الظهور الإثيوبي في جنوب الشرق الأوسط. بقلم/ د. أيمن شبانة
28-Dec-2016
عدوليس ـ نقلا عن دورية السياسة الدولية المصرية
تدور حركة السياسة الخارجية الإثيوبية، الفاعل الجنوبي في إقليم الشرق الأوسط، عبر عدد من دوائر الحركة، لعل أهمها علي الإطلاق هي دائرة القرن الإفريقي، باعتبارها الدائرة وثيقة الصلة بالأمن القومي الإثيوبي، وكذا لارتباطها المباشر بالدور الإقليمي القائد الذي تطمح إثيوبيا إلي القيام به. وإلي جانب هذه الدائرة، توجد دوائر أخري هي: حوض النيل، والبحيرات العظمي، والتجمعات الإقليمية الإفريقية، والشرق الأوسط.وهذه الدائرة الأخيرة تحديدا هي محور اهتمام هذه الورقة البحثية. وتبدو أهميتها في ضوء أن صناع القرار في إثيوبيا ينظرون تاريخيا إلي الشرق الأوسط باعتباره أحد الأقاليم المؤثرة سلبا وإيجابا في الأمن القومي لبلادهم، وذلك مقارنة بغيرها من دول إفريقيا جنوب الصحراء. فضلا عن ذلك، فقد تبلور أخيرا بعض المتغيرات التي تضفي أهمية كبري علي الدور الإثيوبي في التفاعلات الشرق أوسطية.انطلاقا مما تقدم، سوف يتم التركيز علي عدد من المحاور، هي: محددات السياسة الخارجية الإثيوبية تجاه الشرق الأوسط، وأهم المصالح الإثيوبية في الإقليم، والأدوات التي تستخدمها في هذا الصدد، وسلوك السياسة الخارجية الإثيوبية تجاه قضايا الإقليم.بالنسبة لمحددات السياسة الخارجية الإثيوبية، فهي تنقسم إلي محددات داخلية وأخري خارجية. المحددات الداخلية يأتي في مقدمتها: الوضع الجيوبوليتيكي، والمواريث التاريخية والدينية، والتعددية الإثنية، والقدرات الاقتصادية والعسكرية.
وهذه الدائرة الأخيرة تحديدا هي محور اهتمام هذه الورقة البحثية. وتبدو أهميتها في ضوء أن صناع القرار في إثيوبيا ينظرون تاريخيا إلي الشرق الأوسط باعتباره أحد الأقاليم المؤثرة سلبا وإيجابا في الأمن القومي لبلادهم، وذلك مقارنة بغيرها من دول إفريقيا جنوب الصحراء. فضلا عن ذلك، فقد تبلور أخيرا بعض المتغيرات التي تضفي أهمية كبري علي الدور الإثيوبي في التفاعلات الشرق أوسطية.
انطلاقا مما تقدم، سوف يتم التركيز علي عدد من المحاور، هي: محددات السياسة الخارجية الإثيوبية تجاه الشرق الأوسط، وأهم المصالح الإثيوبية في الإقليم، والأدوات التي تستخدمها في هذا الصدد، وسلوك السياسة الخارجية الإثيوبية تجاه قضايا الإقليم.
بالنسبة لمحددات السياسة الخارجية الإثيوبية، فهي تنقسم إلي محددات داخلية وأخري خارجية. المحددات الداخلية يأتي في مقدمتها: الوضع الجيوبوليتيكي، والمواريث التاريخية والدينية، والتعددية الإثنية، والقدرات الاقتصادية والعسكرية.فيما يتعلق بالوضع الجيوبوليتيكي، فإثيوبيا تاريخيا تعاني عقدة أنها ” دولة حبيسة “، باستثناء فترة ضمها لإريتريا (1952-1993). كما أنها ترتفع عن سطح البحر، بينما تجاورها مناطق منخفضة نسبيا. وهي أيضا تشترك في حدود يبلغ طولها (5328 كم) مع ست دول عربية وإفريقية، مما يزيد من حجم مشكلاتها مع دول الجوار. وقد أسهمت هذه العوامل في ترسخ “الإحساس بالعزلة ” لدي صناع السياسة في إثيوبيا، وصبغ العلاقات الإثيوبية مع دول الجوار بظلال من الشك والريبة، مما جعلها في حالة بحث مستمر عن توسيع دوائر حركة سياستها الخارجية، والامتداد خارج نطاق دائرة القرن الإفريقي وحوض النيل والبحر الأحمر.
أما المواريث التاريخية والدينية، فتتمثل في الصلات القديمة بين الحبشة “الاسم القديم إثيوبيا” والقبائل التي كانت تقطن الجزيرة العربية، وامتداد التأثير المسيحي والإسلامي إلي إثيوبيا عبر ساحل البحر الأحمر. فالمسيحية انطلقت من الشرق الأوسط إلي إثيوبيا، ليعتنق الإثيوبيون المسيحية، قبل كثير من شعوب العالم. ولمدة تزيد علي 1600 عام، كان بطاركة الكنيسة الأرثوذكسية يأتون من مصر إلي إثيوبيا. والإسلام أيضا، وجد الملاذ الآمن في إثيوبيا، في الوقت الذي كان يحارب فيه في الجزيرة العربية. لكن بالرغم من أن المسيحية والإسلام أصبحا جزءا لا يتجزأ من ثقافة وقيم وحضارة الشعب الإثيوبي، فإن إثيوبيا تصر علي تقديم نفسها للعالم، باعتبارها “جزيرة مسيحية وسط بحر مسلم”.
أما عن التعددية الإثنية، فيتسم المجتمع الإثيوبي بالتنوع الإثني واللغوي والثقافي، حيث يضم نحو 85 جماعة إثنية، أكبرها عددا جماعة الأورومو (40%) من السكان، وأكثرها تحكما في السلطة جماعة الأمهرة (25%)، التي تسيطر علي الحكم والسياسة في البلاد منذ عهد الأسرة السليمانية (1270م). كما توجد جماعات أخري مثل التجراي (7%)، التي ينتمي إليها نظام ميليس زيناوي، والصوماليين (6%)، والعفر (4%). كما يدين سكان إثيوبيا بديانات عديدة، أهمها: الإسلام (55%)، والمسيحية (35%)، والديانات التقليدية (8%). والأمهرية هي اللغة الرسمية للدولة إلي جانب لغات عديدة أخري.
ومع ضعف قدرة النظم الإثيوبية المتعاقبة علي إدارة هذا المجتمع التعددي، فقد حال ذلك دون تحقيق الاندماج الوطني، وأسهم في تفجر المشكلة القومية داخل الدولة، خاصة أن الدستور الإثيوبي يسمح للجماعات القومية بالحق في تقرير المصير، مما أدي إلي تنامي مطالب الجماعات المضطهدة بالانفصال عن الدولة المركزية، وهو ما يمثل تهديدا مباشرا لكيان الدولة ذاتها.
وبالنسبة للقدرات الاقتصادية، فإن إثيوبيا دولة زراعية، حيث يسهم الإنتاج الزراعي فيها بنحو 45% من الناتح المحلي الإجمالي، وتستوعب نحو 85% من الأيدي العاملة. ويعتمد دخلها القومي بالأساس علي تصدير محصول البن، الأمر الذي يجعل اقتصادها عرضة لتقلبات الأسعار العالمية، ويجعلها أيضا في حالة اعتماد دائم علي القروض والمعونات الخارجية، مما دفعها إلي تدعيم علاقاتها مع دول الخليج النفطية، وكذا إسرائيل وتركيا وإيران، من أجل سد الفجوات الغذائية لشعبها، الذي يبلغ تعداده 85 مليون نسمة، ويقبع 40% منه تحت خط الفقر.
وبالنسبة للقدرات العسكرية، فإثيوبيا هي أكبر قوة عسكرية في القرن الإفريقي، من حيث حجم القوات المسلحة، وكذا من حيث الإنفاق الدفاعي (1.2% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2009)، يليها في ذلك السودان، الأمر الذي يعطي أديس أبابا نوعا من التفوق العسكري النسبي، مقارنة بمحيطها الإقليمي المباشر، ويزيد من درجة الاعتماد عليها من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل في تنفيذ مخططاتهما في القرن الإفريقي والبحر الأحمر وحوض النيل.
وبخصوص المحددات الخارجية، فأهمها المتغيرات الراهنة علي المستويين الدولي والإقليمي. فعلي المستوي الدولي، تسعي الولايات المتحدة وحلفاؤها إلي مواصلة الحرب العالمية ضد “الإرهاب”، وتأمين الهيمنة علي إمدادت النفط والموارد الاستراتيجية، والسيطرة علي طرق التجارة العالمية، والقضاء علي بؤر التهديد الآنية والمستقبلية لمصالحها، بما يقتضيه ذلك من إعادة ترتيب الأوضاع في القرن الإفريقي والشرق الأوسط علي النحو الذي يضمن ويعظم مصالح الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، وعملائها الإقليميين.
أما المتغيرات الإقليمية، فأهمها حالة الفوضي المتنامية في الصومال، وتزايد الطموح الإريتري في القيام بدور إقليمي منافس، والتطورات الدراماتيكية في السودان، إثر انفصال الجنوب في يناير 2011، وتصاعد الصراع في دارفور منذ عام 2003، وتصاعد المشكلة المائية في حوض نهر النيل، واحتدام الجدل بشأن إعلان قيام الدولة الفلسطينية، والثورات والاحتجاجات التي باتت تموج بها المنطقة العربية.
في ظل هذه المتغيرات، تحرص إثيوبيا علي إبراز دورها كقوة إقليمية قادرة علي خدمة المصالح الأمريكية – الغربية في القرن الإفريقي والشرق الأوسط، لا سيما المصالح الخاصة بمحور واشنطن – تل أبيب، مع العمل في الوقت ذاته علي استثمار المنافسة بين أقطاب النظام الدولي في خدمة المصالح الوطنية الإثيوبية.
وقد سبق لإثيوبيا أن أدت هذا الدور بنجاح أكثر من مرة. فاستفادت في عهد هيلاسيلاسي من المساعدات الأمريكية السخية، التي قدمتها واشنطن بهدف موازنة النفوذ السوفيتي في القرن الإفريقي والشرق الأوسط. ثم ارتبطت في عهد مانجستو (1974-1991) بالاتحاد السوفيتي، الذي وجد فيها آنذاك بيئة خصبة لنشر الفكر الماركسي، مقارنة بالصومال ذات النزعة الدينية القومية. ثم عادت لتغير وجهتها شطر واشنطن، مع وصول نظام الجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب إثيوبيا بقيادة ميليس زيناوي إلي سدة الحكم عام 1991.انطلاقا من هذه المحددات، تحرص إثيوبيا علي ضمان وتعظيم مصالحها الوطنية، التي يأتي في مقدمتها: الحفاظ علي وحدتها وسلامتها الإقليمية، وتأمين منفذ مباشر علي البحر الأحمر، والاستفادة من الموارد المائية المتاحة لديها، وإصلاح أوضاعها الاقتصادية المتدهورة، وتدعيم دورها كقوة إقليمية، بما يتناسب مع ميراثها التاريخي والحضاري.
وفي هذا الإطار، تثور قضيتان متكاملتان، أولاهما تتعلق بمدي التزم النظام الإثيوبي بالمبادئ المعلنة لسياسته الخارجية، وترتبط الأخري بأثر المتغيرات الداخلية والإقليمية والدولية في سلوك السياسة الخارجية الإثيوبية تجاه القضايا الراهنة في إقليم الشرق الأسط، وفي مقدمتها: الأزمة المائية في حوض نهر النيل، ومحاربة الإرهاب، والمسألة السودانية، والبرنامج النووي الإيراني، والصراع العربي – الإسرائيلي، وأخيرا الثورات العربية الراهنة.
بالنسبة للأزمة المائية، أكدت إثيوبيا أن هذه الأزمة تنبع من اختلاف الرؤي بين دول منابع النيل ودولتي المصب “مصر والسودان” بشأن المعيار العادل لتقاسم المياه، والمشروعات ذات الأولوية في حوض النيل.
ففي حين تتبني مصر والسودان معيار “التقاسم بحسب الحاجة”، كمعيار عادل لتقاسم المياه، تتبني إثيوبيا -ومعها دول المنابع- معيارا آخر يستند إلي عاملين هما: مساحة حوض النهر الذي يمر عبر أراضي الدولة، وإسهام كل دولة في الإيراد المائي للنهر. وبالاستناد إلي العامل الأول (مساحة الحوض)، تأتي السودان في المرتبة الأولي من حيث النصيب المفترض في مياه النيل، وتليها إثيوبيا. وبالقياس إلي العامل الثاني (الإسهام المائي)، ينبغي أن تحصل إثيوبيا علي النصيب الأكبر من مياه نهر النيل، وأن تأتي مصر في المؤخرة.
كما تتقاطع وجهات النظر الإثيوبية أيضا مع مصر بشأن المشروعات المائية ذات الأولوية، حيث تعطي إثيوبيا الأولوية لصالح ثلاثة أنواع من المشروعات هي مشروعات: توليد الطاقة الكهربائية، ونقل المياه إلي المناطق القاحلة، واستصلاح الأراضي والتحول إلي الزراعة المروية. وهو ما يختلف بالطبع عن الأولويات المصرية، التي تركز بالأساس علي مشروعات استقطاب الفواقد المائية، لا سيما من منطقة السدود في دولة جنوب السودان الوليدة.
وقد بلغ الاستقطاب في الموقف الإثيوبي والمصري ذروته، مع توقيع اتفاق عنتيبي في 14 مايو2010، وتوالي انضمام دول الحوض إليه، بما يضرب الأمن القومي لمصر والسودان في الصميم، حيث إن الاتفاق الجديد يأخذ قضايا المياه إلي مسار بعيد عن مبادرة حوض النيل، الموقعة عام 1999. كما أنه يعني ضمنيا عدم الاعتراف بالحقوق التاريخية والمكتسبة لدولتي المصب بموجب اتفاقيتي 1929، و1995.
والحقيقة أن إثيوبيا تحرص علي استثمار ملف الأزمة المائية في تحقيق هدفين أساسيين، بالإضافة إلي تعظيم مواردها المائية، وهما: الهروب من مشكلاتها السياسية والاقتصادية الداخلية إلي الأمام، بافتعال أزمة خارجية مع مصر، وتأكيد قدرتها علي مساعدة إسرائيل في تحقيق حلمها باقتناص حصة من مياه النيل. ولعل في زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي، أفيجدور ليبرمان، لإثيوبيا ودول منابع النيل في سبتمبر 2009 ما يؤكد صحة هذا الاستنتاج، خاصة أنها كانت الزيارة الأولي لوزير خارجية إسرائيلي لإثيوبيا منذ أكثر من عشرين عاما.
إثر ذلك، ازداد التوتر في العلاقات الإثيوبية – المصرية، ولم تخف حدته، إلا بعد قيام الثورة المصرية في 25 يناير2011، وما أعقب ذلك من زيارات شعبية ورسمية مصرية لأديس بابا، حيث تعهد رئيس الوزراء الإثيوبي بعدم التصديق علي اتفاق عنتيبي إلا بعد استقرار الأوضاع في مصر بعد الثورة. وبالرغم من أن هذا التعهد لا يلزم إثيوبيا قانونا، فإنه بادرة ينبغي لمصر استثمارها، من أجل تصحيح مسار العلاقات السياسية والمائية مع إثيوبيا.
أما عن الدور الإثيوبي في محاربة الإرهاب، فقد حرصت إثيوبيا علي استثمار هذه القضية في دعم مصالحها الوطنية إزاء كل من الصومال وإريتريا، وكذا تقديم نفسها كحليف إقليمي قادر علي خدمة الأهداف الأمريكية في هذا الصدد.
بالنسبة للصومال، تسعي إثيوبيا بشكل دائم إلي إيجاد صومال مقسم إلي دويلات، أو صومال به نظام مركزي قائم علي توازنات هشة تجعل درجة اعتماده علي إثيوبيا كبيرة، وذلك حتي لا ينشأ فيها نظام قوي يسعي لاستعادة إقليم أوجادين، الذي سبق أن اقتطعته إثيوبيا، أو يمكنه منعها من استخدام الموانئ الصومالية، كما فعلت إريتريا، أو يطالبها بمقابل كبير في سبيل استخدام الموانئ، علي نحو ما فعلت جيبوتي. كما تسعي إثيوبيا إلي تأمين حدودها الشرقية، من خلال توقيع اتفاقيات أمنية لمراقبة الحدود مع الصومال، بحيث تتم تصفية القواعد الخلفية لحركة الأورمو، وجبهة تحرير الأوجادين، وجبهة الاتحاد الإسلامي، وهي كلها حركات انفصالية معارضة للنظام الإثيوبي، تنطلق من قواعد خلفية في الصومال.
أما إريتريا، فتحرص إثيوبيا علي تحجيم طموحاتها في القيام بدور إقليمي فاعل، يمكنها من خلاله تهديد المصالح والثوابت الإثيوبية في الإقليم، وهو الأمر الذي تبدو أهميته القصوي منذ عام 1998، الذي اندلع فيه النزاع الحدودي الإثيوبي- الإريتري.
وعلي ذلك، دعمت إثيوبيا كلا من جمهورية “صومالي لاند”، وجمهورية “بونت لاند”، وجمهورية “جنوب غرب الصومال”. كما انضمت إلي ما عرف ب- “تجمع صنعاء”، الذي ضم كلا من إثيوبيا (صاحبة الفكرة)، واليمن، والسودان، وسعي لضم جيبوتي وكينيا والصومال، والذي كان من بين أهدافه المعلنة محاربة الإرهاب، وبالطبع علي رأس أهدافه غير المعلنة محاصرة النفوذ الإريتري. كما قدمت إثيوبيا للمخابرات الأمريكية معلومات تفيد بوجود عناصر لتنظيم القاعدة في الصومال، وأن هذه العناصر تستفيد من الدعم العسكري والمادي الإريتري.
ومع تنامي نفوذ اتحاد المحاكم الإسلامية في الصومال، تدخلت إثيوبيا عسكريا -بدعم أمريكي كامل- للإطاحة باتحاد المحاكم في ديسمبر 2006، دعما لحكومة عبد الله يوسف، ثم عادت لتساند اتحاد المحاكم الإسلامية، بعد وصول قائدها شيخ شريف شيخ أحمد إلي سدة الحكم في 31 يناير 2009، وذلك في مواجهة المعارضة الإسلامية الصومالية، المتحالفة مع تنظيم القاعدة في القرن الإفريقي، والمدعومة بالطبع من إريتريا.
وبالنسبة لقضية انفصال جنوب السودان، فقد اتخذت أديس أبابا موقفا متوازنا من شمال وجنوب السودان، فأكدت حرصها علي استقرار السودان ككل، مع تقديرها الكامل لخيار الانفصال الذي اختاره أبناء الجنوب.
ويعود تفسير هذا الموقف إلي أن إثيوبيا هي دولة المقر للاتحاد الإفريقي، ومن ثم فهي لا تريد الاصطدام بالخرطوم، أو بالحركة الشعبية. كما أنها ترتبط بعلاقات ومصالح متميزة مع كلا الطرفين، فهي تحصل علي النفط السوداني بمزايا تفضيلية، وتستورد احتياجاتها من البضائع والسلع عبر ميناء بورتسودان. وترتبط مع السودان في مشروعات للربط الكهربائي، وشبكات الطرق. فضلا عن أن السودان يؤوي علي أرضه أعدادا كبيرة من اللاجئين الإثيوبيين.
يأتي هذا الموقف الإثيوبي في الوقت الذي ينذر فيه انفصال الجنوب بتداعيات وخيمة علي إثيوبيا، ربما تجعلها الخاسر الأكبر، جراء هذا الانفصال، الذي من المرجح أن يسهم في تغذية النعرات الانفصالية في إثيوبيا، لا سيما من جانب جماعة الأورمو، وإقليم أوجادين، الذي يعد أبناؤه أنفسهم جزءا من الصومال الكبير. كما أن حدوث مواجهات عسكرية بين شمال وجنوب السودان من شأنه أن يدفع الآلاف من السودانيين إلي اللجوء إلي إثيوبيا، نظرا للتداخل بين قبائل “النوير والأنواك” في كلتا الدولتين. وربما تثور أيضا بعض النزاعات الحدودية بينهما، لا سيما أن إثيوبيا هي صاحبة أطول حدود مع السودان، وأن ترسيم الحدود بين إثيوبيا والجنوب السوداني لم يتم بشكل نهائي.
ولكن في تقديري أن العلاقات الوثيقة بين إثيوبيا واشنطن هي ما جعلت أديس ابابا تؤيد خيار انفصال الجنوب، علي أساس أن الولايات المتحدة في هذه الحالة سوف تكون ضامنا أساسيا للوحدة الإثيوبية.
وفيما يختص بالموقف الإثيوبي من الثورات والاحتجاجات في العالم العربي، أكد ميليس زيناوي في مرات عديدة احترامه لحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، واختيار نظم الحكم فيها. ولكنه كان أكثر تفاعلا مع الثورة المصرية، فأعلن تقديره للثوار المصريين، معربا عن أمله في أن تسهم الثورة في تقدم العلاقات بين بلاده ومصر، مؤكدا في الوقت ذاته أن إثيوبيا لم تكن لديها مشكلة مع الشعب المصري، وإنما كانت لديها مشكلة مع النظام المصري السابق، الذي يري زيناوي أن سياساته أسهمت في إيجاد أجواء من التوتر في إقليم حوض النيل.
لكن بعيدا عن هذه المواقف المعلنة، يبدو أن الثورة المصرية والاحتجاجات في المنطقة قد وضعت النظام الإثيوبي في مأزق، خاصة أنها تركزت في دول ذات أنظمة حكم قابعة في السلطة لمدد طويلة تتراوح بين العشرين والأربعين عاما، مما دفع الشعوب إلي الخروج عليها، بحثا عن التغيير. وينطبق ذلك علي حالة النظام الإثيوبي، الذي يقبع في السلطة منذ عشرين عاما، ممسكا عليها بقبضة حديدية، دون أن يقدم الكثير للخروج بالشعب من أزماته الطاحنة. بل إن العكس هو الصحيح، حيث انشغل النظام بالبحث عن القروض والمنح الخارجية، والتورط في صراعات القرن الإفريقي، إلي أن سقط في المستنقع الصومالي، وتورط في نزاع حدودي مع إريتريا.
وبالفعل، انتقلت رياح التغيير التي هبت علي الشرق الأوسط، عبر الأحمر الأحمر، لتصل إلي أديس أبابا، فتعالت مطالبات المعارضة الإثيوبية من أجل استحضار “الربيع العربي” في الإطاحة بنظام زيناوي. ودعت المعارضة إلي احتشاد الشباب والمجتمع المدني لتنظيم ما سموه “يوم الغضب” ضد النظام، أسوة بيوم الغضب في مصر والدول العربية. وبالفعل، احتشد الآلاف للمطالبة برحيل نظام زيناوي، في ميدان “ميسكل” في أديس أبابا، وغيره من الميادين العامة في البلاد، وذلك في ذكري العيد الوطني في 28 مايو 1102. بيد أن القبضة الحديدية للنظام الإثيوبي، وتشرذم المعارضة، والدعم الغربي، لايزال يعطي الفرصة للنظام الإثيوبي للبقاء والاستمرار.
أما عن الموقف الإثيوبي من الصراع العربي – الإسرائيلي، فتري إثيوبيا أن هذه القضية تثير حساسية الدول العربية، بما فيها الدول التي تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، إزاء تنامي العلاقات الإثيوبية – الإسرائيلية، والأمر ذاته ينطبق علي إسرائيل، التي ترتاب كثيرا في أي علاقات متنامية بين إثيوبيا والدول العربية.
في هذا الإطار، تتبني إثيوبيا سياسة رسمية معلنة، تري أهمية اتباع سياسة متوازنة بين العرب وإسرائيل، بعيدة عن تقلبات العلاقات بين الجانبين، وضرورة احترام حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، عبر تسوية سلمية تفاوضية للصراع. بيد أن الموقف الإثيوبي الفعلي يغلب عليه الانحياز لإسرائيل، ويبدو ذلك واضحا بالنظر إلي السلوك التصويتي لإثيوبيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة إزاء قضايا الصراع العربي – الإسرائيلي.
إذ تنظر إثيوبيا إلي علاقاتها مع إسرائيل باعتبارها “علاقات تاريخية”، وأنه باستثناء الفترة التي قطعت فيها العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين، فهي تري العلاقات مع إسرائيل “قوية وصحية جدا”، خاصة بعدما تمت تسوية المشكلات التي كانت تعرقل مسيرة هذه العلاقات، وفي مقدمتها قضية “تهجير يهود الفلاشا”، بالإضافة إلي إعادة العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين في نوفمبر1993.
أما عن التعاون الإثيوبي مع القوي الإقليمية في الشرق الأوسط، فإنه يحتل أهمية محورية في السياسة الخارجية الإثيوبية، خاصة مع إسرائيل وتركيا وإيران، ودول الجزيرة العربية.
بالنسبة لإسرائيل، أصبحت إثيوبيا أكثر اعتمادا عليها في الآونة الأخيرة في مجال الاستثمار الزراعي، والمشروعات المائية، والتجارة الخارجية، التي نمت أخيرا بين الدولتين بشكل غير مسبوق.
أما تركيا، فينظر صناع السياسة الإثيوبية إليها كسوق واسعة وقريبة، وكدولة قطعت شوطا مهما علي طريق نبذ التطرف الديني، والإصلاح السياسي، والتطور الديمقراطي، وأنها لا تشكل تهديدا آنيا أو مستقبليا للأمن القومي الإثيوبي. وبالتالي، يصبح توثيق العلاقات معها أمرا حيويا من أجل تدعيم وتعظيم المصالح الاقتصادية الإثيوبية، خاصة في مجالات التجارة الخارجية، والاستثمارات، والمساعدات التقنية، والمشروعات المائية، حيث تشترك الدولتان في الإيمان بمبدأ الاستخدام العادل والمنصف للمياه.
وعلي ذلك، أعادت إثيوبيا افتتاح سفارتها في أنقرة في عام 2006، بعد أن كانت قد أغلقت في عام 1976، لأسباب مالية. كما تبنت إثيوبيا سياسة من شأنها جذب الاستثمارات التركية إلي السوق الإثيوبية، وتقوية الروابط بين مؤسسات الأعمال في البلدين، وتطوير المنتجات الإثيوبية لتصبح قادرة علي دخول السوق التركية، والقضاء علي أي معوقات تحول دون تنمية العلاقات السياسية والاقتصادية بين الجانبين.
وينطبق الأمر ذاته علي إيران، التي تنظر إليها إثيوبيا كدولة ذات علاقات قديمة معها، وكشريك اقتصادي محتمل. كما تري إثيوبيا أن إيران لا تمثل خطرا بالنسبة لأمنها القومي، باستثناء بعض المشكلات التي يمكن أن تنجم عن الدعم الإيراني لبعض الجماعات الإسلامية التي تصنفها إثيوبيا كجماعات متطرفة.
وقد تطورت العلاقات بين الطرفين في الوقت الراهن، وانعكس ذلك في توافق سياساتهما (الرسمية) في كثير من القضايا الدولية، وفي مقدمتها القضية الفلطسنية، وقضية البرنامج النووي الإيراني، حيث أعلنت إثيوبيا في مناسبات عديدة تأييدها لحق إيران في امتلاك تكنولوجيا نووية للأغراض السلمية. كما نما حجم التجارة الثنائية بينهما من 19 مليون دولار عام 2004 إلي 35 مليون دولار عام 7002، فضلا عن الزيارات المتبادلة بين مسئولي الدولتين، ومنها لقاء وزير الخارجية الإيراني بالمسئولين الإثيوبيين، لدي زيارته أديس أبابا لحضور القمة الثانية عشرة للاتحاد الفريقي في يناير 2009.
أما دول الجزيرة العربية، فتنظر إليها إثيوبيا باعتبارها فرصة سانحة ينبغي استثمارها، كمصدر للنفط، وسوق رائجة أمام منتجاتها الزراعية، ومصدر مهم للاستثمارات الأجنبية، لا سيما في قطاعي الزراعة والري، وكشريك مهم في تحقيق الأمن والسلم في إقليمي القرن الإفريقي والشرق الأوسط.
لكن علي المستوي الفعلي، يغلب الشك المتبادل علي العلاقات بين إثيوبيا ومعظم دول الجزيرة العربية، وهو ما ترجعه إثيوبيا إلي الدور المصري، وامتداد نشاط الجماعات الإسلامية المتطرفة إلي إثيوبيا. وبالرغم من ذلك، تتمتع أديس أبابا بعلاقات وطيدة مع اليمن، وتري أنها أكثر دول الجزيرة العربية إيجابية إزاء القضايا الإثيوبية. فيما تحتل السعودية المركز الأول بين دول الشرق الأوسط كشريك تجاري بالنسبة للصادرات والواردات الإثيوبية. بيد أن انخراط دول الخليج العربي في الاستثمار في المشروعات الزراعية الإثيوبية أدي إلي انفراج ملحوظ في العلاقات بين الجانبين.
وختاما، يلاحظ أن المصلحة الوطنية الإثيوبية كانت هي العامل الحاسم المؤثر في سياستها الخارجية في إقليم الشرق الأوسط، وأن الرغبة في القيام بدور إقليمي فاعل، ومواجهة الأزمات الاقتصادية الداخلية، كانت هي العامل الأهم في هذا الصدد، وأن السياسة الرسمية المعلنة كانت تختلف كثيرا عن المواقف الفعلية، تحت إلحاح المصلحة الوطنية. بيد أن قدرة النظام الإثيوبي علي التعامل مع مختلف الأطراف في الشرق الأوسط، بما في ذلك ذات المصالح المتقاطعة، وأعني هنا إسرائيل وإيران، هي أهم ما يحسب للسياسة الخارجية الإثيوبية في الشرق الأوسط، وذلك علي خلاف نظم حاكمة أخري، ضحت بإيران والعرب والنيل من أجل إسرائيل.
تعريف الكاتب:
مدرس العلوم السياسية بمعهد البحوث والدراسات الإفريقية، جامعة القاهرة