21-Oct-2005
صحيفة الوطن
هذه قصة العلاقات بين النقيضين..!ما الذي جمع بين الترابي ـ الإسلامي المتشدد ـ وأفورقي الماركسي المسيحي المبرمج..؟! كيف خدم التاريخ نظام الإنقاذ بعد تدهـور العلاقات بين أسمرا وأديس أبابا..!
لا أتصوّر أن ثمّة سوداني مدرك لأهمية ومكانة العلاقة مع الجارة أريتريا لا يتمنى أن تزول التوترات والمشكلات الكبيرة والخطيرة التي ظللت هذه العلاقات بسحابة بالغة العتامة طوال 12 عاماً مضت..!والعلاقات بين نظامي الإنقاذ في السودان ونظام الجبهة الشعبية الأريترية علاقات لا ينطبق عليها المثل القائل ـ لا محبّة إلاّ بعد عداوة ـ إذ أن الذي حدث بالضبط هو أن العداوة المفرطة بين النظامين جاءت بعد «محبّة» بلغت حد الوله والتمجيد قبل إستقلال أريتريا وبعده..!وللعلاقات بين السودان والحكومات المتعددة حكايات طويلة تحتاج إلى مؤلفات وكتب وأبحاث ـ وفهامات ـ توزع مع هذه وتلك حتى يفهم الإنسان العادي هنا وهناك تقلبات وتعقيدات هذه العلاقة على المستوى السياسي والحزبي.. أما على المستوى الشعبي فالسودانيون على إطلاقهم ما رحبوا بأبناء بلد آخر من المقيمين والعابرين كما رحّبوا بأبناء أريتريا لإعتبارات عديدة نذكر منها إعتبارين اثنين والباقي متروك لفطنة القاريء الكريم..!أولاً: التداخل الجغرافي والتاريخي والقبلي بين الشعبين..!ثانياً: التعاطف السوداني المطلق ـ شعبياً ـ طبعاً مع القضية الأريترية منذ بدايتها في مطلع الخمسينيات حيث ـ مكر ـ الحكم الامبراطوري الأثيوبي على الشعب الأريتري أحد شعوب المستعمرات الإيطالية في أفريقيا ـ جنوب الصومال وليبيا وأريتريا ـ ورفض منحه حق تقرير المصير، بينما نالت شعوب ليبيا والصومال نفس الحق بقرار دولي يشمل أريتريا أيضاً..!وحتى لا تفوتنا مسألة التعاطف مع القضية الأريترية تاريخياً وقبل إستقلال أريتريا في مطلع التسعينيات، نقول بكل أسف إن التعاطف أو ضرورات التعاطف والتكاتف مع الشعب الأريتري قد تجددت سودانياً وعلى المستوى الشعبي بعد إستقلال أريتريا..!والسبب هو هذا التشابه العجيب والمريب في أمرين اثنين أيضاً:أولاً: مواصلة معاناة الشعب الأريتري في ظل الحكم الوطني، حيث ينعكس ذلك في أوضح صوره العديدة في مسألة تزايد الهجرة والنزوح وسط الأريتريين بمعدل تقول الإحصائيات والتقارير أنه فاق نزوح وهروب الأريتريين إبان الحقبة الإستعمارية بكل أسف..!ثانياً: عداء الحكم الوطني الأريتري للسودان البلد وليس للسودان «النظام وحسب» إذ أن الحكم الأريتري الذي عاونه ودعمه الشعب السوداني طيلة كفاحه المرير والطويل ضد الإستعمار الأثيوبي رد على كل ذلك بأكبر قدر من الجحود والعقوق، حيث إنتهج ذات النهج الأثيوبي في إيذاء السودان عن طريق دعم الحرب في جنوب السودان، حين أقام النظام الأريتري تحالفاً مكشوفاً مع الحركة الشعبية إبان فترة الحرب في جنوب السودان، حتى إذا بدأت جهود السلام التي تكللت بالنجاح بحمد الله وفضله كان النظام الأريتري سواء داخل الإيقاد أو خارجها يلعب لعبة التعويق والإعاقة ضد كل مساعي السلام التي إنتصرت فيها الإرادة السودانية والأفريقية والدولية على إرادة دعاة الحرب وفي مقدمتهم النظام الأريتري الذي تمدد في علاقاته ضد إستقرار السودان وأمنه وسلامة ووحدة أراضيه بحجة دعم المعارضة السودانية ممثلة في التجمع الوطني الديمقراطي السوداني وبحجة رسمية مضحكة وهي القول بمساعدة الشعب السوداني في تحقيق الحرية والديمقراطية والتعددية وهو قول تنطبق عليه في الحال قاعدة «فاقد الشيء لا يعطيه» إذ أن النظام الشمولي أو العسكري السوداني وفي مختلف الحقب والأزمنة يعتبر متقدماً في إنسانيته وديمقراطيته بمئات السنين مقارنة بالنظام الأريتري الممعن في القهر والإستبداد وحكم الفرد الواحد الأحد والمطلق بشهادة الجميع في أريتريا التي تشهد مقابرها.. وسجونها.. ومنافيها على حكم قلّ ان وجد له شبيه في عصرنا هذا، وإن وجد له مثيل في التاريخ فهو لا يقل نازية وقهراً وبطشاً عن النظام الهتلري المشهور تاريخياً والمتفرد في عنفه وقهره وإستبداده..!لا أحد يريد التوتر..!مرة أخرى، وبرغم كل هذا فإن لا أحد على الإطلاق يريد لهذا الوضع الخطير في علاقات النظامين أن يتواصل إذ يسعد الناس، كل الناس، أن يحدث التحول ولو تدريجياً في هذه العلاقات حتى توفر بلادنا كل هذا الرهق والتوتر والتحسب على حدودها الشرقية، إذ من القاطع في القول بأن كل مشاكل شرق السودان وتردي أوضاعه الأمنية وما نجم عنها من مشكلات تواجه إنسان هذا الإقليم مسؤول عنها النظام الأريتري وبالتالي متى ما رفع هذا النظام يده وإبتعد عن الألاعيب الخطرة في الشرق عادت الأمور إلى طبيعتها وتوفّر للشعبين السوداني والأريتري كل هذا الذي يصرف ويبدد عسكرياً وأمنياً وسياسياً في شرق السودان سواء داخل حدود البلدين أو داخل الإقليم نفسه..!ولكن هل ثمّة خلفية لازمة لإلقاء الضوء على هذا التطور الدراماتيكي المذهل في علاقات نظامي الإنقاذ والجهة الشعبية، حيث تحوّلت المحبة إلى عداوة..!نعم ولكن بأقل قدر من التوضيح لأن الأمر يتطلب الإسهاب والإطالة في الشرح، وهذا ما لا تسمح به المساحة ولا وقت قاريء الصحيفة التي هي ليست بالطبع كتاباً ولا مجلة ولا بحثاً أو ورقة عمل..!كانت العلاقة بين الجبهة القومية السودانية بقيادة الدكتور حسن الترابي إبان العهد الديمقراطي الأخير وبين الجبهة الشعبية لتحرير أريتريا بقيادة أسياس أفورقي قد قامت في الأصل على خلفية سوء علاقات، أو فتور علاقات.. أو سوء فهم في العلاقات ـ لنسمه كما نشاء ـ بين حزب الأمة والقضية الأريترية منذ بداية إنطلاقها في مستهل الخمسينيات..!خلفية تاريخية مهمةوالسبب في جوهره ومظهره هو تلك العلاقات التاريخية المميّزة بين البيتين الكبيرين في السودان وأثيوبيا، ونعني ـ بيت المهدي.. وبيت الامبراطور هيلاسلاسي وعرشه..!كذلك وبرغم العلاقات المميّزة بين الحزب الشريك في السلطة الديمقراطية في سودان ما بعد الإنتفاضة عام 1985 وهو الحزب الإتحادي الديمقراطي وقاعدته الختمية، فإن الجبهة الشعبية لتحرير أريتريا بقيادة أسياس أفورقي وعقب إنسلاخها من «قوات التحرير الشعبية» بقيادة المرحوم عثمان صالح سبي إعتبرت العلاقات بين الإتحاديين وقاعدتهم الختمية عملاً مضاداً لمصالح الجبهة الشعبية، فكان الخلاف وكان الموقف من حكومة الإئتلاف بين الأمة والإتحادي منذ عام 1985 وحتى إنقلاب الإنقاذ عام 1989..!عام 1988 ـ إن لم تخنِ الذاكرة ـ قام وزير داخلية حكومة الحزبين ـ الأمة والإتحادي ـ السيد مبارك المهدي بحجز أسياس أفورقي ومنعه من مغادرة السودان برغم أن جوازه أجنبي ـ دبلوماسي صومالي..!كان ذلك الحدث الكبير الذي عمّق الخلاف بين حكومة الحزبين السودانيين والجبهة الشعبية هو الذي خلق التقارب بين النقيضين.. وهما.. الجبهة الإسلامية القومية بقيادة الدكتور الترابي ـ المعارض ـ آنذاك ـ وبين الجبهة الشعبية لتحرير أريتريا بقيادة أسياس أفورقي..!كان المدهش في ذلك التحالف ليس أمراً واحداً.. بل عدة أمور نوجزها فيما يلي:الجبهة الشعبية لتحرير أريتريا هي واجهة خفية أو علنية لتطلعات وطموحات العالم المسيحي الخارجي ولقطاع كبير من مسيحيي الداخل في أريتريا..!الجبهة الشعبية ذات توجه ماركسي ماوي وليس منعدم الصلات بالإتحاد السوفيتي آنذاك..!الجبهة الشعبية ولقطع الطريق أمام أي توجه أريتري نحو العالم العربي أو تطبيق نظرية أو أمنية جعل البحر الأحمر بحراً عربياً من السعودية مروراً بالسودان ووصولاً إلى الصومال وجيبوتي، فاليمن تحالفت مع القوى المسيحية والماركسية الأثيوبية ممثلة في حركة تحرير التيجراي التي تزامن وصولها للحكم في أثيوبيا بقيادة الرئيس المعتدل ملس زيناوي مع وصول الجبهة الشعبية لتحرير أريتريا للسلطة في أريتريا بعد تدمير غربي واضح لنظام منقستو هيلي ماريام، حيث إتفق بين الدول الغربية وجبهتي أريتريا والتيجراي ـ على حكم يحفظ للغرب مصالحه ـ ويبقي أثيوبيا غير الموحدة خلفه مسيحية غربية ويبقي أريتريا الخارجة من صلب أثيوبيا تدور في نفس الفلك وتعادي من تعادي وتقاتل من تقاتل حولها ولكن تبقى بعيدة عن العالمين العربي والإسلامي ويبقى البحر الأحمر بعيداً عن أي نفوذ عربي كما كانت تريد وتنادي الجبهة الأريترية الأخرى التي زحفت عليها جحافل التآمر الغربي المدروس والتآمر العربي والإسلامي أو لنتواضع ونقول الغفلة العربية والإسلامية..!كان التحالف والتآلف بين الجبهتين المتناقضتين دينياً وأيدولوجياً ـ ونعني الجبهة الإسلامية السودانية وجبهة تحرير أريتريا ـ قد بلغ مداه في أواخر العهد الديمقراطي، حيث توج كل ذلك بمواقف إنقاذية كبيرة وخطيرة لصالح النظامين الوليدين في أثيوبيا المسيحية وأريتريا المسيحية الماركسية بقيادة أفورقي..!ذلك الدعم الكبير..!إن تفاصيل الدعم الإنقاذي لنظامي أفورقي وزيناوي في أريتريا وأثيوبيا نقول إنه كان دعماً في غاية الأهمية، ولكن بالطبع ليس لدرجة القول بأنه لولاه لما كان النظامان الأريتري والأثيوبي نجحا وإستمرا بعد إسقاط منقستو هيلي ماريام..!ذلك القرار الغربي كان قد اقتضى إحداث هذا التغيير في أثيوبيا وأريتريا ضمن حسابات محسوبة بدقة متناهية..!ونظام الإنقاذ المستفيد من تلك التحولات في أريتريا وأثيوبيا منطلقاً من خلفية الحرب في جنوب السودان وصراعه ضد حركة قرنق ذات التوجه الثنائي الشبيه جداً بحركتي التيجراي في أثيوبيا والجبهة الشعبية في أريتريا..!إنني إذ أكرر بأن لا أحد ضد هذا التحسُّن، فإنني أيضاً ومن باب التخصص والإلمام التاريخي بأهمية ومكانة العلاقات بين شعبي أريتريا والسودان أشير بإيجاز شديد للمحاذير الآتية:منتهى الحذرالنظام الأريتري لن يكون صادقاً في ترحيبه بتحول ديمقراطي تعددي حزبي في السودان الذي له تجربة سابقة مع نظام عربي مجاور إحتضن المعارضة السودانية ضد نميري تماماً كما إحتضن أفورقي التجمع السوداني ضد الإنقاذ، وعندما وصلت المعارضة السودانية تلك إلى السلطة منطلقة من خلفيتها في العلاقات مع البلد العربي المعني قدّمت يومها الفواتير للحزبين الكبيرين وطلب منهما تطبيق نظام سياسي وجماهيري يقوم على أساس «اللجان في كل مكان».. «ومن تحزّب خان»..!الحوار الجاري مع الوفد الأريتري الزائر الآن، أو ما سيجري بواسطة اللجان الخمس المتفق عليها كما أعلن يجب أن يلمس أمهات القضايا بين البلدين ليس بحيث يحترم كل طرف خيارات الطرف الآخر في نظام الحكم والسلطة ولكن الحوار حول التوجه المتناسق بين البلدين نحو الإنفراج والإنفتاح الداخلي في كل بلد من البلدين كبديل لأية مطالبات أو ملاحقات.. أو عمليات تسليم وتسُّلم لمعارضين أريتريين جاءوا للسودان في ظل التعقيدات والمشكلات بين النظامين وهو وجود لا يجب بأي حال من الأحوال أن يستخدم كورقة مساومة على الأقل من جانب الحكومة السودانية التي تورّطت في سني الإنقاذ الأولى في تقديم هدية أو هدايا بشرية وعينية لنظام أفورقي وكان مصيرها معروفاً وهو الاعلام بعد وضع الأقدام داخل الحدود الأريترية، كما أن المعدات والإمكانات التي صادرتها حكومة الإنقاذ الترابية القيادة في سنيها الأولى استخدمت بكل أسف ضد السودان عندما وضعت كلها أو جلها ـ بما فيها السفارة السودانية بأسمرا ـ تحت تصرف حركة قرنق ومعه عناصر التجمع السوداني الأخرى..!ونصيحة لمن لن يفوتهم أو يتجاهلون هذا الأمر.. لا تقايضوا بالمعارضة الأريترية في أية صفقة تفاهم أو صلح أو تحسُّن في العلاقات مع أسمرا، بل ليكن السعي المسؤول لأجل تكرار تجربة المصالحة والوفاق التي تنتظم بلادنا الآن في أريتريا..!
