زيناوي .. شخصية في الذاكرة : محمد طه توكل – أديس ابابا
9-Sep-2012
المركز
رحل رئيس وزراء إثيوبيا ملس زيناوي في الـ21 من أغسطس الجاري عن عمر يناهز الـ57سنة وترك 3 أبناء، وهو أول رئيس بعد سقوط نظام منقستو عام91م. ودفن الراحل في كنيسة الثالوث. وذلك في أول جنازة وطنية لزعيم أثيوبي منذ أكثر من 80 عاماً.
والقادة الإثيوبيين عرفوا على مر التاريخ بأنهم يخفون خبر موت قادتهم. حيث أخفي القادة موت ملليك لعاميين كاملين، كما أن الرئيس السابق منغستو قد أخفى جثمان الإمبراطور هيلي سلاسي لأكثر من عقدين وتم اعادة دفنه بعد وصول زيناوي إلى السلطة في عام1991م.ومن المفارقات أن الراحل زيناوي دفن بجانب الإمبراطور هيلي سلاسي في مقبرة الثالوث، فالمراسم الرسمية التي شهدتها إثيوبيا بحضور أكثر من 20 رئيسا و12 رئيس وزراء وأكثر من 16 وزراء الخارجية و700 شخصية مهمة من 83 دولة في ميدان الصليب بوسط العاصمة أديس أبابا تعد هي الأولى في البلاد.زيناوي الذي تكن له الشعوب والقوميات الإثيوبية المحبة والأحترام ترك آثار ايجابية لدى أصدقائه ورفاقه، وقد عرفته عن كثب منذ أكثر من عقدين في لقاءات لايمكن حصرها في هذا المقال، وكان زيناوي على علاقة وثيقة بأهل إرتريا تجاوزت الحدود الدبلوماسية، ما أعطى البعد الشعبي لهذه العلاقة ميزة خاصة قبل اندلاع الحرب في عام 1998م بين البلدين والتي شهدت العلاقات فتورا بل وتوترا حادا. وكان زيناوي أول من أقر بحق تقرير مصير إرتريا في عام 1986م واشترط أن اجراء الاستفتاء في إرتريا وهو ما أكده أديسو لقسي في مراسم تشييع جثمان زيناوي حيث قال إن زيناوي أول زعيم إثيوبي كسر كل التقاليد وتبنى احترام رغبة الإرتريين في الاستقلال، وكان أول من أعترف بنتيجة الاستفتاء، ومواقف زيناوي تجاه الشعب الإرتري موثوقة لا تخدع للمزايدات، وحتى اللحظات الأخيرة كان يعطى اهتمام خاص لكل إرتري. لقد تابعت عن كثب مواقف زيناوي الذي امتلك الشجاعة في معالجة الأخطاءات التي أرتكبت ضد الإرتريين على خلفية الحرب، وكان من أهمها الإقرار بحدوث خطأ تريخي بإبعاد الإتريين وقدم اعتذاره للشعب الإرتري، وفتح المجال لهم بل جعل من بلده ملجأ للهاربين من جحيم النظام الذي عرف بإشعال الحرب التي كان الشعب الإرتري وقودها، مهما يكن زيناوي الذي تعرض إلى انتقادات من خصومه كونه ينتمى إلى إرتريا من جهة أمه، وما أعجبني في زيناوي إنه كان يفتخر بهذا النسب، وبرحيله يكون الإرتريين قد خسروا حليفا قويا ومتفهما لقضاياهم الذي أعطى مساحة واسعة لللاستماع إلى أرائهم وبذل جهودا لتوحيد صفوف المعارضة وحول بلده إلى قبلة تتجه إلىهاغالبية قوى المعارضة. رحل زيناوي وربما سيذكر التاريخ إن القوى السياسية لم تستفد من الفرص الذهبية وإن كانت الفرص لازالت باقية لو استغلت بشكل جيد. وعندما أتحدث عن بعض ايجابيات زيناوي لا يعنى أن لزيناوي ليست له سلبيات، وقد تكون لي ملاحظات عديدة لا يتسع المجال ذكرها في هذا المقال الذي أخصصه لمحطات ومواقف خاصة لها صلة بالعمل الصحفي، ولكن كمواطن إرتري لدى مواقف وملاحظات سيحين يوما أنفض الغبار عنها لكن ضمن القيم التي أحملها مقتضيا بالحديث الذي يدعونا إلى ذكر محاسن موتانا.حيث كانت لي مع الراحل زيناوي مواقف عديدة جمعتني خلال الحوارات التي أجريتها معه، وكان أخرها في التاسع والعشرين من أبريل 2011م، الذي نشر بصحيفة الشرق القطرية، وتحلى فيها ملس بحضور متميز وتحدث بصراحة عن التطورات الكبرى الجارية في الدول العربية التي شهدت الربيع العربي وأبدى قدر كبيراً من الشفافية أثناء تناوله الأحداث في المنطقة.وهنا يمكن أن استطرد بعض المحطات والمواقف الطريفة لشخصية زيناوي الإنسان والقائد،الذي إرتبطت شخصيته القيادية الفذة في مخيلتي، وزيناوي كان صاحب مشروع وفكر متجددة عرفته عن قرب في العقدين الماضيين .. وأول لقاء لنا كان في عام 1992م بأديس أبابا داخل القصر الجمهوري .. حين رتب لنا السفير الأثيوبي “أوعلوم” اللقاء لإجراء الحوار معه آنذاك.. وقتها كنت أشعر برهبة الموقف قبل أن أجتمع بالراحل ..لكن شخصيته أزالت كلما كنت أشعر به من توتر وكأنه إستشف ذلك وبادر برفع الكلفة بيننا في الحال وإستغل فرصة ركاكة لغتي التجرينية ليجعل من اللقاء مجرد دردشة مع شخص عادي وليس حاكم لدولة كبيرة مثل إثيوبيا, حيث تناول بلغة بسيطة موضوع لغتي الركيكة متسائلاً إن كنت أتحدث العربية أم التجرينية..ومع أجواء المناخ المتفهم لطبيعة الحرج الذي يستشعره الصحفي في أول لقاء له بشخصية زيناوي، إنطلقت جولات الأسئلة والأجوبة بسلاسة مما خفف من حدة القلق والتوتر .. المحطة الأولى: مالفت إنتباهي في حواري مع زيناوي ، هو الطابع الإنساني لشخصيته المتواضعة التي تبدأ معك طرح أسئلة جانبية عميقة تتسلل عبرها هالة من السمات القيادية التي تعكس وبإمتياز قدرته على إستشفاف ماوراء الشخصية المقنعة التي يرتديها الناس عملاً بمتطلبات المهنة التي يزاولونها .. ليتعاطى هو مع ذلك البعد الفطري بمهارة بعيداًعن القوالب الرسمية الكابتة للشعور الحقيقي الذي ينتاب البشر عند بدء علاقة إنسانية بسيطة مع بعضهم البعض .. حتى شعرت معها بحنو شخصيته الرئاسية المتميزة بكل ماتحمل هذه الكلمة من معاني .. ولم يفارقني هذا الإنطباع طوال تاريخ لقاءاتنا التي تكررت منذ عام 1992م ـ 2012م وهي لقاءات تجاوزت ـ(14) حوارا ولقاءات أخرى على هامش المؤتمرات الدولية.. ومن خلالها تعرفت على شخصية الراحل البعد الإنساني الذي طغى على بعده الرسمي والبروتكولي في تعامله مع المهام التي يمارسها سواء كانت رسمية أو شعبية لأن من إلتقوا به جميعاً يقسمون لك بعد كل لقاء بأن ملس الذي يبادر دائماً بمد جسور علاقته الإنسانية قبل أي خطوة أخرى يقدم عليها .. كذلك أن الراحل له جاذبيته الخاصة التي تميزه عن غيره لكون شخصيته غير مركبة أو معقدة بل هي بسيطة وطبيعية جداً لا يعكس من خلالها غير بعده الإنساني كإمتداد حقيقي لمركز السلطة التي يؤمن بها كأساس لمعادلة الحكم الديمقراطي الذي يرتضيه .. ولهذا كان هذا الإمتداد حيَّاً يفرض هيمنته في كل العلاقات التي أقامها على المستوى الدبلوماسي والشخصي أثناء تعاطيه مع شعبه وأصدقائه.المحطة الثانية:وهنا استكشفت البعد الثقافي لزيناوي لفهمه العميق لمراحل تأريخية غابرة ربطت الحبشة مع محيطها ورسخت صور التسامح الديني والتعايش الحقيقي. حيث انتهج سياسة مرنة ابلى من خلالها بلاءا حسننا وحاول وضع اسس لإقامة دولة مدنية لا يضطهد فيها الإنسان لمتعدقاته وانتمائه الدينية، واستدل باحدى المواقف الطريفة في احدى حوارتنا معه التي صادفت شهر رمضان عام 1998م بصحبة الزميل محمد شبارو الذي كان موفدا لقناة إم بي سي، حيث داهمنا أذان المغرب وموعد الإفطار ونحن لازلنا داخل مكتب زيناوي وفوجئنا بأنه قد أعد مأدبة الإفطار في احدى صالات مكتبه التي جاملنا فيهازيناوي، وبث الخبر على الهواء مباشرةً في القناة الـ إم بي سي تحت عنوان رئيسي يقول : إم بي سي على مأدبة إفطار زيناوي. وهذا يعكس فهمه العميق للإسلام.المحطة الثالثة:وكان زيناوي صاحب المواهب والقدرات المتعددة وهو محاور من الصعب استفزازه، واعتقد من الصعب أيضا أن تنتزع منه ما تريد.ولم يسبق إن تهرب من أي سؤال كان فكان واثقا وواضح الرؤية، وإذا نظرت الى الإجابة التي يفردها أمامك تجدها مرتبة وواضحة وسهلة التعابير لاتحتاج من المحرر الصحفي أي جهد لإعادة صياقتها وربطها، دون أن تواجههم تعقيدات أمام العبارات التي يسوق بها ملس مواقفه المختلفة.لتأتي مواقفه بسيطة وواضحة الأهداف ومرنة في مضمونها وسهلة التعاطي معها.المحطة الرابعة:إن شخصية زيناوي النادرة ظلت تثير الجدل حول قدرته في تنظيم الوقت رغم المشاغل الضخمة التي تستدعيها مسئولياته المتعددة… فهو عندما تراه متفرغ للشأن العام لا تظن أن لديه حياة خاصة رغم إنه رب أسرة .. ورئيس لأكبر دولة في شرق أفريقيا ويمسك بملفات بالغة التعقيد من السودان إلى الصومال وملف مياه النيل والإرهاب بالإضافة الى أنه طالب علم أكمل دراسته الأكاديمية ونال مرتبة الماجستير في الإدارة من المملكة المتحدة هام 1995م والماجستير في العلوم الإقتصادية عام 2004م بهولندا .. ويجيد التحدث بلغات محلية وإفريقة وعالمية بطلاقة.. كل ذلك لم يمنعه من إمتلاك قراءة سياسية معقدة ودقيقة للأحداث في القرن الإفريقي يصعب معها إدراك أبعادها لماتتميز به هذه الشخصية من عمق وتفكير متفرد يوازي ما كان يواجهه من تحديات مختلفة، الأمر الذي مكنه من إدارة الأزمات بمهارة سياسية مستثمراً قدراته الذهنية المتطورة..المحطة الخامسة:وربما شخصيات مثل زيناوي قد تسهل لك مزاولة العمل الإعلامي في القرن الإفريقي الذي يعد بمثابة حقول من الألغام التي تتقاطع فيه المؤامرات، وبالتالي فأنت مستهدف كإعلامي من قبل الحكومات والمعارضة التي تختلف في كل وتتفق ضد الإعلام، خاصة عندما تعمل في مركز يعبر إسمه عن كونه واجهة عربية للإعلام “كمركز الخليج” في وسط أفريقيا، وضف الى ذلك مايشعر به هذا الوسط من شكوك وعدم رضى من المسار الإعلامي للقنوات العربية التي تنحاز في ظنها الى كل ماهو عربي وإسلامي بصورة متحاملة ضد كل ماهو إفريقي أو مسيحي ،وهو مايفرض عليك كإعلامي أن ترضي جميع الأطراف وتتعاطى مع قضيته حسب طريقة التناول ونظرية حكمه على الأمور التي لها إرتباط بثقافة المحيط ، ومتى ماخالفت المسار المألوف لذلك المحيط سواء كان إفريقي أو عربي فسيتم إتهامك بالتحامل ضد جهة ولصالح جهة أخرى بل وقد تصنف بأنك اصبحت معادي لتوجهها السياسي أو الثقافي،ولهذا لم يكن من السهل النجاح في وسط كهذا، وكابسط مثال إعتبر البعض من دول القرن أن عملنا لا يتعدى وظيفة المخبر للإعلام العربي، وربما كان ذلك كاف لمنعنا من تأسيس عمل إعلامي ناجح تحت واجهة عربية كمركز الخليج في القرن الإفريقي، لكن تفهم الراحل ملس زيناوي ومن حوله من كبار المسؤولين لوضعية المركز بعقليات منفتحة جعلت من المركز نافذة يطل من خلالها على العالم العربي،ومن ثم خلق بيئة جديدة تسمح للإعلام العربي العمل بحرية، وخرجنا بفضل هذه النظرة العميقة من ايجاد مساحة لنقل أخبار القرن الإفريقي في الصحف الخليجية بصورة خاصة وإعلام المهجر بصورة عامة وقد تجاوزنا عقدة تعاطي بعض دول القرن مع الإعلام العربي حتى وقعنا في مأزق جديد تمثل في تعقيدات الأزمة الداخلية لدول القرن الإفريقي ومعارضيها، وكانت هناك تحديات مثل المحاولة الفاشلة لإغتيال حسني مبارك في مطلع التسعينات التي عصفت بأركان العلاقات بين أديس ابابا والخرطوم. والحياد ممنوع في ثقافة الصراع بين الدول ومعاريضها في القرن الإفريقي والخلاف بين اسمرا والخرطوم وأسمرا وأديس ابابا والضحية الأكبر هو الإعلام العربي المتهم دوما بالإنحياز. وانصافا للحقيقة كان زيناوي أكثر حكمة وفهما لأبعاد العمل الصحفي الذي عامل معه بموضوعية ، ولم ينخدع ملس بأساليب الأفخاخ والدسائس التي نصبت لنا من قبل بعض أطراف المعارضة السودانية مستغلين التوتر القائم بين إثيوبيا والسودان وعلاقة قطر بالحكومة السودانية وحبك مؤامرة بتسييس رسالتنا الإعلامية ومحاولة وصفها بأنها واجهة للإعلام الرسمي للحكومة السودانية في القرن الإفريقي ،كل ذلك كان كفيل بإنهاء خدماتنا الإعلامية في المنطقة لكن النظرة المستقلة التي يتمتع بها زيناوي حالت دون وقوع إثيوبيا في أفخاخ بعض هذه الأطراف المعدة لتفريغ رسالتنا المحايدة من مضمونها، وهكذا خرجنا بسلام من الأزمات والمطبات السياسية المركبة التي كانت تفرضها أوضاع الصراع الداخلي بين الحكومات ومعارضيها.. المحطة السادسة:ومن المواقف الهامة يمكن تناولها في هذه العجالة مع إدارة زيناوي عندما أجريت حوارا مع أحد الشخصيات البارزة في المعارضة السودانية الذي ذكر لي في معرض حديثه أنه إلتقى بملس زيناوي في أديس أبابا وأكد له بصورة لا يرقى إليها الشك بأن إثيوبيا ومصر إتفقتا على تقديم شكوى في مجلس الأمن الدولي ضد السودان ، وأن البلدين توصلا إلى تفاهمات مشتركة للعمل على اسقاط حكومة الخرطوم، وهذه المعلومة وصلت إلى مسامع زيناوي، واستدعاني مدير مكتبه وطلب مني ايضاحات حول الكلام المنسوب إلى رئيس الوزراء وبعد فهمه لتفاصيل ماجرى رتب لي لقاءاً مع زيناوي. وخلال اللقاء أوضح لي بأن كل ما نسب إليه من كلام على لسان المعارض عار عن الصحة، وقال لي ما يعنينا يجب أن ينقل من خلالي أو من خلال المسؤولين الإثيوبيين في المستقبل دون زيادة أو تحريف. وأضاف زيناوي أنه التقى بالمعارض السوداني واستمع إلي وجهة نظره ولكن غادر مكتبي قبل أن يستمع مني حول ماقاله لأن الوقت داهمنا وكانت لي أيضا ارتباطات أخرى.وأكد لي زيناوي أن علاقة إثيوبيا بالسودان علاقة أزلية، وأن محاولة اغتيال مبارك وتداعياتها تجاوزناها، مضيفاً أن ما ذكره المعارض السوداني في حواره معك ليس كلامي. وقال إن إثيوبيا لم ولن تسعى لتقديم شكوى ضد السودان، وأن بلاده لاتسمح لأي جهة بمعاقبة السودان. أما الحادثة الثانية لي مع الراحل زيناوي كانت في نوفمبر 99م عندما طلبت أديس من الرئيس البشير زيارة إثيوبيا وكانت هذه الزيارة الأولى بعد حادثة محاولة اغتيال الرئيس المصري السابق حسني مبارك.وخلال هذه الزيارة فاجأ السودانيين نظرائهم الإثيوبيين بترتيبات تمت بين حزب المؤتمر الوطني وحزب الأمة على أن يلتقى البشير خلال زيارته لأديس ابابا بالصادق المهدي. ووسائل الإعلام نشرت عن هذا اللقاء المرتقب دون أن تشير إلى الدعوة الرسمية التي قدمتها إثيوبيا لزيارة البشير، وهكذا خطفت الأضواء عن الزيارة.وبعد أن علمت السلطات الإثيوبية بهذه الترتيبات طلبت من الصادق المهدي أن يؤجل زيارته إلى أديس ابابا أسبوعا كاملا، مما دفع الجانبان وقتها بالبحث عن مكان أخر يمكن أن يجمع البشير والمهدي. وهنا دخلت أنا على الخط والتقيت بالصادق المهدي بدون ترتيبات مسبقة عقب وصوله إلى أديس ابابا التي غادرها البشير، وكشف لي الصادق عن ترتيبات تمت بين حزب المؤتمر الوطني والأمة وقدم لي مقترح برغبة الجانبين على أن تستضيف جيبوتي هذا اللقاء المرتقب بينه وبين البشير.ورحبت جيبوتي بهذا المقترح وتم اللقاء على هامش قمة الإيقاد في نوفمبر عام 99م. بموجب تلك الاتفاقية التي عرفت باتفاقية (نداء الوطن) التي عاد بموجبها المهدي إلى السودان. وهذه القضية كانت لها تداعيات سالبة أدخلتني في إحراج لم تسلم منه جيبوتي هي الأخرى، لأن ملف المعارضة السودانية كان وقتها فقط في حوزة لاعبيين كبار مثل إثيوبيا ومصر وكينيا وكذلك إرتريا. هذا بالإضافة إلى الغرب وأمريكا ولا يخفى على فاطن أن تلك الاتفاقية أحدثت انشقاقات عصفت بأركان التجمع السوداني المعارض. ومن خطورة افرازات الاتفاقية تمت في مقر منظمة الإيقاد، وعلى هامش القمة التي أعطت للاتفاقية غطاءاً إقليميا جنبها من الانتقادات بالإضافة إلى أن جيبوتي عضو في جامعة الدول العربية أعطي لها البعد العربي والإفريقي ومهد الطريق أمام ايقاد لرعاية اتفاقية أخرى بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير جنوب السودان، وإن اتفاقية نداء الوطن حاول البعض أن يخلق منها مشكلة في علاقتي مع إثيوبيا ولكن بحكمة زيناوي خرجت منها بأعجوبة. وازدادت الأمور أكثر تعقيدا بعد شهور قليلة في عام 2000 عندما قامت جيبوتي برعاية مؤتمر المصالحة الصومالية في (عرتا). وكانت نتائج المصالحة الصومالية والسودانية أحدثت خلط للأوراق الإقليمية والدولية، وأدخلتني في مواقف لا أحسد عليها إلا أن تفهم الراحل زيناوي ومقربيه تجاوزت المحنة لأن القرن الإفريقي عبارة عن حقول للألغام. تتقاطع فيه التداخلات والمصالح. وفي كثير من الأحايين تؤكد المؤشرات في القرن الإفريقي بأن تجاوز الخطوط الحمراء ممنوع وربما الحظ وحده أو الظروف الإستثنائية هي التي قد تساعد المرء بعبوره ولكن ليس كل مرة تسلم الجرة. هذا ما تعلمته من مهنة المتاعب على مدى عقدين من الزمن خلال عملي في القرن الإفريقي.المحطة السابعة: الصومال أحد المحطات الساخنة التي خضنا غمارها في منعطفات سابقة كان أبرزها مؤتمر المصالحة الصومالية في عرتا عام 2000م حيث إتهمني الرئيس الراحل عبدالله يوسف بأنني منحاز الى الرئيس عبدى قاسم صلاد نتيجة تغطيتنا لوقائع المؤتمر،وربما كان مبدأ رفضه لفكرة إنعقاد مؤتمر عرتا من الأساس سبباً وراء هذا التحامل، ولولا حكمة زيناوي وتفهمه للحقيقة بالإضافة الى لفيف من رموز الحكومة الإثيوبية لكان للموقف تأثير مباشر، وازدات الأمور تعقيدا بعد مرافقتي للرئيس الصومالي عبده قاسم إلى مقديشو وربما زاد الطين بله عندما أسست حينها مكتب لمركز الخليج في مقديشو،الأمر الذي زاد من حالة سوء فهم أكثر ولكن بحكمة الحكماء تمكن من تجاوزها وإن إثيوبيا بقيادة زيناوي بذلوا جهدا لضم عبدالله يوسف في مشروع المصالحة لينتهي الأمر على هذا النحو وعلاقاتي لم تتاثر رغم بعد الانتقادات من خلال علاقتي بجيبوتي والصومالالمحطة الثامنة:وكان التحدي الأكبر الذي واجهني بمثاية شهادة الوفاء عندما أعلن برنامج (الإتجاه المعاكس) في قناة الجزيرة الإخبارية هي من أخطر المحطات في علاقتي مع زيناوي، حيث جاءت بنبأ خطير يفيد بأن مركز الخليج قد أرسل رسالة مروسة الى القناة تكشف موافقة ملس زيناوي للمشاركة في برنامج الإتجاه المعاكس،وجها لوجه مع الرئيس أفورقي، ولعل حساسية الموقف يتجلى في كونه جاء متزامناً مع أحداث الحرب الإرترية الإثيوبية على الحدود،حيث كانت أديس أبابا تشترط على إرتريا (لاحوار لا تفاوض إلا بعد الإنسحاب من المناطق المتنازع عليها) وما بثته قناة الجزيرة كان مثابة كارثة لشخصي ولزيناوي نفسه. وإن الخبر تناقلته وكالات الأنباء العالمية،وجاء رد فعل إثيوبيا عبر الناطق الرسمي باسم الحكومة سلومي تدسي نفت فيه مابثته قناة الجزيرة مشاركة زيناوي في برنامج الاتجاه المعاكس، وطالبت قناة الجزيرة بالإعتذار، فيما تمسكت الجزيرة بموقفها لأن لديها إثبات يفيد أن مركز الخليج هو من أرسل ورقة الموافقة وكان ذلك في 21 يونيو 1998م ،وبالتالي لم تعتذر الجزيرة وهنا إتصلت بها وطلبت نسخة من الخطاب بالفاكس ولما حصلت عليه قرأت عنوان الخبر فوجدته يشير الى أسمرا فتعجبت لأنني مقيم بأديس أبابا فكيف أرسل خطاب من اسمرا،وهنا أدركت أبعاد الخدعة،ومع ذلك تفهم ملس الوضع وقال أعلم مايتم تدبيره ضدك منذ زمن بعيد فلا تتأثر بالموقف. وكان هذا الموقف كرما منه سأظل اقدر له ما حييت، ونحن في العالم الثالث وأفريقيا نسب الخبر إلى الرئيس يعني البحث عن الموت أو الانتحار الطوعي. وللاسف البعض لا يتفهم حقيقة معاناتنا في العمل الإعلامي التي تحيط به المخاطر.المحطة التاسعة:تعتبر هذه المحطة من أهم محطات العالقة بالذاكرة وعلى هامش قمة الإيقاد عام 2000م وهي أول قمة يستضيفها السودان بعد إنقطاع، وأذكر أنني إستقليت المصعد من الطابق السادس الى الأرضي بصحبة رئيس البرتكول الصومالي محمد عثمان ، وتوقف المصعد في الطابق الخامس ولما فتح بابه تسمرت من شدة ماهالني الموقف إذ كان الرئيس الإرتري الذي شاركنا المصعد أمسك يدي في النزول، وكانت تلك الطامة الكبرى حيث صدق البعض ماشاهده بأم أعينهم ، حينما أمسك الرئيس بيدي قائلاً هكذا أقطع صلتك بإثيوبيا ذلك الموقف إلا أن رئيس البرتكول الصومالي برأني من الموقف حيث نقلوا الحقيقة الى مسامع زيناوي ،الذي تدارك الموقف وفي الجلسة الختامية للقمة أمسكني زيناوي من يدي وهو يضحك بصورة ملفته للنظر وكانت هي رسالة لأكثر من طرف وقال لي مهما حدث فأنت صحفي يحذى بثقة دول المنطقة، فأحذر في المستقبل من ركوب المصعد. وضحك ثانية وقال تعيش وتشوف غيره . هذا هو زيناوي الانسان الذي عرفته وندع الله أن يتقبله بقدر ما قدم لشعبه وأصدقائه. لله ما أعطى ولله ما أخذ.