تعليقاً على مقال محمد عثمان علي خير :اريتريا مسكونـة بهـاجس الإشعاع (2 -2) : أ. صديق محمد أحمد مضوي
20-Sep-2005
الصحافه
في الجزء الأول من هذا المقال اتفقنا مع الصحافي الأريتري محمد عثمان علي خير في أن سياسات نظام أفورقي تجاه السودان «ثابتة وغير قابلة للتغيير»ولكننا اختلفنا معه في أن مرد ذلك لارتباط النظام بالمخططات الصهيو-أميركية في منطقة القرن الأفريقي مع قناعتنا بتأثيرها،
ولكننا قدرنا أن العامل الأهم هو تأمين النظام نفسه وضمان استمراريته.. فهو نظام طائفي شبه معزول بالداخل وبحكم أغلبية ذات هوية وتوجه مختلف ويحادد السودان الذي له ارتباط سكاني وثقافي وثيق بأريتريا وتبنى مشروعا حضاريا إسلاميا قال عرابه الدكتور حسن الترابي إنه سيؤثر في جيرانه لا عن طريق «التدخل» وإنما عن طريق «الإشعاع».. وهذا ما جعل النظام الأريتري يتبنى مبدأ «عدم استقرار العلاقة مع السودان» كأحد مرتكزات سياسته الخارجية التي لا يحيد عنها.. وظل يعمل على عدم استفادة الأغلبية المسلمة في الشعب من جوارها للسودان وعلى تغيير التركيبة السكانية في منطقة غرب أريتريا، والنظام الأريتري تبنى من ناحية كل فصائل المعارضة المسلحة السودانية، وقام بإسناد هجماتها في شرق وجنوب السودان، واحتفظ بها كأوراق ضغط، ومن ناحية أخرى رفض الاعتراف بالمعارضة الأريترية ورفض عودة اللاجئين الأريتريين من السودان، وظل يرفض أي تفاوض حتى العام 1998م.. وكل ذلك لتكريس مبدأ «عدم استقرار العلاقات» ولتجنب التأثير بالإشعاع الذي قد يطيح بالنظام!!الشيء الغريب فعلاً أن هذا المبدأ الأريتري ظل معمولاً به حتى اليوم، رغم أن العام 1998م والأعوام التي تلته قد شهدت متغيرات عديدة وكبيرة على المستوى المحلي السوداني وعلى المستويات الإقليمية والدولية.. وهذا ما دعانا إلى أن نقرر في ختام المقال السابق أن هاجس «التأثير بالإشعاع» لم يعد له صدى في أي مكان غير أسمرا.حتى على المستوى المحلي الأريتري حدثت متغيرات كبيرة وكانت كفيلة بجعل النظام يراجع سياساته تجاه السودان.. ولكن ذلك لم يحدث.. على رأس تلك المتغيرات الحرب مع أثيوبيا التي خسرتها أريتريا عسكريا وسياسيا وأثرت على البنى التحتية للاقتصاد وأدت إلى فقدان النظام لهيبته في الإقليم التي كان يتظاهر بها إلى درجة الغطرسة، كما أدت إلى ظهور دلائل تفكك داخل حزب الجبهة الشعبية الحاكم حيث ظهرت أكثر من مجموعة تطالب بإجراء اصلاحات سياسية.هذه الإفرازات التي نتجت عن الحرب أدت إلى إنهيار الأحلام الأريترية.. وما زاد الأمر صعوبة على النظام انحياز الغرب إلى أثيوبيا بحكم ثقلها الحضاري والجيوسياسي والديموغرافي في المنطقة، وعليه فلم يكن مستغرباً أن يحاول النظام استعادة ثقة محيطه الطبيعي في العالم العربي والإسلامي بسلسلة من الإجراءات منها قبول نتيجة التحكيم الدولي التي أعادت أرخبيل حنيش إلى السيادة اليمنية.. وزيارات الوفود الأريترية إلى عدد من العواصم العربية.. وأيضاً إبداء النظام استعداده للانضمام إلى عضوية جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي وكان قد رفض من قبل الانضمام إلى المنظمتين.. بل حجم اللغة العربية وجعل التيجرانية هي اللغة الأولى في البلاد.. وكل ذلك كان بناء على استراتيجية تقوم في أحد مرتكزاتها على الابتعاد عن العالم العربي.. ورغم أن العرب كانوا يعلمون أن عودة نظام أفورقي إليهم تكتيكية وليست استراتيجية، إلا أنهم لم يخذلوه وقدموا له مساعدات مقدرة منطلقين من التزام أدبي تفرضه الروابط الثقافية والدينية والتاريخية وأيضاً لموقع أريتريا الحساس على البحر الأحمر الذي يرتبط بالأمن القومي العربي وهو موقع يستحق محاولة إبعاد أريتريا عن المحور الصهيو- أمريكي الذي يسعى للهيمنة على المنطقة.ما يهمنا هنا هو أن سلسلة الخطوات التي اتخذها نظام أسمرا لاستعادة ثقة العرب كان من بينها طلب وساطة عربية لتحسين العلاقة مع السودان.. وهذا التوجه الأريتري وجد ترحيباً سودانياً خاصة وأن الحكومة كانت قد أبدت توجهاً صادقاً وشرعت في خطوات عملية من أجل تحقيق الوفاق الوطني والسلام.بهذه الرغبة المشتركة من الجانبين نجحت الوساطة العربية وخاصة المبادرة القطرية في إعادة العلاقات فتمت إعادة التمثيل الدبلوماسي وتبادل الزيارات على مستوى الرئيسين ووزراء الخارجية والدفاع وقادة الحزبين الحاكمين.. ولكن كل ذلك مضافا إليه مشاركة أريتريا في آلية إيقاد التي توسطت لإنهاء الصراع في جنوب السودان ونجحت في مهمتها وأيضاً حياد السودان إزاء الحرب الأثيوبية- الأريترية وإزاء الأزمة الداخلية التي نشبت بين الرئيس أفورقي والمنشقين عليه.. كل ذلك لم يوقف تحرشات النظام الأريتري ضد السودان فكان إسناد الهجوم المسلح على همشكوريب وعلى كسلا وقطع الطريق القومي واختطاف الدستوريين لضمان استمرار التوتر في علاقات البلدين. وهذا ما يؤكد ما ذهبنا إليه من أن مبدأ «عدم استقرار العلاقة مع السودان» يعتبر استراتيجياً في سياسة أريتريا الخارجية من أجل تأمين النظام وحمايته من مؤثر خارجي فعال قد يقلب الموازين الداخلية.. فنظام الرئيس أفورقي هو نظام مسيحي طائفي يتحكم فيه أغلبية مسلمة وليس من مصلحته إقامة علاقات طبيعية مع بلد مجاور وكبير ومؤثر كالسودان!!.وأخيراً يمكننا أن نقرر أن النظام الأريتري غير مستعد لتغيير سياساته تجاه السودان إلا في حالة أن يكون له دور مؤثر في تشكيل مستقبل السودان.. والمعطيات حتى الآن تستبعد مثل هذا الدور.. فعندما تفاقمت أزمة دارفور سعى النظام إلى احتواء الحركتين المسلحتين كورقة ضغط بديلة للحركة الشعبية التي وقعت اتفاقية نيفاشا مع الحكومة وأصبحت شريكا في الحكم، وتمسك أكثر بجبهة الشرق «الأسود الحرة ومؤتمر البجا» الكفاح المسلح كورقة ضغط بديلة للتجمع الوطني الذي أصبح خلال المرحلة الأخيرة أكثر تمركزاً في القاهرة منه في أسمرا ووقع مع الحكومة اتفاقية القاهرة، بل ان أكبر مكوناته «الاتحادي الديمقراطي» وافق على المشاركة في حكومة الوحدة الوطنية!! وهاتان الورقتان «مسلحي دارفور وجبهة الشرق» قد لا تحققان المخطط الأريتري .. فبالنسبة لدارفور رفض الاتحاد الأفريقي نقل مقر المفاوضات من إنجمينا إلى اسمرا وقرر إجراءها في أبوجا.. وفي أبوجا رفضت الحكومة وجود الوفد الأريتري كوسيط فقرر الاتحاد الأفريقي أن يشارك بصفة مستشار للحركتين المتمردتين.. أما بالنسبة لجبهة الشرق فقد وافقت الحكومة على إقامة منبر خاص للتفاوض معها دون أن يكون لأريتريا أجندة أو تأثير على المفاوضات، ولهذا اقترح المبعوث الدولي إيان برونك أن تكون نيروبي مقراً للمنبر!!من الواضح أن أريتريا قد تخرج صفر اليدين من ترتيبات الأوضاع السودانية ولهذا لا نتوقع تغييراً في سياساتها تجاه السودان خاصة وأن المؤتمر الوطني سيكون هو القوة الرئيسية لست سنوات قادمة على الأقل، وعليه يصبح العامل الأقرب والأكثر احتمالاً للتطبيع بين البلدين هو حدوث تغيير سياسي في أسمرا.