ناود .. سادن الثقافة العربية الذي رحل : عبد الله محمود*

24-Sep-2010
hglv;.
ما أن أشرقت شمس يوم الخميس 16 سبتمبر 2010م حتى آذنت بطي صفحة باذخة من عمر الزمان، مترعة بالعطاء الثر ،حافلة بالبذل الوفير ..لقد توفي المناضل الكبير الأستاذ محمد سعيد ناود عن عمر يناهز الثمانين عاماً قضاها كفاحاً ونضالاً ضد الإستعمار في السودان وإريتريا .
شكل ناود جسراً للتواصل الوجداني بين اريتريا والسودان( كتب سلسلة مقالات تحت هذا العنوان ) .وتماهت عنده خيوط الإنتماء للبلدين ..وتلاشت العلامات الحدودية.
على الصعيد السوداني أسهم في الحركة الوطنية السوانية في اربعينيات القرن الماضي ضمن صفوف الحزب الشيوعي السوداني ،وشارك في تأسيس مؤتمر البجا ،
أما على الصعيد الإريتري فقد أسس وقاد أول حركة مقاومة إرترية باسم ( حركة تحرير إريتريا ) عام 1958م انتهجت اسلوب العمل السري على شكل خلايا سباعية وعرفت باللغة التجرنية باسم (محبر شوعتي) ..
تعرفنا على ناود ونحن ما نزال في سني طفولتنا الغضة في السنوات الأولى من المرحلة الإبتدائية عبر روايته ( صالح .. رحلة الشتاء والصيف ) التي تعد أول عمل روائي اريتري ، حيث مزج خلالها بين السيرة الذاتية والأسلوب الروائي .. ولكم طربنا ونحن نتابع بشغف فصول روايته وسرده الأخاذ لحياة الريف الإرتري الإجتماعية والإقتصادية والسياسية وطرائفها ومقارنتها بالحياة المدنية في بورتسودان التي انتقل اليها .. كما وثق خلالها للحركة الوطنية المناهضة للاستعمار في السودان واريتريا باعتباره أحد صناع تلك المرحلة.. كان يروي ذلك بأسلوبه السردي المدهش ولغته الجزلة التي تتميز بالسهل الممتنع ..
لقد أهتم ناود بالتوثيق والتأليف ولم تصرفه عن ذلك مشغولياته السياسية الجسام حتى قال عنه صديقه عارف علوا ( أنه أسس بمؤلفاته العديدة، إلى جانب الشهيد عثمان صالح سبي، الرف الأول في المكتبة الإرترية)… وركّز في مؤلفاته على تاريخ المنطقة وعلاقتها بالثقافة العربية والإسلامية وجذور اللغة العربية وأصالتها في إريتريا مستخدماً أداوته العلمية المتميزة في البحث والتنقيب ،و رفد المكتبة الإرترية بمؤلفات قيمة مثل العروبة والإسلام في القرن الإفريقي والعلاقات الإرترية العربية فضلاً عن التوثيق للحركة الوطنية الإرترية.
جسد ناود المقولة الشهيرة ( مع المحبرة إلى المقبرة ) تجسيداً عملياً حيث قال قبيل وفاته بأشهر خلال منتدى اللغة العربية ( سأظل أبحث عن التاريخ الحقيقي لإريتريا وأعمل على إبرازه فيما تبقى لي من عمر ) ..ومصداقاً لحديثه هذا ظل يواصل مراجعاته و كتاباته الراتبة عن تاريخ المنطقة حتى قبيل اسابيع من وفاته ، وكان آخر انتاجه العلمي سلسلة المقالات التي سطرها في صحيفة إريتريا الحديثة تحت عنوان (لتاريخ المشترك بين إريتريا وجيرانها ) تناول خلالها إمارات الطراز الإسلامي .. وتاريخ البجا .
ظل ناود دائم المراجعة والتنقيب في التاريخ القديم والحديث لإرتريا ،واستطاع من خلال ذلك الوصول إلى نتائج باهرة تعد فتحاً جديداً ، فعلى سبيل المثال نظرية ناود التي تقول أن النجاشي الذي استقبل الصحابة كان في منطقة دباروا في إريتريا بخلاف الروايات الشائعة التي تربطه بإقليم تيجراي او روايات بعض العلماء السودانيين مثل عبد الله الطيب والفاتح قريب الله الذين يربطونه بالسودان، وبغض النظر عن الإتفاق أو الإختلاف حول النتائج التي خلص إليها إلا أن الجميع يتفقون على أنها القت حجراً في بركة البحث الراكدة خاصة و أنه قد أسس نظريته هذه من خلال إعماله لأدوات البحث العلمي والاستقصاء في الشواهد التاريخية مما يضع الأجيال اللاحقة أمام مهمة شاقة للمضي قدماً في درب البحث العلمي الوعر .
وإنه مما يحز في النفس أن لا يجد شخصاً بقامة ناود السامقة التكريم اللائق به في بلاده التي آثر العودة إليها بعد الاستقلال .. لقد آذوه حياً وتجاهلوه ميتاً .. حيث نعاه الموقع الإلكتروني الرسمي لوزارة الإعلام في سطرين متجاهلاً سيرته الباذخة ولنترك المساحة للأستاذ فتحي الضو ليروي لنا فصولاً لمعاناة الأستاذ ناود مع الحكومة الإريترية : ( بعد أن نالت إريتريا إستقلالها لم يتعال ناود أو يتجبر أو يتصلب،فقد عاد للبلد الذي طالما إشتاق لمعانقة ترابه، وعينته الجبهة الحاكمة في منصب إداري صغير فتقبله بكل رضاء نفس، وأذكر عندما تعرض لاعتداء من كادر مهووس،تسامي فوق جراحه البدنية والمعنوية من اجل وطن تشرنق تحت الشمس،وبعد أن تعافى أوكلت له وظيفة متواضعة في مركز الدراسات،لم يسوءه أنه قبع تحت جناح مسؤول كان نسياً منسياً يوم أن بدأ هو رحلة الألف ميل النضالية، كان يأسرني حينما أراه ماشياً على قدميه وهو يقطع المسافة أربعة مرات يومياً بين المركز ومنزله الذي يبعد بضع أميال،ألمحه دائماً في تلك الرحلة المقدسة يثقب الأرض بناظريه وكأنه يبحث عن شيء في باطنها لم تفصح عنه ظاهرها).
لقد رحل ناود تاركاً ثلمة لا تسد في جدار البحث العلمي .. وإن من واجبنا نحوه أن يجد التكريم اللائق ليس بالمهرجانات الخطابية فقط رغم أهميتها وإنما بالندوات والمؤتمرات العلمية التي تتناول تراثه بالتحليل والنقد عبر اوراق عمل إسهاماً في إبراز هذه الجهود الجبارة .. فهلا فعلنا ذلك .
للتواصل:abdu974@hotmail.com
* نشرت كافتتاحية في صفحة نافذة على القرن الإفريقي – في صحيفة الوطن السودانية -الجمعه24/9/2010م


