الذكرى( 59) للثورة الإريترية المجيدة في زمن التحولات العاصفة! بقلم/ جمال همـــد
1-Sep-2020
عدوليس
بعيدا عن الإكليشيهات المعروفة والمكرورة، والمفردات الإحتفالية والتي دائما ما تنتهي مفاعيلها بإنتهاء المهرجان، تحاول هذه المقالة المتواضعة ان تحتفي بذكرى إنطلاقة الثورة الإريترية.. ذكرى الطليعة الباسلة التي أطلقت الرصاصات الأولى وإعلان جبهة التحرير الإريترية، وقوافل الشهداء والشهيدات في كل جيوش التحرير لفصائل الثورة الإريترية في مسيرة إستمرت لثلاثة عقود.لماذا إنتهت حرب التحرر الوطني إلى ما إنتهت إليه والتي يمكن وصفها بالمخيبة للآمال ..ولماذا إستمرار وقوع الحكم ودعاة التغيير تحت برثن تاريخ الصراع في مرحلة التحرر الوطني؟ بهذا السؤال المفصلي والمركب إبتدر مقالي، وأنا أعي سلفا انه شديد الصعوبة، ومع ذلك لا أملك سوى الذهاب صوب المغامرة.
للإجابة على هذا السؤال المعقد والمركب نحتاج لقراءة فاحصة وبحوث متأنية وواعية بعيدا عن الأسلوب السطحي والسياسي السائدة والتي يستهدف التعبئة وحاجة اليومي التي تحفل به المقالات والخطب السياسية ، وبيانات التنظيمات السياسية.
ومع ان هذا المقال لا يستطيع الإحاطة بالإجابة من كل جوابنها ولكنه يطرح أسئلة أكثر مما يجيب، كما يحاول تحريك المياه في البرك الآسنة والدوائر المغلقة التي تكتنف المشهد السياسي العام، خاصة في ساحة المقاومة الإريترية فصائل.. أحزاب .. تنظيمات وتحالفات وجماعات مدنية و أفراد.
إبتداء يجب ان نلاحظ ان النتيجة التي إنتهت إليها الثورة الإريترية ، قد إنتهت إليها الكثير من الثورات التحررية في فيتنام وكمبوديا في آسيا وموزنبيق في إفريقيا، هذا على سبيل المثال لا الحصر ، وذات النتيجة التي خلصت إليها الإنقلابات العسكرية في المنطقة العربية والتي تدثرت بشعارات التغيير والتحرر وتسرلبت بالإيدليوجيا الثورية ماركسية كانت أو قومية وإنتهت كلها إلى جحيم حكم الفرد والديكتاتورية.
تكتفي كل الكتابات التي تحاول الإجابة على السؤال السابق بتحميل قيادة الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا والرئيس أسياس افورقي وزر ما آلت إليه حالة البلاد والعباد وهذا أمر هين ومريح إلا انه لا يعطي إجابة ، ذلك لأنه يبتعد عن الأسباب ، وبالتالي ان هذه الإجابة المريحة سرعان ما يذهب بها الريح.
ذلك إنها تتجاهل تاريخ الصراع في مرحلة التحرر الوطني، وتبتعد عن تفكيك كل المشهد ووضعه فوق الطاولة بحثا عن إجابة شافية للخروج من هذا الوضع المأزوم !
ان الحالة المرضية التي يعيشها البلد الصغير قليل السكان ويجاور الجهة الغربية للبحر الأحمر بأطول شاطيء ، لم تكن نتيجة لسياسات الجبهة الشعبية دون غيرها ، بل هي حالة تراكم كمًي معقد لمشكلات مرحلة التحرر الوطني خلال العقود الثلاثة من عمر الكفاح المسلح والتي آلت إلى هذه الحالة المأزومة التي نعيشها الشعب الإريتري اليوم.
وهذا لا يعني انني أبرر لسياسات قيادة الشعبية وبالتحديد الجهاز البوليسي الذي كان ولا يزال يسيطر في الجبهة الشعبية بتعدد نسخة من أجهزة القمع إبان مرحلة التحرر الوطني ووصل ذروته بعد الإستقلال، ولكني اشير فقط ان تحميل الديكتاتور أسياس المسؤولية تعني قراءة غير جزئية وغير متكاملة.
ولذلك نحتاج إلى قراءة فاحصة للسنوات الأولى وأشكال الصراع بين مناضلي الثورة واسباب ذلك وطرائق الشحن والتعبئية في أوساط المناضلين لجرهم للإنحياز إلى هذا الطرف أو ذلك، وما أفرزه من إصطفافات وإقتتال ضمن قوى الثورة، وعلاقة ذلك بالإنقسام المجتمعي في أربعينات وخمسينات القرن الماضي وتداعياته بعد ذلك في مرحلة الكفاح المسلح وما بعدها وحتى الآن.
كما نحتاج بشكل خاص دراسة تاريخ جبهة التحرير الإريترية (1960 ـ 1983) دون الوقوع في براثن النوستالجيا كما هو الحال في معظم الكتابات التمجدية أو تلك التي تخوين وتحميل الآخر وتبرئية الذات، ويمكن الإشارة هنا لعدد من الكتب التي صدرت في العقدين الماضيين من قيادات عسكرية ومدنية في جبهة التحرير الإريترية، وكذلك تاريخ قوات التحرير الشعبية منذ مؤتمر ” سدوح عيلا” التحالفي مرورا بالإنقسام وبروز الجبهة الشعبية بمركزيتها شديدة الصرامة وأيديلوجيتها اليسارية التي تستند لتجارب الثورة الكمبوديه وأفكار أنور خوجا والجنرال أستالين في الإتحاد السوفيتي.
ما نحتاجه هو دراسة مراحل الثورة منذ إجتماع القاهرة وإعلان جبهة التحرير الإريترية وتشكيل المجلس الأعلى 1960 ثم إعلان الكفاح المسلح بقيادة الشهيد عواتي ورفاقه وبوادر الخلافات التي لم تخرج للعلن داخل المجلس الأعلى من جهة وبين رفاق عواتي خاصة بين العسسكريين ـ الدفعة الأولى من العسكريين الذين كانوا يحملون رتب عسكرية متقاربة في الأورطة الشرقية عرب وبعدها في الجيش السوداني ، مرورا بتجربة المناطق العسكرية والوحده الثلاثية والمؤتمرات العسكرية وأهمها مؤتمر “أدوبحا”، وقطعا ستفضي الدراسة إلى اسباب الإنقسام وما تلى ذلك من إقتتال بين قوى الثورة الإريترية.
ان عدم وجود دراسات وبحوث وتقيميات حقيقة لتاريخ الثورة الإريترية تزيد من مساحات المسكوت عنه ووضع مزيد من الخطوط الحمراء مما يؤدي لضياع الوقائع الحقيقة للتاريخ لتحل محلها تاريخ رسمي كتبه ويكتبه هؤلاء القادة لتتقاتل الأجيال حولة ولتستمر إنتاج الأزمة وان أخذت أشكال جديدة في تحالفات المقاومة أو المعارضة بنسخها المتعددة وكنت شاهدا على جزء كبيرا منها بين أعوام 1999ـ 2012م.
ملاحظة أخرى جديرة بالإهتمام هنا وهي ان الكثير من التقيميات التي تقدم للمؤتمرات التنظيمية هي من إعداد كادر سياسي غالبا ما يستبعد الحياد والصرامة البحثية لمصلحة الخطاب السياسي والتوجه الفكري الإيديولجي للتنظيم، كما انه لم يحدث ان طلبت المعارضة الإريترية بمختلف نسخها من باحث أو مثقف إريتري ان يقدم لها بحثا أو رؤية تعالج قضية ما، لكي تسترشد بها في إتخاذ قراراتها وتسند بها رؤيتها لأن “القيادي” الإريتري هو العارف بكل شيء واسياس افورقي ليس إستثناء ، وهي رؤية تستمد مشروعيتها من الفكر الشمولي (الحزب القائد وقيادته الرشيدة) التي كانت سائدة طوال العقود الماضية.
ومن هنا يمكن ان نفسر إحجام المثقفين الإريترين وعدم مساهماتهم النظرية والفكرية طوال العقود الثلاثة الماضية لكون مساهمته مشروطه بضرورة الإنتماء لحزب ما أو تنظيم ما والعيش تحت كنف السياسي.
وعندما برزت شريحة من المثقفين ونشطاء منظمات المجتمع في شكلها الجنيني حاولت بعض القوى السياسية الإريترية سياسة الإحتواء والتدجين ، بينما لجأ البعض الآخر للعجلة وصناعة منظمات مدنية وذلك لحضور مؤتمر ” أواسا ” والذي عقد في الإقليم الجنوبي في دولة إثيوبيا في ديسمبر 2012م.
هذه الأسئلة و المحطات التي وقفت عليها بشكل سريع ومع غيرها من الأسباب شكلت وتشكل عبئا ثقيلا على كاهل المعارضة الإريترية وتقعدها، لذا يصعب إجراء الأصلاح المنشود، مالم تجري هذه التنظيمات التي صُممت في مرحلة التحرر الوطني إلا بعد عمليات جراحية معقدة لا أخال انها تستطيع إحتمالها، على أقل تقدير في المدى المنظور وتحت سيطرة رجال حركة التحرر الوطني الذين يصرون انهم في لصحيح ،علما بانهم يقودون تنظيمات برامجها السياسية وأساليب عملها وخطابها السياسي ليس بالجاذب حتى تستطيع خطب ود الشارع الإريتري وإستقطاب الأنصار حولها، وهذا ما وضح جليا في تجربة كل تنظيم على منفردا ، وذات الأمر ينطبق وقع الحافر على الحافر على تجارب الإئتلافات المعارضة والتي انفض عنها الناس سريعا ودونكم ” المجلس الوطني للتغيير الديمقراطي “.
ويمكن هنا ان نصل لخلاصة مفادها ان كل المحاولات للخروج من الوضع المأزوم سوف لايكتب لها النجاح ما لم يخرج الجميع من أسر معضلات وعبئ الصراع البيني والذي أخذ طابعا عنيفا في أكثر من منحنى والذي أتسمت به تلك وتاريخ مرحلة التحرر الوطني إلى رحاب الديمقراطية وقبول الرأي الآخر.
وكا قال ( أوسكار وايلد):
“الواجبُ الوحيدُ المترتبُ علينا حيالَ التاريخ هو إعادةُ كتابته”
* الصورة من موقع ” مسكرم” الإخباري الإريتري.