الاقتصاد الاريتري.. هل هناك اقتصاد دولة ؟ بقلم/ صالح م. تيدروس
21-Aug-2016
عدوليس ـ ملبورن
عندما نتحدث عن الاقتصاد على اي مستوى كان، حتى على مستوى الفرد او الاسرة فاننا نتحدث عن شيئين اساسيين يكونان عناصر المعادلة الاقتصادية ، وهما الدخل والصرف او فلنقل : العائدات والانفاق. واذا كان الحديث عن اقتصاد الدولة فان الدخل او المدخولات تتكون من كل منتجات السلع والخدمات وعائدات التصدير والرسوم الضريبية والجمركية ورسوم الخدمات وتحويلات المغتربين والهبات والدعم الخارجي، اما الانفاق فيشمل الاجور والمرتبات والانفاق على المشاريع الخدمية والانتاجية و الضمان الاجتماعي. ولنبدا بالشق الاول من المعادلة اي المدخولات: ففي ارتريا توقف الانتاج منذ عدة سنوات ونكاد نجزم بانه لا توجد في الوقت الحالي مؤسسة انتاجية او مصنع يعمل بشكل سلس او طبيعي وفق معادلة الربح والخسارة. هذا يقودنا الى القاء نظرة على المصانع والمؤسسات الانتاجية الاريترية على كل المستويات في الوقت الراهن. ففي قطاع التصنيع مثلا توقفت مصانع دباغة الجلود والغزل والنسيج والاحذية والكيماويات مثل مصانع المشروبات الكحولية والالبان والكوكا كولا عن العمل منذ فترة طويلة جدا بسبب انعدام المواد
الاولية التي يستورد بعضها من الخارج- مع ملاحظة ان مصنعي البيرة والكوكاكولا يتم تشغيلهما بشكل موسمي لتوفير مشروبات البيرة والكوكا ايام الاحتفالات مثل الاكسبو واعياد الاستقلال ويتوقفان عن العمل في بقية العام. هذا التوقف في المصانع سواء كانت تابعة للحكومة او القطاع الخاص ادي الى فقد عشرات الالاف من العمال لوظائفهم في سوق العمل. بالنسبة للعاملين في مصانع القطاع العام يتم صرف الاجور الاسمية لهم وهم في منازلهم اما في مصانع القطاع الخاص فلا خيار آخر سوى التخلص منهم واغلاق الابواب. ففي الاحتفال الذي نظمته الكنفدرالية العمالية بمناسبة الاول من مايو عيد العمال العالمي اطلق رئيس الكنفدرالية صرخة خافتة للفت الانظار الى مشكلة سوق العمالة في ارتريا، ولكن من سيلتفت ؟ ومن سيسمع؟ لا احد بالتأكيد وهذه قصة اخرى سنعرض لها في مناسبة اخرى. المنتجات الاخرى مثل الملح والاسماك والاسمنت وكذا المنتجات الزراعية من البان ولحوم وخضروات وفواكه ايضا تعرضت الى انتكاسات كبيرة يصعب القول انها تنتج بمستوى تجاري. والانتاج الوحيد الذي يجلب العملة الصعبة الى خزينة الدولة هي المعادن مثل الذهب والزنك والنحاس الذي تحتكر انتاجه الشركات الاجنبية. على مستوى الخدمات ايضا ينطبق الحال بل وبشكل اسوء حيث لا خدمات تجلب العائدات الى خزينة الدولة ، فاذا نظرنا الى القطاع السياحي على سبيل المثال يكفى ان نشير الى ان وزارة السياحة التي تتخذ من مقار قوات حفظ السلام الدولية سابقا في حي كوريا (سمبل) مكاتب لها، اي على الطريق القادم من مطار اسمرا يلاحظ ان هذه الوزارة مغلقة الابواب طوال ساعات النهار. اما الخدمات الاخري مثل المطارات والموانئ فحدث ولا حرج ، اذا جاءت طائرة واحدة الى مطار اسمرا في اليوم الواحد فان المطار يشهد ما يشبه الاحتفال، اما الموانئ فالحال يرثى له ، ميناء عصب تم اغلاقه منذ العام 1998 عقب اعلان الحرب مع اثيوبيا بينما ظل ميناء مصوع مفتوحا بلا عمل خلال السنوات الماضية واذا استقبل سفينة واحدة خلال الشهر فان ذلك يصبح حديث المدينة. جملة القول ان الدولة لا تحصل على اي مدخولات من انتاج السلع والخدمات. مصدر الدخل الثاني لأي دولة هي عائدات الرسوم الضريبية والجمركية حيث ان الدول المتقدمة تعتمد اساسا على الرسوم الضريبية بينما تتجاهل او بالاحرى تلغي الرسوم الجمركية وخاصة بعد تفعيل قوانين منظمة التجارة العالمية، في المقابل تعتمد دول العالم النامي على الرسوم الجمركية لأنها سهلة التجميع بينما لا تملك ادوات فاعلة في جمع الرسوم الضريبية كما هو الحال في الدول المتقدمة . اين اريتريا من هذا وذاك؟ اولا ليس هناك استيراد او تصدير من والى ارتريا حيث تم ايقاف الاستيراد والتصدير بقرار من مكتب رئيس الدولة منذ عدة سنوات وما زال هذا القرار ساري المفعول . والسلع التي يتم استيرادها الى ارتريا هي تلك تشتريها شركة البحر الاحمر (09) فقط والتي يتم دفع قيمتها من نصيب ارتريا من عائدات الذهب الذي تشرف على بيعه الشركات الصينية. اما صغار التجار فيحصلون على بضائعهم عبر التهريب سواء بالبحر او الحدود السودانية او عبر التحايل وادخال السلع كممتلكات شخصية مع المسافرين في الطائرات. وبما انه ليس هناك انتاج للسلع كما ذكرنا سلفا فليس هناك تصدير بالمعنى المفهوم للتصدير عدا الذهب. اما العائدات الضريبية فهي ايضا تعاني من نفس المشكلة حيث تجمع هذه الرسوم من ايجارات المساكن ورسوم الدخل السنوي للقطاع العام والخاص وضريبة المبيعات التي تجمع بشكل غير منظم وغير مؤسسي بالاضافة الى آفة الفساد التي تستشري في جهاز جباية الضرائب . معني ذلك ان الدولة لا تحصل على اي مدخلات من الرسوم الجمركية والضريبية. المصدر الثالث والذي كان يعتبر مصدرا مهما للدخل حتى وقت قريب هو تحويلات المغتربين. لم يعد هذا المصدر كما كان في السابق وذلك لعدة اسباب ستحدث عنها بالتفصيل في سياق آخر ، اما الان فيكفي ان نشير الى ان التضييق الذي قامت به الحكومات الغربية على مؤسسة هيمبول التابعة للجبهة الشعبية والمعنية بجمع تلك التحويلات في اطار فرض الحصار على نظام اسمرا، واضطرار المغتربين الى تحويل الاموال الى ذويهم بالطرق الملتفة والسوق الاسود ، جعل هذه العائدات تتراجع بمستوى كبير. اما المصدر الرابع للدخل والذي تعتمد عليه الكثير من الحكومات والدول هو المعونات والدعم الخارجي والقروض. لسنا في حاجة هنا للاسترسال في هذا الجانب خاصة وان دولة تواجه حظرا اقتصاديا من المنظمة الاممية من يفكر في تقديم الدعم لها. حتى المبلغ الذي اقره الاتحاد الاروبي في مطلع هذا العام ما زال يراوح مكانه بعد اعتراض البرلمان الاروبي عليه. بالنسبة للشق الثاني لمكون الاقتصاد فهو الانفاق. اذا كانت الدولة لا تملك اي دخل فمن اين ستنفق على العمال والموظفين و المشاريع الانتاجية والخدمية وصناديق الضمان الاجتماعي؟ سؤال محير حقا!! ان المعادلة الاقتصادية القائلة بأن الدخل يساوي الانفاق لا يمكن تغييرها على الاطلاق. دعونا نقرب الصورة اكثر وتخيلوا معنا ان شخصا لايعمل ولا يحصل على دخل وليس هناك احد يدعمه من اين سيشتري قوته ومن اين سينفق على مقتنياته وايجار مسكنه وتسديد فواتير الكهرباء والماء؟ ربما يجادل احدهم من انصار النظام ليقول : ان الحكومة تصرف الملايين بل البلايين على الاجور والمشاريع الانتاجية والخدمات العامة وغيرها كما يتردد في وسائل الاعلام الحكومية كل يوم. والحقيقة المرة التي يصعب تصديقها هي ان الدولة لا تنفق شيئا في الاصل. واذا انفقت فهو لا يساوي اكثر من 10% مما يجب ان تنفقه. اذا كانت الاجور والمرتبات تحتل مجال الانفاق الاول للحكومة فان هولاء العمال والموظفين لا يحصلون على حقوقهم البتة. على سبيل المثال اذا كان هناك موظف له اسرة تتكون من خمسة افراد فانه يحتاج الى اثني عشرة الف نقفة على الاقل في الشهر الواحد لتوفير ادنى مستويات المعيشة لاسرته – يمكن النظر الى اسعار السلع الاساسية في الوقت الراهن ومقارنة سعر الكميات المطلوبة مع هذا المبلغ – بينما يحصل عمليا على راتب حكومي لا يتجاوز الـ 1200 نقفة اي انه يحصل على 10% فقط من احتياجاته. ويضطر الموظف في هذه الحالة للجوء الى طرق اخرى لاكمال احتياجاته مثل طلب المساعدات من اقاربه في الخارج او العمل في اشغال اضافية او التلاعب بالاموال العامة اذا وجدت الفرصة او غيرها من اساليب. ان الموظفين الذين نتحدث عنهم اقلية ضئيلة جدا من موظفي الدولة ، اما الاقلبية الساحقة فهم من منتسبي الخدمة الوطنية الذين ينالون مبلغ 500 نقفة فقط في الشهر وهو مبلغ لا يكفي حتى لتغطية تكلفة المواصلات من والى العمل يوميا. اما الانفاق على المشاريع والخدمات العامة فهو يكاد يكون معدوما ايضا، حيث ان معظم المشاريع التي يتم تنفيذها والتي تتحدث عنها وسائل الاعلام الرسمية فهي تنفذ عن طريق التشغيل المجاني لافراد الخدمة الوطنية واعضاء قوات الدفاع الارترية. بينما تقدم الخدمات العامة سواء التعليمية او الصحية او الخدمات الاجتماعية الاخري عن طريق متسبي الخدمة الوطنية الذين يحصلون على اجر مقداره 500 نقفة كما اشرنا اليه سلفا. بعيدا عن العوامل السياسية والتنظيمية يمكن ان نفهم محتوى قرار الحكومة بزيادة المرتبات لموظفي القطاع العام وفق هذا المنظور. وهي اي الحكومة ما زالت تتردد في تنفيذ القرار لانها لا تملك القدرة على تنفيذه . لقد صدر القرار في شهر يوليو 2015 ليصرف باثر رجعي بدءا من ذلك التاريخ، وعندما اقترب الوقت لتنفيذه – حيث كان من المتوقع ان يبدأ التنفيذ في شهر يناير 2016 – سارعت الى اصدار قرار عشوائي لتغيير العملة الورقية (النقفة) بحجج واهية وغير مقنعة حيث كانت العملية اشبه بعملية عسكرية وامنية بما رافقها من انتشار للجيش وقوات الامن في كل المناطق. وقد وجدت الحكومة سببا مقنعا لتأخير صرف المرتبات الجديدة للموظفين لشهور اضافية اخرى. الان عندما تناسى الناس عملية تغيير العملة بدأ الحديث مجددا عن هذا الزيادات في الرواتب والتي وان نفذت سوف لن تحل المشكلة على الاطلاق حيث ان هذه الزيادات لا تتعدي الـ 400% بينما تصل الفجوة بين ما كان يحصل عليه الموظف وما يحتاج اليه كادنى حد الى 1000%. وهذا هو السبب الذي يجعل النظام يتردد كثيرا في الايفاء بتعهداته والتي ترتبط في هذه الحالة بحياة الناس من حوله. ويطرح السؤال مجددا نفسه: من اين تحصل الحكومة على الاموال لتغطية هذه الزيادات في الاجور اذا كانت لا تملك مصادر للدخل في الاساس؟ ربما يتم طبع المزيد من العملة الورقية وربما يتم الحصول على بعض العوائد من مبيعات الذهب او ربما تدعمها الدول الخليجية ببعض الاموال مقابل استخدام ميناء ومطار عصب في الحرب على الحوثيين ولكن كل ذلك لا يشكل ضمانة لاستمرار هذه الزيادات للمرتبات ولو لعدة اشهر. هذا يدعونا الى طرح السؤال الذي اوردناه عنوانا لهذا المقال : هل هناك اقتصاد دولة في اريتريا؟ وهو سؤال جدلي نطرحه هنا لمزيد من الحوار والنقاش ولنا عودة.