القرن الإفريقي على أعتاب نظام إقليمي جديد التطورات الإثيوبية تعيد رسم خارطة المنطقة. بقلم/ خالد التيجاني النور
13-Jul-2018
عدوليس ـ نقلا عن إيلاف السودانية
(1)لعل التطورات المفاجئة والمتسارعة والجريئة الي جرت وقائعها داخلياً وإقليمياً في المائة يوم الأولى التي مرت منذ أن صعد إلي مقعد القيادة في إثيوبيا رئيس الوزراء الشاب أبي أحمد، 41 عاما، ستسجل في التاريخ أنها ستكتب بروز تحوّلات استراتيجية بالغة الأهمية، ليس على الصعيد الداخلي فحسب، بل كذلك على صعيد بناء نظام إقليمي جديد في منطقة القرن الإفريقي، وعلى امتداد جوارها الحيوي في القارة السمراء، وكذلك في منطقة الخليج العربي. فضلا عن أن توابعها الزلزالية ستفرض تغير قواعد اللعبة السياسية داخل العديد من دولها المتكلسة
(2)
حتى أشهر قليلة مضت لم يكن حتى أكثر المراقبين تفاؤلاً يتوقع أن تشهد المنطقة كل هذا الحراك بتأثير التطورات الداخلية في إثيوبيا الذي ولّده الاحتقان السياسي واتساع نطاق الاحتجاجات المتصاعدة على مدار السنوات الثلاث الماضية التي تصدرتها قومية الأرومو، التي لم تشفع لها كونها الإثنية الأكبر عدداً أن تجد فرصة في قيادة البلاد التي ظلت تاريخياً حكراً متبادلاً بين قوميتي الأمهرا والتقراي، ولم يكن أحد يتوقع أن تفتح الاستقالة المفاجئة لرئيس الوزراء السابق هايلي ديسالين في منتصف فبراير الماضي، من رئاسة الحكومة والإئتلاف الحاكم (الجبهة الثورية الديمقراطية للشعوب الإثيوبية)، الذي يقود البلاد منذ العام 1991 تحت سيطرة كاملة ل(الجبهة الشعبية لتحرير تقراي) التي كانت يتزعمها الراحل مليس زيناوي، أن تفتح باب لوصول أبي أحمد، المنتمي إلى قومية الأورومو، إلى سدة رئاسة الإئتلاف الحاكم، وبالتالي لرئاسة الوزراء، بغير سابق ترتيب ولا توقع، فقد كنت حظوظ غيره من المرشحين البارزين الأخرين الذين تداولت أسماءهم وسائل الإعلام هي الأوفر.
(3)
أبي أحمد، رجل الاستخبارات السابق القادم بقوة من المجهول لأكثر الناس، ظل ديدنه مسابقة الزمن خلال الأشهر الثلاثة الماضية منذ تسنمه المنصب وكأنه في عجلة من أمره لإنجاز أجندة مرسومة بعناية، وهو يعاجل الأوساط الإثيوبية الداخلية وكذلك القوى الإقليمية، بطرح مبادرات متعددة الواحدة تلو الأخرى في الإتجاهات كافة، على الصعيد السياسي والاقتصادي الداخلي في عملية إصلاح ومصالحة متسارعة الخطى فاجأت الخصوم في المعارضة كما أخذت الشركاء في الإئتلاف الحاكم على حين غرّة على حد السواء، بهدف تخفيف الاحتقان الداخلي بتوسيع مجال الحريات والعمل السياسي وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وتبني سياسة تحرير اقتصادي، وفك قبضة الدولة في إدارة الاقتصاد، ولم يقبع منتظراً ردود الفعل الداخلية على هذه السياسات “الثورية” التي أنهت حقبة كاملة دامت ربع قرن للسيطرة القوية التي كانت تتمتع بها “الجبهة الشعبية لتحرير تقراي”، التي طبعت بنهجها نظام الحكم في البلاد الذي قاد استقرار ونمو قبل أن يتحوّل إلى انسداد في الأفق السياسي أدى إلى فرض هذه التحولات المتسارعة.
(4)
ولم يكن النهج الجديد في السياسة الخارجية لأبي أحمد أقل شأناً في اندفاعه وجرأته من تحولاته في السياسة الداخلية، فحتى قبل أن يصل إلى مقعد القيادة كان قد أبدى نيته على تطبيع العلاقات مع الجارة الشمالية إرتريا، التي تحولّت علاقات الشراكة النضالية بين حزبها الحاكم (الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا)، و(الجبهة الشعبية لتحرير تقراي)، التي قادت لإسقاط نظام منقستو في العام 1991، وعبّدت الطريق لاستقلال إرتريا، التي سرعان ما تحوّلت إلى خانه العداء المستحكم بين القيادتين تسبّب في حرب طاحنة في العام 1998 بين البلدين استمرت لعامين تنازعاً على مناطق حدودية، كلّفت البلدين خسائر بشرية فاقت عشرات الآلاف من الضحايا ومليارات الدولارات، ولم تفلح الجهود الدولية للتوسط في إنهاء النزاع على الرغم من توقيع البلدين على اتفاقية سلام، وصدور قرار تحكيم لإنهاء النزاع الحدودي في 2002، رفضت إثيوبيا تحت قيادة زيناوي الإلتزام به، وظلت كلفة استمرار الخلافات وحالة للاسلام واللاحرب باهظة الثمن على الشعبين، في ظل محاولة كل منهما تأجيل الصراع الداخلي في الدولة الأخرى، وانتقال الصراع أيضاً إلى الجوار الإقليمي لا سيما تصفية الحسابات التي جرت بينهما على التراب الصومالي مما عقّد أزمته أكثر.
(5)
وبهذه الخلفية فقد كان العناق الحار بين الزعيمين الإثيوبي أبي أحمد والإرتري أسياس أفورقي في الاستقبال الذي جمعها في مطار أسمرا الأحد الماضي، ومظاهر الود بين الرجلين التي التقطتها المصورون، أكثر من مجرد خروج على التقاليد المراسمية فقد أكدّت أن الجميع على موعد مع نقطة تحوّل درامية في مشهد العلاقة بين البلدين، وقد كان الظن أن التصريحات المبكرة التي أدلى بها أبي أحمد لطي ملف النزاع مع الجار اللدود ستأخذ وقتاً لتأخذ طريقها إلى أرض الواقع في ظل علاقات بالغة التردي على مدار عقدين، ولم يكن أحداً يتوقع تسارع الخطوات بعد البيان الصادر عن اللجنة التنفيذية للإئتلاف الحاكم في أديس أبابا في الخامس من يونيو الماضي بالقبول دون قيد وشرط بقرار لجنة التحكيم الدولية لترسيم الحدود الذي قضى بتبعية منطقة بادمي، محل النزاع الرئيس، لإرتريا وهو ما رفضته إثيوبيا التي اعتبرته هزيمة معنوية، لا سيما للجبهة الشعبية لتحرير تقراي، وهي التي خاضت حرباً ضروساً وتكبّدت تضيات بشرية ضخمة من أجل الحفاظ على تبعيتها لإقليم التقراي.
(6)
ولعل هذا التسارع في عملية التطبيع بين أديس أبابا وأسمرا بعد اتفاق البلدين على استئناف علاقتهما الدبلوماسية إبان زيارة أبي أحمد لإرتريا سيزيد من حدة الصراع داخل الائتلاف الحاكم على خلفية اعتبار (الجبهة الشعبية لتحرير التقراي) أن القرار بشأن عملية التطبيع مع إرتريا المتاخمة لإقليم تقراي لم يتخذ بشكل “تمثيلي كامل يضع في الاعتبار انشغالاتها”، مع الإشارة إلى أن رئيس الوزراء كان قد زار الإقيم وأعلن في حشد شعبي خطته للتطبيع، ونقلت وسائل إعلام رسمية أنها وجدت ترحيباً حاراً من المواطنين الراغبين في إنهاء النزاع الحدودي العالق الذي عطّل حياتهم لعقدين، ويرى المراقبون أن ردة فعل “الجبهة الشعبية لتحرير تقراي”، العضو الذي ظل ممسكاً بأوراق اللعبة داخل الإئتلاف الحاكم لسبع وعشرين عاماً، على فقدان سيطرتها وتراجع نفوذها على هذا النحو المتسارع سيتكون عاملاً حاسماً في تحديد ليس مصير الإصلاحات التي يقودها أبي أحمد الذي يبدو أنه يحظى بتجاوب شعبي متزايد مع خططه، فحسب بل كذلك استقرار الأوضاع في إثيوبيا لا سيما وأن ثمة مخاوف متصاعدة من عواقب محاولة تغييبه عن المشهد، أو أن يقود الصراع على السلطة إلى نسف الاستقرار في البلاد.
(7)
ولعل عقايبل هذه المسألة بالذات قد تكون كعب أخيل عملية التطبيع الأثيوبي الإرتري بوتيرتها المتسارعة، خاصة وأن الرئيس أفورقي شنّ في خطابه بمناسبة عيد الشهداء في 20 يونيو المنصرم هجوماً كاسحاً على “الجبهة الشعبية لتحرير تقراي”، ووجه لها انتقادات لاذعة، وحملّها مسؤولية تردي العلاقلت بين البلدين وانعكاساته على حياة المواطنين، قبل أن يعلن أن يثمّن مبادرة أبي أحمد للانفتاح مع إرتريا وترحيبه بمساعيه للتطبيع، وهو أمر لا بد أن يكون سبباً إضافياً لإثارة حفيظة قيادة جبهة التقراي، مما يجعلها عنصر مقاومة لأي محاولة تطبيع تحاول تجاوزها، لا سيما في ظل سيطرتها على بادمي منطقة الصراع الرئيس التي طالبت لجنة التحكيم الدولية بإعادتها لإرتريا، وقد لاحظ المراقبون أن خطوات التطبيع العملية تجاوزت مسألة تنفيذ تسوية قضية النزاع الحدودي أولاً لنزع فتيل إفساد العملية، ومضت في خطوات عملية لاستئناف العلاقات الدبلوماسية.
(8)
ومجمل هذه التطورات ستنعكس بلا شك على الوضع في الإقليم، فنجاح التطبيع بين إرتريا إثيوبيا سيقود بالضرورة إلى تحسين الوضع في الصومال مع توقف الحرب عن بعد التي كان يديرها الطرفان على أرضها، كما سيقود إلى تقليل حدة الاستقطاب بين دول المنطقة، لا سيما في ظل الصراع على سد النهضة، الذي قاد القاهرة للتحالف مع أسمرا، في مواجهة ما اعتبر حلفاً سودانياً إثيوبياً، كما أن ديناميات الصراع في منطقة الخليج العربي ستتأثر حتماً بهذه التطورات، في ظل السباق الذي كان دائراً لكسب موطئ قدم في منطقة القرن الإفريقي شديد الاهمية الاسترتيجية لممر البحر الأحمر المائي. ومع ذلك تبقى الاحتمالات مفتوحة على سيناريوهات تداعي حجارة الدومينو بفعل الزلزال السياسي الذي انطلق من إثيوبيا.
(9)
ولعل السؤال الملّح الآن يتعلق بالقوة الكامنة والدافعة بقوة وراء هذه التحوّلات الدرامية، فهل هي مجرد مردود للتغيير القيادي في هرم السلطة الحاكمة في إثيوبيا، وهل هو نتيجة تغيير في أسلوب القيادة، التي حافظت على معادلات السلطة كما هي إبان حقبة زيناوي أثناء فترة هايلي مويم ديسالين، بوصول قائد كارزمي عازم على تغيير قواعد اللعبة كما يفعل أبي أحمد، هل ذلك متعلق برؤيته وقدراته القيادية الذاتية فقط، أم أن ذلك يتكامل مع تحولات جيوبولوتيكية ذات أبعاد استراتيجية أعمق لقوى خارجية ذات نفوذ تعمل على إعادة رسم خارطة هذه المنطقة الاستراتيجية البالغة الأهمية، فقد كان لافتاً في خطاب الرئيس أفورقي الذي أعلن فيه قبول المبادرة الإثيوبية للتطبيع تثمينه لعهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والتحوّلات التي أجراها في السياسة الخارجية الأمريكية، موجهاً انتقادات حادة لسياسات الإدارات الأمريكية المتعاقبة التي سبقته، ويُلاحظ في هذه الخصوص الزيارة المكوكية في أبريل الماضي بين البلدين التي قام بها الدبلوماسي الأمريكي المرموق السفير دونالد ياماموتو، الذي تصادف أن خدم بلاده سفيراً في العاصمتين أديس أبابا وأسمرا في وقت سابق، صحيح أن دولاً في المنطقة لا سيما الإمارات العربية لعبت دوراً لافتاً في جهود التطبيع الإثيوبي الإرتري، بكل محمولاته في ظل الصراع الخليجي وتحالفاته الإقليمية، إلا أن ذلك بالضرورة ليس مستقلاً عن توجهات واشنطن، وأجندة إدارة ترامب.
(10)
ويبقى السؤال أين دور السودان، الحاضر الغائب، وموقعه من الأعراب في ظل هذه التطورات المتلاحقة، فليس سراً أن علاقاته الوثيقة مع إثيوبيا خلال العقود الثلاث الماضية ارتكزت على تحالف استراتيجي متين مع القيادة التقراوية، وبالتالي فإن أية تحوّلات في موازين القوى الداخلية على حساب هذه المعادلة سينعكس بالضرورة على العلاقة مع السودان، فهل استعدت الخرطوم، إن لم تكن تحسبت بالفعل، لعواقب هذه التطورات الاستراتيجية، فضلاً عن أن علاقة السودان مع إرتريا التي شهدت تدهوراً غير مسبوق في الآونة الأخيرة كان نتاجاً للتحليل الإرتري لاختلال التوازن الذي نجحت الخرطوم إلى درجة كبيرة في المحافظة عليه لفترة ليست قصيرة إبقاءاً على حبال الود موصولة مع أديس وأسمرا في آن معاً.
(11)
ومع الأخذ في الاعتبار أن هناك لاعبون آخرون، علاقة الخرطوم معهم ليست على ما يرام، ينشطون في تحريك خيوط هذه التطورات ، فمن الواضح أن التطورات الإثيوبية الجريئة والمتسارعة تعمل على إعادة رسم خارطة المنطقة، وأن القرن الإفريقي على أعتاب نظام إقليمي جديد، ولا يبدو حتى الآن أن للسودان سياسة خارجية واضحة المعالم قادرة على حجز مقعد فاعل ومتقدم في هذه التحولات الجيوسياسة الجديدة.