد الوالد ليستقر وزوجته في أرض الوطن حتى وافته المنية في صباح 08/03/2015 في مدينة كرن”.
في الختام، لا أزعم أن مقالي هذا بمثابة توثيق كامل لحياة الراحل محمد إيمان، ولدوره الإنساني البطولي في تلك الحقبة من تاريخنا، والتي ما يزال معظمها شفاهياً، لم ينل حظه من الكتابة والتنقيب والتدقيق، ومن المهم أيضاً أن أشكر من ساعدني على كتابة هذا المقال المتواضع..والدتي وأختي الكبرى، وإخوتي محمد وعبد الله، والخال سعد دين سمرة، وإبن الراحل/ الأخ أول خير محمد إيمان.
رحم الله فقيدنا العم محمد إيمان حبيب، وأسكنه فسيح جناته.
ــــــــــــــــــــــــــ* عبد القادر إدريس حكيم قاص إريتري مقيم بكندا.