مقالات

في رثاء أمة فقدت إنسانيتها :عبدالرازق كرار

29-Apr-2011

المركز

1
منذ حوالي خمسة عشر عاماً وانا أمارس الكتابة في الشأن العام ، أعاني رهقها ، واستمتع بلذتها ، استلهم أفكارها من الاحداث وملاحظات الأصدقاء وإنتقادات المختلفين في الرأي أو الرؤية ، ولكن دعني عزيزي القارئ الكريم أعترف والاعتراف بالعجر فضيلة أنها المرة الأولي التي أجد فيها مخزوني من الكلمات عاجزا عن التعبير عما يجتاحني من أحاسيس تراكمت كما يتراكم الصدأ في إناء مهمل ، وهذا الاعتراف عزيزي القارئ هو صك الغفران الذي اطلبه مقدما ، حتى إذا ما أستفزتك العبارات ، ومست دواخلك ، أو أعتبرتها تجنياً على إنسانيتك ، أن تتوقف عن قراءة المتبقى ، ثم ( تعمل نايم ) كأنك لم ترى أو تقرأ شيئا ، وأنا لا اطلب المستحيل ، فهذا الفعل ما نمارسه كأمة بشكل يومي ولكن نتوطأ جميعا أن لا نتحدث عنه ، ونداري سوءات بعضنا البعض وممن منا بلا سوءات.

2ربما ستجد هذه المقدمة لا معنى لها ، ولكن صدقنى عزيزي القارئ فالمقال كله لا معنى له ، إن كنت تبحث عن المعني ، فهو كلمات أكتبها وانا أحاول ان استحلب الدمع على روح أمة فقدت إنسانيتها بفعل فاعل ، ولكنها لا تدرك أنها فقدت إنسانيتها ، والأمم كما الانسان لا يمكن أن تطلب أو تطالب بشئ لا تدرك أنها فقدته ، وهى لذلك تسعى لتطالب بأشياء تعتقد أنها هي المفقودة ، ولكنها سرعان ما تختلط عليها الاشياء والأولويات ، والسبب أنها لم تدرك بعض الاهم من المهم ، ولم تتبين الاصل عن الفرع ، كما اختلط عليها المرض بالاعراض الناتجة عنه.3اقول هذا وانا اتابع فصول المأساة الاخيرة للشباب الارتري على البحر الابيض المتوسط والتي راح ضحيتها عدد غير معروف ولكنه يترواح بين الثلاثمائة والاربعمائة شاب وشابة دفعت بهم الظروف الى هذه النهاية المروعة ، ليكشف رحيلهم عمق المأساة التي نعاني منها كشعب إرتري ، مأساة لم نستطع أن نوصفها ، وبالتالي لم نعرف كيف نتعامل معها ، وإذا كنت تبحث عن عمق المأساة شاهد فيلم (Titanic) إن لم تكن قد شاهدته ، دع عنك قصة الحب ، وغص عميقاً في المشاعر التي أختلجت ركاب الباخرة العظمية بعد ان أصبح غرقها واقع لا محالة ، حاول أن تبلحق في عيون الركاب ، أنظر الى حجم الفزع ، والأحلام المتبخرة ، لحظة الإدراك أن كل شئ قد ضاع ، وإن كان ذلك فيلماً مصوراً فكيف ستكون الحقيقة ، تخيل كل هؤلاء الشباب في تلك اللحظات العصيبة ، وقد أصبحت ، أحلامهم في الحياة والرفاهية والحب والوطن المغتصب كأن لم تكن ، المعاناة التي هربوا منها أصبحت كالنعيم أمام واقعهم في تلك اللحظات المؤلمة ، ولتذهب بخيالك أكثر تذكر أنه لم يكن موتاً برصاصة تسلب الروح في جزء من الثانية ، ولكنه غرق في بحر مظلم عميق بارد ، وكل من هؤلاء الشباب ، ينظر الى الموت فاغراً فاهه وهو يحاول أن يتفادى تلك الانياب الغادرة ولكن هيهات . أذا قرأت أو سمعت خبر غرقهم وانت تتناول وجبة هنئية او عصيراً بارداً ، أو قهوة ساخنة ، ثم لم تطف تلك المشاهد في مخيلتك ، ولم تتوقف عما تمارسه للحظة واحدة ، تذكر أنك فقدت أنسانيتك ، ولم تفقد فقط حريتك او إنتمائك لوطنك .4ليس هنالك مالم يكتب أو يقال عما ارتكبه النظام الدكتاتوري الوحشي من جرائم بحق الشعب الوطن الارتري ، بدءا من تقتيل واعتقال وتشريد شعبه ، وليس آخراً جعله شعباً وبلدا منبوذا في المجتمع الدولي مرتبط بالحروب وخلق المشكلات لدول الأقليم ، كما أن الحديث عن غياب الشرعيه الدستورية ، والحريات ، وفرص الحياة الكريمة ، والأمن والامل كلها يمكن أن تأتي متراصة في صف طويل من عورات النظام وهى عورات عصية على الرتق وأوضح من الحديث عنها ، أو تفصيلها أو حشد الأدلة لإثباتها ، كما أن سلوك النظام القولي والفعلي لا يجتهد كثيراً ليثبت عكس ذلك ، ولكن رغم ذلك تجد خطابنا كأمة تبحث عما ضاع منها نعرف أنفسنا بما هو معرّف او معروف ، 5بيد أن الذي لم ننتبه له ، ولا نريد أن ننتبه له هو ان هذا النظام مع سبق الإصرار والترصد إغتصب إنسانيتنا كشعب ، وهو بذلك أستلب مشاعرنا فليس في مقدورنا أن نغضب أو نحزن أو نفرح وبالتالي لا يتوقع منا رد ، إذ ان ردود الفعل تتوقف على الإدراك وما يترتب عليه من مشاعر ليتكامل مع عملية بيايلوجية يفرز فيه الجسم أنزيمات محددة بقدر معلوم يكون تأثيرها تعبيرا يرتسم على ظاهر حواسنا فنتصرف على اساسه بكاءاً او ضحكا ، سلماً او حربا. هجوماً او هروباً … او إنتحارا.6عندما أعتلى الإنسان البطل عواتي وصحبه الميامين في فجر الفاتح الاغر من عام 1961 ، وأطلق الزخات الأولي من بندقيه العتيقة كان يمارس رد فعل الانسان على ظلم تطاول وأنعدمت وسائل إمتصاصه غير تلك الوسيلة ، ومنذ ذلك اليوم والى فجر التحرير ونحن نتغاضي عن ممارسة إنسانيتنا في الإحساس بالجرح والفقد والألم ، بيد أنه التعالي على الجراح والتغاضي عن الألم يجب أن يكون مؤقتاً بحيث لا يتجاوز لحظة الفعل الايجابي حتى لا يكون معيقاً في طريق إزالة مسببات الألم الاساسية ، أما أن تستمرأ أمة التغاضي عن الألم ، وتستنكف الحزن ، تكون قد حكمت على نفسها بعاهة مستديمة ، وفقدان القدرة على الحزن هو كما أنعدام القدرة على الفرح .7التغاضي عن الحزن ، ولعق الجراح دون أنين ربما كان متطلبات المرحلة النضالية في نظر البعض ، وعلى الرغم من أن هذه الفرضية قابلة للنقاش ولكنها على الأقل يمكن قبولها على علاتها ، ولكن أن تكون تلك خصلة دائمة فذلك إغتصاب مقصود لأهداف مدروسة ربما هي سبب تطاول مأساتنا كشعب إرتري ، وكيف لنا أن نضع حد للمأساة ونحن لا ندرك أنها مأساة حقيقة سوى أننا نكرر انها مأساة من دون الاحساس الحقيقي بألم المأساة.8أن ثمن الحرية وفق الروايات التي نسمعها ، تجاوز مائة الف شهيد ، فنحن شهدائنا يكونون بالآلاف عادة ، ولدينا غرام لا يتوقف مع الاصفار المضافة للإرقام ، وتسمى العملية (التقريب) في علم الحساب ، وهو ما يعادل 2.5% من جملة سكان إرتريا ، هذا الرقم التقريبي لا توجد اى وثائق تسنده سوى اننا نعلم أن في كل بيت إرتري شهيد أو اكثر ، وإن لم يكن في الاسرة الصغيرة فستجده في الاسرة الممتدة ، وفي تواطئ واضح ومقصود لم تسعى الدولة لتوثيق ذلك السفر المضئ من تاريخنا ، لم تحفر اسمائهم في شواع مدننا أو ميادينها ، جعلتهم نكرات لا اسماء لهم ولا أحلام ، وكأنهم لم يكونوا بشرا لديهم أمهات ، بنين وبنات ، زوجات وحبيبات ، طموحات وأحلام . صرنا نتعامل مع الشهداء وكأنهم شئ لاندرك أبعاده ، وبالتالي لم نستطع معرفة الاحساس الحقيقي تجاههم ، أنعدم الاحساس الحقيقي بالحزن لفراقهم ، والفخر لما أنجزوه ، والوفاء لما سعوا اليه ، والحفاظ على ما ماتوا من أجله ، صرنا نردد كلمة مثل (أمانة الشهداء في أعناقنا) ، لكن لم تنغرس الكلمة معنى ومبنى في دواخلنا ، وكيف ذلك ونحن لا ندرك من هم ، كل منا يعرف من يعرف ولكننا كأمة وشعب ووطن لا نعرف البعد الكامل لهذا التاريخ.9لم تتوقف طاحونة الموت ، والدراكولا في وطننا لا يشبع من الدماء ، وجاءت حرب 98-2000م ، ووفق الرويات الرسمية فإن العدد هو 19 الف شهيد ، ولكن تذهب روايات أخرى الى 40 الف شهيد أى ما يعادل 1% من جملة سكان إرتريا ، وتكرر المشهد ، منعت مشاهد الحزن ، وسرق الدمع من عيون الأمهات ، مخيمات العزاء أصبحت ممنوعة بحكم القانون ، ولم ينشر سفر يحوي العدد ، او لوحة جدراية في شوارع اسمرا تحوى الاسماء ، لقد اصبح هم النظام منع هذا الشعب من تجميع حزنه ، وتحويله الى طاقة وهو الذي يموت رعباً من الجهود المجتمعة حتى لو كانت لصالحه ، وكما هو الحال السابق فإن تعداد شهدائنا عادة ينتهى بالرقم صفر ، وليظن من يظن أنه ربما ذلك يأتي تسهيلا أو تكاسلا ، ولكننى أجزم بأنه يأتي تواطأ مقصودا من أجل أستسهال القضية ، فالأرقام التي بعد الاصفار لا تعنى شيئاً طالما ليس لهم بواكي أو لم تكن لهم طموحات .10وإذا كان في كل ما ذكر توجيه المسئولية للنظام ، فإن حرث النظام أثمر ولا شك ، وكشف الحادث الاخير لغرق الشباب الارتري في البحر المتوسط ليكشف إنعدام أنسانيتنا التي تواطأ النظام على أغتصابها جهراً ، كما اننا لم نسعى إلى إستردادها ، وكيف لنا ونحن لا ندرك اننا فقدناها ، العدد المفقود هو بين 300 او 400 شاب بطموح كامل غير منقوص ، ولكن لم يسعى أحد لتوثيق المأساة ، ولم يبادر تنظيم أو منظمة للحصول على الرقم الحقيقي أو الاسماء ، وظلت أفئدة كل الامهات الإرتريات ممن خرج لهن ولد او بنت مكلومة تنتظر خبر إذا كان ابنها أو بنتها بين هؤلاء ، ولكنها لم تجد من يطفئ حرارة تلك الجذوة في قلبها تأكيداً ايجابيا أو سلبياً ، أمة لم تغضب لموت هذا العدد بفعل فاعل هل يمكن أن تغضب لغيره ، وشعب لم يحزن في مثل هذه الظروف هل يمكن أن يحزن في غيره ، وهل من مفجر للطاقات غير الغضب والحزن في هذه الحياة.11إن البحث عن الحرية ، أو الديمقراطية في وطننا مطلوب اليوم قبل الغد ، والعمل له واجب على الجميع ، ولكن أستراداد إنسانيتنا هو الطريق إلي ذلك ، كن أنساناً قبل أن تكون حراً او ديمقراطياً ، وهل للحرية معنى إن لم تكن أنسان ، لتكن أنسان يجب أن تتعلم الحزن ، والغضب ، تتعلم معنى الكرامة والعزة ، فقط الإنسان هو الذي يهتم بهذه المعاني ، ونحن شعب نعيش من غيرها لعقدين من الزمان بفعل فاعل بعد خروج الاستعمار الذي ظنناها سبب إغتصاب إنسانيتنا . الثورة في تونس خرجت بسبب البحث عن الكرامة المفقودة ، الشاب بوعزيزي غضب لأن كرامته أهينت ، ولأنه أنسان تصرف بما يمكن أن يقدر عليه ، وهكذا خرجت أمة بكاملها تبحث عن كرامة بوعزيزي وكرامتها . أن الصراع حول الوسائل المثلى للنضال سلماً او حربا ، مع إثيوبيا أو ضدها ، مع التحالف او خارجه لن يجدي شيئاً ، ما نحتاجه هو تجميع بقايا الانسانية الموجودة في كيان الأمة ، وتجميع فتات الاحزان من دواخل شعبنا ، حتى إذا ما عادلت مجتمعة كرامة إنسان تحركنا على اساسها ، وحينها فقط سندرك أن الذي يحدث الآن في ساحتنا من خلافات عقيمة ما هو إلا صراع الديكة ، وبما اننا جميعا صرنا بشر بكرامة سنتعالي عليه .12وأستراليا تحتفل بتاريخ أبطالها وشهدائها في هذه الايام (ANZAC DAY) حيث حارب الاستراليين والنويزلندين في خندق واحد ، والدولتين يتذكرون جميع الشهداء والأحياء ، وأسرهم ، يذكرون قصصهم ، وطموحاتهم ، أتقدم بالتعازي الحاري لكافة أسر شهداء البحر المتوسط ، الذين تعرفوا على أبنائهم والذين ينتظرون الاخبار بين اليأس والأمل ، لا أملك إلا ان اقول أن هذا النظام نخر عميقاً في دواخلنا ، هندس ردود فعلنا على جرائمه ، وعندما أدرك أننا أمة بلا مشاعر ، لا نغضب ، بدأ بفعل مايريد دون خوف أو ووجل ، وكيف يخاف والعطب قد أصاب رأس الأمة ، حيث يفترض أن تكون الإستنارة والتوجيه ، كيف يخاف والعطب قد أصاب (نخبتنا المدعاة ) والنخبة الحقيقة في الأمم كقرون الأستشعار تتلمس الخطر قبل وقوعه ، وترسل الإشارات المناسبة لتفاديه ، ولكن هيهات في وضعنا فنحن أمة بلا قرون استشعار الآن ، شكراً (Yosief Ghebrehiwet ) على المقالة الرائعة (The Elite: Normalizing the Abnormal State of Eritrea ) * فقط عندما ندرك أننا غير طبيعيون ، ونتعاطي مع وضع غير طبيعي ، حينها فقط قد نبدأ البداية الصحيحة ، ولكن ياتري كم Titanic نحتاج حتى ندرك ذلك . للتواصل مع الكاتب :razig2002@yahoo.com * * http://asmarino.com/articles/998-the-elite-normalizing-the-abnormal-state-of-eritrea

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى