أهمية القرن الأفريقي في حماية الأمن العربي. بقلم / حسـن مصـدق
6-Jan-2017
عدوليس ـ نقلا عن الحياة اللندنية
تعتبر الممرات البحرية من أهم المعادلات الجديدة في أمن النظام الإقليمي العربي، فهي مفاتيح التحكم الإقليمي والدولي، ومنطقة القرن الأفريقي ذات أهمية بالغة في ملفات جيوسياسية واقتصادية وعسكرية متشابكة، وتتميز جيبوتي بأهمية موقعها على الشاطئ الغربي لمضيق باب المندب، فهي تطل شرقاً على البحر الأحمر وخليج عدن، كما تطل على شبه الجزيرة العربية عبر اليمن الذي لا يبعد عن سواحلها أكثر من 20 كلم، فيما تحيط بها إريتريا من الشمال، وإثيوبيا من الغرب والجنوب، والصومال من الجنوب الشرقي، ويعد ميناء جيبوتي أهم ميناء يصل المياه الدافئة بقلب أفريقيا، ويوجد بالقرب منه ميناء دورالي الذي يؤمن عبور 30 في المئة من تجارة النفط العالمية، مما دفع جميع القوى الكبرى إلى استئجار قواعد عسكرية في منطقة أصبحت مسرحاً متعاظماً للصراع على النفوذ في بحر العرب، والساحل الأفريقي الشرقي، والمحيط الهندي، نظراً لأهمية دور الممرات والمضائق البحرية في جغرافيا السياسة الدولية، والتي أصبحت وسيلة وهدفاً في سياسات الدول الخارجية والعسكرية.
في أجندة القوى العظمى، لا يمكن فصل هذه الأهمية الاستراتيجية عن تصور أميركا للأمن البحري في القرن الأفريقي، والذي يؤمنه تأجير قاعدة عسكرية ليمونييه (قاعدة فرنسية سابقة) منذ عام 2002، حيث فاق عدد جنودها 4 آلاف، وتعد أكبر معسكر يحوي جميع التسهيلات للتدخل الميداني في منطقة واسعة تمتد من اليمن إلى مالي، وبالمقابل تدفع واشنطن 67 مليون دولار كإيجار سنوي لحكومة جيبوتي.
وبالتدريج، أصبحت جيبوتي بمثابة قوس قزح العمليات العسكرية الخاصة بمكافحة القرصنة البحرية، والسطو المسلح في خليج عدن، وبحر العرب، والمحيط الهندي، حيث عمد الاتحاد الأوروبي بدوره إلى إطلاق عملية «أتلانت يوناففور» التي تعد أول عملية عسكرية أوروبية (15 دولة) خارج حلف «الناتو»، حيث نجحت في تقليص حجم الاعتداءات على السفن من 168 في عام 2008 إلى 3 في نهاية 2014. ويتوقع أن تكون هذه العملية قد انتهت في كانون الأول (ديسمبر) 2016. بالإضافة إلى ذلك، بادرت اليابان بعد تبني عقيدة «السلام الاستباقي» إلى تأكيد مكانتها على الساحة الدولية، والاستعداد لمواجهة التهديدات التي تحيط بسفنها في البحر الأحمر، حيث فتحت قاعدة عسكرية في جيبوتي منذ عام 2010 مقابل منح جيبوتي 30 مليون دولار، وتنقل السفن اليابانية جل بضائعها عبر البحر الأحمر، ويعود إليها الإشراف على 10 في المئة من النقل البحري في المنطقة، حيث تسعى طوكيو إلى مزاحمة النفوذ الصيني المتصاعد في أفريقيا.
أما الصين فبادرت من جهتها إلى اعتبار باب المندب والبحر الأحمر من أهم الروابط البحرية في تجارتها، وأحد أهم أضلاع تقوية طريق الحرير لحماية سفنها والتواصل المباشر مع أفريقيا الجنوبية، حيث الأشغال جارية لبناء قاعدة عسكرية في عام 2017، ستضم 10 آلاف جندي.
وقد التزمت أثناء التوقيع في عام 2014 بتطوير منطقة حرة قرب ميناءي جيبوتي ودوراليه، بالإضافة إلى إقامة مشاريع ضخمة بلغت قيمتها 9،8 بليون دولار، تشمل تشييد ستة موانئ، من أهمها ميناء متعدد الوظائف في دوراليه، بدأت فيه الأشغال بالتزامن مع بناء قاعدة عسكرية لحماية نفطها الوارد من الشرق الأوسط (43 في المئة من أجمالي النفط الوارد)، وسيتوفر الميناء الذي تديره شركة صينية على محطتين تستخدمان لتصدير بوتاس إثيوبيا، وغاز منطقة أوغادين التي تستغله شركاتها في إثيوبيا، كما يجري بناء محطة أخرى غير بعيدة عن القاعدة الإيطالية، وتعتبر أكبر تجمع للإبل موجه إلى أسواق شبه الجزيرة العربية وإيران، كما تسعى إلى بناء مركبات سياحية ومخازن ومستودعات، وتنوي كذلك إصلاح خط السكك الحديدية الرابط بين جيبوتي وأديس أبابا، فضلاً عن استغلال ملح بحيرة أسال في الصناعة الصيدلية، وبناء ميناء في منطقة تاجورا، مما يعكس رغبتها في الحصول على مواقع لوجيستية هامة قريبة من ملتقى الطرق البحرية بين أفريقيا وآسيا، وغير بعيدة عن أوروبا، وذلك لحماية ثلث بضائعها البحرية التي تنقل عبر باب المندب والبحر الأحمر، وإيجاد موقع قدم ثابت قرب منطقة حيوية لتأمين احتياجاتها من الطاقة.
في البداية، كان حُلم إقامة جسر معلق فوق باب المندب يصل أفريقيا وآسيا قرب المسافة بين جيبوتي واليمن بدافع الرغبة في الحفاظ على مكانة دول الخليج العربي في توازنات القوى العالمية، لكن التدخل الإيراني في اليمن دفع دول الخليج إلى اعتراض عمليات تهريب الأسلحة الإيرانية إلى المتمردين الحوثيين، وقطع الطريق على بواخر الشحن الإيرانية التي سعت للرسو في مواقع معروفة مثل بوساسو وبربرة.
فقد اعترضت المدمرة الأميركية «يو أس أس فاراغوت» قبالة ساحل اليمن سفينة «جيهان 1»، المحملة بعدة أسلحة، وتلى اكتشاف السفينة الحربية «إيش أم إي أس داروين» التابعة للحكومة الأسترالية في 27 شباط (فبراير) 2016، أسلحة مهربة في زورق شراعي إيراني، وما تلاه من استيلاء السفينة الحربية الفرنسية في 20 آذار (مارس) على أسلحة إيرانية الصنع، بالإضافة إلى محاولات تهريب أخرى عبر الزوارق الشراعية، كشف عنها أخيراً تقرير «مركز أبحاث التسلح والصراعات»، بحيث غير الخط الخليجي مجراه للاهتمام مجدداً بمنطقة القرن الأفريقي عبر إبرام دولة الإمارات عقد إيجار لقاعدة عسكرية لمدة ثلاثين عاماً في ميناء عصب العميق، وفي مطار عصب الكبير، كما وافقت دول مجلس التعاون الخليجي على تقديم دعم مالي ومساعدات، والتعهد بتطوير مطار أسمرة الدولي، وزيادة إمداداتها من البترول والغاز الطبيعي إلى أسمرة التي تعاني من صعوبات اقتصادية.
بالتالي، كان من الطبيعي أن تحول دول مجلس التعاون أنظارها إلى القرن الأفريقي (جيبوتي، الصومال، إريتريا وإثيوبيا)، وذلك سعياً منها إلى كبح جماح التمدد الإيراني. بالمقابل، توجهت الإمارات نحو إريتريا (150 كلم شمالاً) بعد خروج القوات الإماراتية من منطقة هراموس المجاورة لمعسكر ليمونييه، وحصلت على حق إقامة قواعد عسكرية، واستعمال بعض الموانئ، كما أن إريتريا تسعى بدورها إلى البحث عن دعم عربي يقف في وجه تهديدات غريمتها إثيوبيا التي فقدت إطلالتها البحرية بعد استقلال إريتريا في عام 1993.
وكان لهذا التموضع العربي في كل من ميناء عصب، وقاعدة عصب الجوية في إريتريا، أثر كبير في نجاح القوات اليمنية في طرد الحوثيين من عدن في إطار «عملية السهم الذهبي»، وهو ما أمّن طريقاً بحرية مفتوحة بين ميناءي عدن وعصب، كما استُخدمت قاعدة عصب كمركزٍ لوجستي لتأمين وصول كتائب سودانية من مدينة كسلا السودانية إلى عصب الإريترية، ثم اسْتُخدم ميناء عصب كقاعدة لفرض حصار بحري على ميناءي المُخا والحُديدة على البحر الأحمر، وإيصال المساعدات الغذائية إلى المكلا اليمنية، فيما جرى تدريب طيارين يمنيين جدد في مطار عصب قبل نقلهم إلى قاعدة العند الجوية شمال عدن.
وتعد قاعدة عصب عمقاً جغرافياً إضافياً يمكن من اعتراض حركة الملاحة والنقل البحري الإيرانية، ويعزز منها كثيراً حصول شركة «موانئ دبي العالمية» على حق تدبير ميناء بربرة في صومالي لاند (منطقة حكم ذاتي تقع شمال الصومال)، مما يجعل دور التحالف العربي كبيراً في حماية الممرات البحرية في السويس وباب المندب، ويؤهل لاحقاً لتفعيل محور بحري استراتيجي يجمع بين القاهرة والرياض وأبو ظبي، لحماية أمن منطقة القرن الأفريقي، وشرق أفريقيا، والمحيط الهندي.
ولن تكون مساعي الدول العربية الثلاث مؤثرة في القرن الأفريقي، وتجد مكاناً ثابتاً فيه إذا لم تقف في وجه أي تقارب إثيوبي- إيراني، وذلك بتكثيف الصلة للحيلولة دون تغيير موازين اقتصادية وجيوسياسية في المنطقة. إذ لا يمكن فصل مسعى هذا التوجه الجديد الذي كان ضعيفاً في الماضي عن دعم الحضور العربي ككل في القرن الأفريقي، وقدرته على التفاعل الحذر مع ارتفاع منسوب الاختراق الخارجي بحماية الشواطئ اليمنية، وبخاصة المكلا وخليج عدن من أي تدخل خارجي معاد، وذلك بضمان عمق جغرافي بحري يمتد من شواطئ اليمن إلى بربرة، للوقوف في وجه المنافسة التركية الصاعدة (حضور متصاعد في مقديشو بتواصل شركة «البيراك» التركية، وأعمال توسعة ميناء مقديشو الدولي)، واحتواء جميع الرهانات الجيوسياسية الممتدة من إثيوبيا إلى القرن الأفريقي.
* كاتب مغربي وباحث في جامعة السوربون