في الحوار مع مقال جمال همد : هذه هي الأسئلة الأكثر أهمية ونحن بحاجة إليها ! بقلم / أحمد أسمرا
6-Sep-2020
عدوليس
قبل نحو نحو تسعة سنوات بالضبط اتصل بى احد الاصدقاء من لندن مستفسرا عن خلفيات ظروف نشر مقال فى مجلة الأمانة، لسان حال الحزب الحاكم فى اسمرا ( الهقدف) ، كان المقال بعنوان ” ثقافة التكريم اين نحن منها ؟” ، وعبر هذا الصديق عن دهشته لنشر مثل هذا المقال من داخل أسمرا وفى صحيفة الحزب الحاكم ، وأبدى خوفه وقلقه على كاتب المقال .كان المقال قد نشر بمناسبة حلول ذكرى الكفاح المسلح ، وهو فى مجمله كان محاولة /مجازفة او دعوة مغلفة لضرورة الاعتراف بدور كل الذين اسهموا فى مسيرة النضال الإريتري عبر كل المراحل النضالية ، سواء بحمل السلاح او بالقلم او بالموسيقى او اطعام الثوار..الخ ، المقال فى مجمله كان سباحة ضد التيار الداعى لاختزال نضال الشعب الإريتري
فى دور شخص الطاغية اسياس ، وبين سطور المقال تقفز إتهامات الخيانة والتنكر للكثير من الابطال الحقيقيين الذين صنعوا معجزة الاستقلال. اعجبتنى ملاحظة هذا الصديق لحساسية المقال فى ظل نظام الطاغية ولكني طمأنته بان لا يقلق كثيرا لأن لا احد يقرأ اصلا هناك . وهكذا كان لم ينتبه احد للمقال المذكور ولم يستفز احد رغم انه كان منشور باللغتين العربية والتجرنية.
واليوم بعد نحو احد عشر عاما على صدور ذلك المقال ، وقع بصري على مقال جاد فى موقع “عدوليس” الالكترونى للأستاذ الصديق جمال همد نشره بمناسبة حلول ذكرى ثورة سبتمبر المجيدة ، ما لفتني إلى هذا المقال هو اني لاحظت ان الكاتب حرص من اول سطر فى المقال على اظهار رغبة جادة فى مقاربة متميزة لهذه المناسبة ، بدلا من الخطاب التقليدى الذى كالعادة يمجد هذه المناسبة على حساب إخفاء مشوار التعثر والتخبط الذي يغرق فيه شعبنا منذ عقود طويلة ، كما لاحظت ان مقاله كان بعيد عن النرجسية والأسلوب الاستعراضي الذى يضخم نزعة ( الأنا ) لدى الكاتب التي تطبع معظم المقالات هذه الأيام ، فقد بدا واضحا من سطور المقال ان هناك جدية ورغبة جامحة فى البحث عن سر معاناة شعبنا وعن مخرج من هذه المتاهة التي يدور فيها شعبنا طوال عقود نضاله المسلح وحتى اليوم.
واكد الاستاذ جمال انه لا يملك حلولا وانما الكثير من التساؤلات المعلقة التى تبحث عن إجابة. بعد قراءتى للمقال ، هاجمتنى العديد من الخواطر ورأيت انه لا بد من أعلق عليه حتى لا يمر مثل هذا المقال دون ان ينتبه اليه أحد كما حدث مع مقال مجلة “الامانة” الآنف الذكر.
قبل تطرقي لاسباب الصراع اللانهائي بين القوى السياسية الإريترية التي اشار اليها الأستاذ جمال همد ، أود فى البداية ان انفي صحة بعض التوضيحات التى ذكرها الأستاذ بأن النتيجة التى انتهت اليها الثورة الاريترية إنتهت إليها معظم الثورات المعاصرة للثورة الإريترية مثل الثورة الفيتنامية والكومبودية وبعض الثورات الافريقية.
لا اعرف أوجه المقارنة التي أعتمد اليها الأخ جمال للوصول الى هذا الاستنتاج لكني أرى انه ليس هناك وجه للمقارنة بين واقع حال هذه الدول/الثورات فى الوقت الراهن وبين واقع إرترييا ، فيتنام مثلا تغلبت على كل تحدياتها تقريبا واصبحت بلدا يتمتع بالاستقرار السياسي والإزدهار الاقتصادي وهي اليوم منافس قوى لنمور شرق آسيا، اما كمبويا فتعافت تماما من جراح نظام بول بوت ( وهو “بول بوت” رغم تشابهه مع اسياس فى الهمجية والوحشية الا انه فى نظري افضل من اسياس رغم ابادته للملايين من ابناء شعبه لانه على الاقل كان يملك رؤية ) ، مصير الثورات التحررية فى انغولا وزامبيا وموزامبيق ، لا يمكن مقارنته باريتريا إلا فى حالة واحدة هى زمبابوي ، وحتى هذه الحالة ليست مطابقة لحال إريتريا إلا من ناحية تشبث روبرت موغابى بالسلطة على نحو مهووس ، وتسببه فى هجرة عشرات الآلاف من مواطنيه الى جنوب افريقيا رغم ان زمبابوى بلد غني الموارد، اما دول انغولا وموزامبيق فلا احد يسمع عنها اخبار سيئة تمس استقرار البلاد ومعيشة شعبها.
مقال الاستاذ جمال يدعو الى نبذ خيار اللجوء الى الحلول السهلة والقاء اللوم على الآخرين ، كما يحفز على الابتعاد عن الكسل الفكرى الذي يمنعنا من التعرف على جذور مشاكلنا ، ومن ثم ايجاد الحلول الملائمة لها ، وفى هذا السياق يرى الاخ جمال ان جذور الصراع تعود الى مرحلة التحرر الوطني المسلح وإلى سنواته الاولى على نحو خاص.
انا شخصيا اختلف واناقض هذا الرأى جملة وتفصيلا لان المرحلة المذكورة فى نظري مجرد مرحلة اخرى من مراحل تشكل الشعب الاريترى كشعب وليد ظل يكتسب هوية وشخصية لم تتضح ملامحها النهائية حتى الآن.
عدم استيعاب هذه الحقيقة يقود إلى خلاصات مضللة بشأن طبيعة تركيبة الشعب الاريترى وتجانسه ، وكذا حول طبيعة التناقضات القائمة بين مكوناته الاجتماعية والثقافية وتداخلها او تعارضها احيانا.
من وجهة نظري ، ان قوة الطاغية اسياس تكمن فى إستيعابه العميق لطبيعة تركيبة المجتمع الإريتري وعمق تناقضاته وإستغلاله لذلك بشكل محسوب ومنهجي ومدروس.
وهنا تحضرنى بعض الاسئلة :- كم منا قرأ او يعرف عن واقع إريتريا قبل وخلال فترة الاحتلال الايطالي، وكم منا يستوعب دور الاحتلال الايطالي وسياسة الفصل العنصري التي كان يتبعها فى تجميد التفاعل بين مكونات المجتمع الإريترى وحرمانه من اكتساب الخبرة السياسية والإدارية اللازمة لمواجهة مرحلة ما بعد خروج المحتل . لماذا إستطاعت إثيوبيا بكل سهولة ان تخترق أول حركة وطنية إريترية ناشئة ممثلة فى جمعية حب الوطن ، وجريا على هذا السياق ، كيف تمكن اسياس ( متخفيا خلال مرحلة الكفاح المسلح وعلنا بعد التحرير ) من اللعب على نفس وتر التجزوء وضمان بقاءه فى السلطة رغم رفضه حتى من أبناء جلدته فى الفترة الاخيرة.
الأسئلة التى يمكن طرحها فى هذا السياق كثيرة ، والمثل السوداني يقول ” الجمل ما يعرف عوجة رقبته” ، ولكي نعرف ان رقبتنا ليست معووجة كالجمل يتطلب منا ان نقوم بمواجهة صريحة مع الذات عند طرح الاسئلة المتعلقة بهذه القضية ، فهل يمكن القول مثلا اننا وقياداتنا قد تعلمنا من تجاربنا وتخلصنا من إرث التعصب الديني والقبلي والمناطقي وما هو ادنى من ذلك ؟ هذه التساؤلات تكون اكثر اهمية واكثر حاجة إلى التعميق والتجذير عند إستعراض وتقييم تجربة الكفاح المسلح بمراحلها المختلفة.
مقال الاستاذ جمال يشير إلى غياب دور المثقف الإريترى . وموضوع الثقافة والمثقفين فى ارتريا حديث ذو شجون ، لأن الموضوع مرتبط بتعريف المثقف عندنا ، صحيح ان إريتريا قد انجبت خلال العقود الفائتة عدد من المبدعين فى مجال الادب والفنون التشكيلية والموسيقى ، لكن من ناحيتى يمكن ان اجزم بأن بلادنا لم تنجب بعد المثقف المفكر القادر على قراءة واقعنا وماضينا وعلى وضع تصور متكامل لمخارج سليمة من مآزق التمزق اللانهائى الذى نغرق فيه.
عموما إريتريا فى حاجة الى قيادة ( وليس قائد) تتمتع بقدرة استيعاب ناضج لتاريخ شعبنا وتتحلى برؤية شمولية تستند على تحليل منطقي لمختلف العوامل المرتبطة بالماضي والحاضر والمستقبل.
احمد اسمرا ، الخرطوم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الصورة لفصيلة من طلائع الثورة الإريترية في ستينيات القرن الماضي.