جنوب السودان والحلم المؤجَّل: ملاحظات أولوية في الذكرى الثامنة (1-2) .. بقلم: ماد قبريال
20-Jul-2019
نقلا عن سودانايل
دأبت قبل أربع سنوات على كتابة مقالة توثيقية مع حلول ذكرى إعلان قيام دولة جنوب السودان، ولكن حالت كثرة المشغولات هذه المرة من إنجاز المقال في الوقت المحدد، وكذلك لإتمام قراءة بعض المصادر الأساسية قبل الشروع في إعداد المقال ونّشره. وتأتي هذه المساهمة تكملةً لسلسلة المقالات السالفة الذكر، من حيث الفكرة الرئيسية التي أحاول إيصالها، بمنظور نقدي، قائم على التزام مسبق بضرورة تدوين هذه الفترة الحرجة من تاريخنا السياسي، وحاجتنا للتوثيق المستمر لأحداث الزمن الراهن. ولابد لي من الاعتراف هنا، بصعوبة توثيق التاريخ الراهن، لسببين. أولا، لستُ متخصصًا في علم التاريخ والكتابة التاريخية. أما الثاني، لتداخل أحداث التاريخ الراهن، بالواقع الراهنة من حيث الاستمرارية، وتباين الرأي بين الذاتي والموضوعي في مثل هذه الحالات، وذلك دون الدخول في الجدل المنهجي والمفاهيمي بشأن إشكالية التاريخ الراهن عند المتخصصين.
وبدايةً، يجدر بي الإشارة في مفتتح المقال إلى مدى الخيبة الذي يُشعر به جيلنا، ونحن نرى بأعيننا، فشل التجربة في مهدها، ليس لأسباب متعلقة بعوامل ذاتية أو بنيوية خاصة بنشوء الدولة، بل لفشل القائمين عليها، منذ توقيع اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) عام 2005، وحتى تاريخ إعلان الدولة ما تلاها من إحباط، نتيجة عجز الحركة الشعبية الحاكمة من الانتقال من مرحلة الكفاح الثوري إلى مسار العملية السياسية السلمية وتداول السلطات. ويفسر البروفيسور كريستوفر كلافام هذه الظاهرة بـ”لعنة التحرير” (Liberations Curse). ويرى، بأن حركات التحرر الوطنية الأفريقية، وبالتركيز على منطقة القرن الأفريقي، سرعان ما تفشل في تطبيق برامجها المعلنة بعد انتصارها أو وصولها إلى السلطة بتسوية سياسية أو غيرها. ويستند كلافام في أطروحته على تجربة الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة الإريترية، والتي خاضعت حرب تحرير بجانب الفصائل الاريترية الأخرى، سعيًا للاستقلال التام لإريتريا من إثيوبيا. فمنذ نشوء الوعي القومي الإريتري في النصف الأخير من القرن العشرين، وتكوين الحركات القومية، ومن ثم الخيبة من قرار الأمم المتحدة بإدماج إريتريا تحت الإمبراطورية الإثيوبية، بنظام الاتحاد الفيدرالي. إذ لم يلبي هذا القرار أشواق النخب الإريترية التي بدأت بالتفكير في آليات الكفاح في تلك المرحلة، وتكوين الأحزاب الوطنية وصولًا إلى مرحلة إعلان الكفاح المسلح. وقد خاض الإريتريين حربا ضروس لأكثر من ثلاث عقود، قدموا فيها تضحيات كثيرة، إلا أن المحصلة النهائية، والمتجسدة الآن، بعكس تطلعات الشعب الإريتري، لفشل التجربة وانتهائها باستبداد الرئيس إسياس أفورقي.
إن ما أسماه كلافام بـ”لعنة التحرير”، ليست حالة خاصة بدول القرن الأفريقي، وإنما حالةٍ ضمن النماذج المتكررة التي شهدتها القارة، منذ ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، غداة نيل بلدان القارة لاستقلالها النُظري، ولجوء الآباء المؤسسون للانفراد بالسلطة، باعتبارها الوسيلة الوحيدة لتصفية الاستعمار، وبناء الدولة الوطنية الحديثة. وتمثل هذه التجارب، نماذج من الحالات الدراسية(Case Studies) التي يُدرسها طلاب العلوم السياسية المتخصصين في السياسة الأفريقية.
الإخفاق المشتركمن خلال النظر في تجارب الأحزاب التحررية التي تُولت الحكم في أفريقيا، نلاحظ الكثير من القواسم المشتركة في ما بينها، بل يمكن القول، إنها تتشابه مضمونا وشكلا في ممارستها السياسية، عبر احتكارها للسلطة بذريعة الشرعية الثورية. وبالتالي عدم فصلها بين أجهزة الدولة والحزب، وبموجب ذلك، تبعية الجيش والأجهزة الأمنية الأخرى للحزب، ولخدمة الرئيس في أحيان كثيرة. ونحن بذلك القول، لا ننكر بوجود الاختلافات بين هذه التجارب، وفق طبيعة حالة كل دولة، وبنيتها الداخلية وشبكة علاقاتها الخارجية ومؤثرات البيئة الدولية المتغيرة. وتعتبر التجربة الأنغولية والحرب الأهلية (1975 – 2002) والتي نُشبت بين الجبهة الشعبية لتحرير أنغولا (MPLA) من جهة، والاتحاد الوطني من أجل الاستقلال التام لأنغولا (UNITA) من جهة أخرى، حيث شهدت أنغولا واحدة من أسوأ حالات التدخلات الإقليمية والدولية، أبان الحرب الباردة وأسفرت هذه الحرب إلى مقتل عشرات الآلاف ونزوح حوالي 4 ملايين من سكان البلاد بحسب تقديرات الأمم المتحدة. فأدى ذلك كله، إلى إحباط مشروع الدولة الأنغولية، واستشراء الفساد في مفاصل الدولة وغياب الرؤية الاستراتيجية، وهي الأزمة التي لا تزال تعاني منها أنغولا حتى وقتنا هذا، على الرغم من مرور أكثر من أربعة عقود من الاستقلال.
وتشير الحالة الجزائرية كذلك، إلى أزمات الدولة ما بعد التحرير، فهي إحدى أشهر الحالات الكلاسيكية الصالحة لاختبار فرضية لعنة التحرير، فجبهة التحرير الجزائرية التي قالت بشجاعة المستعمر الفرنسي، إلا أنها سقطت في ممارسات الحكم، عبر هندسة الحياة السياسية الجزائرية والسيطرة عليها على مدى العقود الماضية من خلال التحالف مع الجيش الجزائري والأجهزة الأمنية الأخرى. وتشهد الجزائر الآن محاولات شعبية الخروج من دائرة هندسة المجال السياسي منذ شهر فبراير الماضي، ولا يزال الشعب الجزائري مستمرا في نضاله السلمي لإنجاز التحول الديمقراطي المأمول. وبالعودة للتجربة الإريترية، نلاحظ وجود هذه الثنائية أيضًا، بين الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة والجيش الإريتري، بحيث تتشكل هذه الثنائية المسار الإريتري منذ استقلالها عام 1993. فإريتريا اليوم دولة مغلقة، بسبب دكتاتورية أفوري، ويعاني الشعب الإريتري الويلات جراء هذه الممارسات الطائشة. وحقا للمفارقة، لم تختلف تجربة جنوب السودان، عن مصير الحالة الإريترية، سوى بقاء إريتريا تحت قبضة دكتاتورية أفورقي، المتحكم في كافة مفاصل الدولة. بينما عجز سلفاكير من التحكم باللعبة السياسية، فدخلت البلاد إلى النفق المظلم وصراعات نخب الحركة الشعبية والتنظيمات الأخرى، ما أدخل البلاد في حالة من البؤس والدمار، لم تشهد له مثيلا من قبل.
عدم تجاوز إرث التحرير
تشير الحالات المشار إليها، إلى مدى انغلاق الأحزاب التحررية، وعدم تجاوزها إرث ماضيها، للانتقال نحو المستقبل، أي التطلع والانتقال من الشرعية الثورية إلى الشرعية الانتخابية، والالتزام بالتداول السلمي للسلطة. ولعل من المهم الإشارة إلى التجربة الإريترية مرة أخرى، لأنها تمثل نموذجا لاختبار فرضية المقال الأساسية، فالصراعات التي شهدتها الساحة الإريترية منذ تأسيس جبهة التحرير مطلع الستينيات، والانشقاقات التنظيمية، جزءًا لا يتجرأ من الأزمة التي تعاني منها إريتريا اليوم. فالممارسة الإقصائية لإسياس أفورقي للتنظيمات الإريترية واحتكاره للدولة ومؤسساتها، عمقت جراحات إرث حرب التحرير، وهو العجز الذي أوضحه الناشط والكاتب الإريتري المعروف بيركيت سيلاسي Bereket Habte Selassi، في كتابه “أمة جريحة : كيف جرت خيانة إريتريا التي كانت يوما واعدة وعرض مستقبلها للخطر”، إذ تمثل شهادته في هذا الكتاب، توثيقا مهما للفترة الحرجة من عمر الدولة الإريترية. ولم يبتعد الكاتب جيام كبرياب Gaim Kibreab كثيرا عن النتائج التي توصل إليها بيركيت. ففي كتابه “إريتريا: حلم مؤجل”، نجد أيضا تأكيده على فشل دولة الرئيس أفورقي (يلاحظ القارئ اقتباسي تعبير حلم مؤجل من كتاب كبرياب). ويُحسب على النخب الإريترية في المهجر، قيامها بمراجعاتٍ نقدية لمسار التجربة من النضال، ومرورا بفترة البناء القصيرة بين 1991 و1998، وحتى تاريخ بدء الحرب الإثيوبية – الإريترية وما بعدها.
الحاجة للمراجعة النقديةوبالعودة لتجربة جنوب السودان خلال السنوات الثمانية الماضية وما قبلها، نقول بأن أي دعوة لإعادة تقييم هذه التجربة، تعتبر في رأينا ضرورة مرحلية، خاصةً في ظل حالة الجمود الراهنة التي نشهدها، وفشل أطراف النزاع من إرساء دعائم السلام، وذرع بذور الأمل في استقرار الدولة. فحالة الفشل الراهنة مردها عدم توافر الإرادة السياسية للنخب، ولنظام سلفاكير بوجه الخصوص، لتثبته بالسلطة، عبر استغلال ضعف المعارضة وتناقضاتها وإغرائهم بالسلطة والمال. ولا شك، بأننا سنشهد ذات السيناريوهات والألاعيب السياسية ذاتها، في الفترة المقبلة، فهؤلاء النخب لم يتشربوا القيم الديمقراطية، ولم يمارسوها طوال فترة الحرب وما بعدها. فعليه، من المستبعد أن يقدموا نموذجا صالحا للحكم، يمكن من خاله المساهمة في ترسيخ الاستقرار وبناء نظام سياسي قائم على الكفاءة وليس المحسوبية والعشائرية السائدة.
إن تحقيق الاستقرار المطلوب يُتطلب نهجا جديدا، وقيادات تدرك مخاطر الانسداد الراهنة، فأي حديث عن الإصلاح في الوقت الحالي، أجده أمرًا مثير للغثيان، فالحركة الشعبية فشلت في امتحان الديمقراطية، على الرغم من وجود العوامل الموضوعية لتحقيق ذلك، وإنجاز التحول من الشرعية الثورية إلى الشرعية الانتخابية، إلا أن نخب الحركة أعادوا تكرار انقسامات حرب التحرير. وكذلك، فشلت القوى السياسية الأخرى بنفس المستوى، وعجزت عن تقديم نفسها بالصورة المطلوبة. إذن، فالمطلوب من الحركة بتياراتها المختلفة، وكل القوى السياسية والعسكرية الأخرى، التُغلب على نهج الزعامة الشخصية والرغبة في تقاسم السلطة، كمتطلب أساسي يمكننا من عبور هذه المرحلة الحرجة، ونحتاج في سبيل ذلك، أن نعيد تقييم تجربتنا، حتى نستطيع تفادى الانهيار، إذا لم نتدارك مسؤوليتنا التاريخية.
m.gatwech55@gmail.com