حصاد العام: 2021
بقلم/ عبد الله الشريف
لم يكن الوطن في كل تاريخه الحديث مهددًا كما هو..الآن، ولم يكن أسياس أفورقي في كل مراحله ثورة-ودلة خطرًا على الكيان واستقلاله، وسيادة أراضيه كما هو..الآن!!.
جرت العادة عندي مع نهاية كل عام أن أرصد ما أراه من وجهة نظري مُهمًا مُؤثرًا، ويستحق تسليط الضوء عليه فيما يشبه ” البانوراما” كما يسميه صديق..لنا. بدءًا بالسياسية والاقتصاد، مرورًا بالثقافة والأدب، وصولًا إلى الفن والابداع، والمبدعين..وتأثيرهم. من كونهم، هم من يستشرف المستقبل، ومن كون أن ما يشغلنا نحن أكثر هو المسقبل..وآفاقه، أو هكذا يجب أن..يكون.
أنا لستُ كاتبًا بأي معنى من المعاني، ولم أدعي في يومٍ من الأيام ذلك. أنا نفرٌ من الناسِ، أحاولُ “على تواضع إمكانياتي المعرفية وقدراتي الكتابية” أن أسلط الضوء كما أشرتُ على ما أراه يستحق ذلك، علهُ ينفع الناس، فضلًا عن أنها محاولة متواضعة مني للتوثيق ما أمكن. لأنني أعتقد أن تجربتنا، وفعلنا السياسي بشكل عام كان وما يزال ينقصه الكثير والكثير من الأشياء، التوثيق كان واحد من تلكم الأشياء، إضافة إلى القراءة غير الواعية للتاريخ واحداثه.
كل عامٍ وأنتم بخير، كان عامًا فريدًا مُختلفيًا بالمقارنة، مليئٌ بالأحداث السياسية والعسكرية، سيما الحراك السياسي الجماهيري على المستويين العالمي والإقليمي. أما على المستوى المحلي، كالعادة كان هناك ندوات ونقاشات سياسية كثيرة في غرف الزووم بمختلفِ اسمائها ومنابرها، حول المفاهيم والموقف السياسي الجديد/القديم من الحرب، ومن النظام..ومبرراته. اختلف الناس كثيرًا، بل في بعض الحالات كان الأمر يتجاوز الاختلاف السياسي (الطبيعي..المشروع) ليصل الى حد التشنج، وأحيانًا التراشق للأسف الشديد. وهناك كانت محاولات خجولة مرتعشة لتوحيد الصف الإريتري المنقسم بشدة في المواقف السياسية من الحرب من ناحية، والموقف من نظام أسمرة واستبداده من ناحية أخرى.
ومشهد آخر ثالث جديد غير وطني بالمرة، صاخب الى حدٍ بعيد، كثير الصياح، وكذلك الديوك.
ولأنه كان عامًا مختلفًا، ولأن الاهتمام بالمحلية لم يعد كافيًا، ولم يعد موضوعيًا حتى، كون أن العالم اليوم هو متداخل متشابك مفتوح، لا ابواب هناك، ولا ستائر. لهذا قد تجد ايها القارئ/ة بعض الاختلاف في رصدنا هذا (المقتضب-السريع) هذه المرة.
أحداث السادس من يناير في مقر المجلس التشريعي “الكونغرس” الأمريكي كانت البداية، وأول الغيث وأعظمه شأنًا وتهديدا، ليس للأرواح فحسب، بل لقيمِ ومبادئ الثقافة الديمقراطية التي تأصلت وتعمقت في المجتمعات هناك على مدى عقود وعقود، وبعد سلسلة طويلة من التضحيات والدماء.
فمن كان يمكنه أن يتخيل حتى، سيناريو صباح السادس من يناير، في دولة ترسخت فيها ثقافة الديمقراطية، والتداول السلمي للسلطة لأكثر من قرنين من الزمان، دولة ليست هي الأولى في العالم عسكريًا واقتصاديًا فقط، بل تكاد تكون الأكثر والأرسخ في ممارسة الثقافة الديمقراطية.
ولأنها كذلك، ولأنها دولة قانون ومؤسسات، ولأن القانون ومؤسساته الدستورية هي وحدها التي تحمي البلاد وسيادته، (وليس كما يعتقد البعض)، لتحول الأمر إلى كارثة سياسية وانسانية، خاصة وما يتعلق بمسألة الحريات العامة ومستقبل الديمقراطية على نطاقٍ واسعٍ من العالم، من حيث أن أمريكي دولة كبيرة مؤثرة، وكثيرة التعقيد. وهذا الأمر إن دلّ على شيءٍ فإنما يدُل على أنه ليس بالضرورة أن يأتي الخطر دئمًا من الخارج، او عبر الحدود كما يرى الكثير منا. قد يكون الخطر أحيانًا حالة داخلية، مثل ضَعف وفقر سياسي اقتصادي عسكري وبشري للدولة، ناتج عن سياسةِ سلطة فاشلة لم يكن لديها ما تقدمه، وحاكم مستبد سادي، ليس لديه إشكالية في ارتكاب وفعل اي شيء ليبقى في الحكم، كما هو الحال عندنا للأسف الشديد.
ومن قبل كانت الحرب الأثيوبية، التي بدأت مع أعقاب العام الماضي، لتستمر لأكثر من عامٍ في ظاهرة هي في الواقع ليست غريبة، هذا إذا نظرنا الى تاريخ الأمة الأثيوبية الذي عُرف بالحرب والنهب والقتل. فبقدر ما أن الحرب غيرت الكثير من المفاهيمِ والقيمِ الأخلاقية، ليس على مستوى الأفراد فحسب، بل على مستوى المنظمات الدولية، سيما الدول الكبرى، التي لطالما تحدثت عن إرتكارب جرائم حرب ترقى إلى مستوى الإبادة البشرية، وكأن الأمر (الإبادة البشرية) جديد هو في أثيوبيا وليس موروث ثقافي عندها. فكان الاستنفار والاستنكار الدولي غير المسبوق، ليصبح
العالم كله دون استثناء يتحدثُ، وبجميع اللغات عن دارفورٍ أخرى في إقليم “تِقْرِي” أي تقراي، وكأن أهلها ملائكة، وكأننا لا نعرف أولئك..الأشرار.
منهم من حاول أن يدخل علينا من باب الحقوق والأنسنة وحماية الأبرياء هناك، وهم ابعد ما يكونوا عن ذلك بكثير!!. وآخرون حاولوا إقناعنا بأن وجودهم هناك ماهو إلا دفاع عن الأمن القومي، وحماية لسيادة الوطن، وكأن هناك ما تبقى في الوطن من السيادة ومن الأمن!!. فبقدر ما غيرت الحرب وبدلت أشياء وأشياء، بقدر ما غيرتْ المشهد السياسي في المنطقة كلها، فلا يمكن قراءة الأحداث السياسية في السودان “المهرول” اليوم، بعيدًا عن أديس ابابا وعدم استقرارها السياسي/العسكري. وكذلك لا يمكن فصل ما يجري هناك، عن المشهد السياسي الاريتري، الذي لم يكن منقسمًا بهذه الحدية الشديدة للأسف الشديد (وهذا شأن آخر سوف نتحدث عنه بالتفصيل).
لكن يمكن القول باختصار شديد أن الحرب لم تكن، لم تعد أثيوبية أثيوبية بعد، ولا يمكن تعريفها او حصرها في هكذا تسمية حتى وان بدت كذلك، لأن ذلك يعتبر تبسيط للأمر، واستسهال لما يحدث في المنطقة، من دمار وخراب، وقتل للناس، وتشريد للأهالي!!!!.
وعلى الجانب الآخر البعيد، وعن أولئك الأبطال الذين قالوا في يومٍ من الأيام، كابول لنا، وكابول هي موعدنا، وقد كان.
فقد دخل مجاهدي حركة طالبان إلى كابول فاتحين منتصرين، وعادوا الى القصر مرة أخرى، وكأنهم لم يخرجوا منه. فكان درسًا مكررًا للعالم كله بأن هذه البلاد المباركة محصنة هي بأهلها. ورسالة أخرى تأكيدية لكل الأحرار في العلم، الذين يقاومون الظلم والاستبداد، والاحتلال بمختلفِ تسمياته “الوطني وغير الوطني” أن الثورة قد تضعف أحيانًا، وقد تتعثر تارةً، وربما تضل الطريق في بعض الأحيان، لكنها لا تموت.
الثورة تبقى دائمًا، طالما هناك وعيٌ عند الناس بضرورة الثورة، وإيمان شديد بعدالة القضية، واصرار وعزيمة وارادة قوية لتحقيق الأهداف. رسالة كأنها موجهة إلينا، لتنشيط ذاكرتنا المتعبة، حتى لا ننسى التاريخ، وحتى لا ننسى أيلول..والرفاق.
وعن الخرطوم وأهلها الأحرار، وعن أولئك الأبطال الذين قالوا: هذا الشارع لنا، الشارع الذي يكتب تاريخًا من جديد، ليعيد الى الذاكرة الحية هناك، عبق أكتوبر وما بعده من ثورات شعبية أبريل-وديسمبر. ليعلمُ الناس ومن قبلهم العسكر والجنرالات، ومن دخل عليهم عن غفلةٍ، في زمنٍ رديئٍ ، وحكامٍ ضّلوا كثيرًا، فأفسدوا الحكم والبلاد، حتى قال عنهم الطيب الصالح ( من أين جاء هؤلاء الناس ؟ بل – مَن هؤلاء الناس ؟)
وبعيدا عن هؤلاء وهؤلاء، وبعيدًا عن “ترامب” الذي هبط على السياسية هكذا من باب الرأسمالية المالية، وبخطاب شعبوي بغيض ليصبح رئيسًا لأمريكا في غفلة من الزمان. وعن اللئيم “ماكرون”، الذي يحاول أن يلعب ذات اللعبة القذره ليبقى في الحكم، حيث وصل به الوقحُ أن يشكك في تاريخ وبطولات وتضحيات أمةٍ، ما تزال تفاصيلها محفورة في أذهان أهلها، وفي أجسادهم، وكذلك في ملامحهم. وبعيدا عن الخبيث الدنيئ السافل اللص، الفاجر الفاسد الفاسق الشِرِّير رجل “الإمارات” الذي تجده، هو وبضاعته الفاسدة في كل الأسواق التي يراد لها فسادًا وإفساد.
وعن “قيس سعيد” هذا الذي يصعب وصفه وتصنيفه، غير أنه لئيمُ وفاقدٌ للحساسية، شخص جاء إلى الحكم محمولًا على منجزات الثورة الديمقراطية، وأول ما قام به كان التنكر لكل مبادئ وقيم الثورة، بل ذهب بعيدا في محاولة بائسة لاسكات الأصوات الحرة بالتهديد تارةً، والوعيد مرة أخرى، ليسجل بذلك تراجع لم يسبقه فيه أحد من قبل، إلا ديكتاتور “ترامب” المفضل “السيسي” على ثورة ميدان التحرير وأهدافها الديمقراطية وشعاراتها النبيلة (حرية-عدالة-كرامة انسانية)، التي كادت أن تغير العالم العربي، سيما الأفريقي، من كونها هي القاهرة التي تبدأ عندها الأشياء.
وأخيرًا كانت الخرطوم التي تمارس الهرولة هذه الأيام، عسكر ومدنيين يحاولون أن يغيروا من حقيقة حركة الشارع الذي بدأ يرسم بالدماء خارطة سياسية جديدة، ومستقبل جديد لسودانٍ..عظيم، يحترم ويقدر..الحياة.
وبالعودة الى الحرب (العالمية) في أثيوبيا وتأثيرها على على المشهد السياسي في المنطقة، سيما المشهد السياسي الاريتري أقول:
أثيوبيا لو تُركت لأهلها لما رأينا فيها يومًا واحد ينعم فيه الناس هناك بالسلام والأمن..والمحبة. لكن، ولأنها هي البوابة للسيطرة على الإقليم كله (أو هكذا يراها الغرب)، ومن ثم السيطرة على المعابر هناك، هذا باختصارٍ شديد دون الدخول في التفاصيل الأخرى (الثانوية) في رأيي، تجدُ هذه البلاد اهتمامًا خاصًا، بل تنافسًا بين الكبار بشأنها. فالكل موجود هناك حسب وضعه وقربه من هؤلاء وهؤلاء. منهم من يراقب ويتابع باهتمام شديد تطورات الحرب، ومنهم من هو متورطٌ تورط كامل فيها، وآخر من هو مُسيطر على اللعبة كلها، وإلا، كيف نُفسر هذه الانتصارات التي لا تصمد طويلاً، وتلك الانكسارات التي يتبعها إنتصار سريع في أرض المعركة (بغض النظر عن الكذب والمبالغة فيه هنا وهناك) الا أن هناك جهة مُسيطرة، وبيدها خطوط اللعبة كلها، الهجوم..الانسحاب..إعلان وقف الحرب من هذا الجانب او ذاك.
لهذا أقول: إلى أولئك الذين يراهنون على أن أثيوبيا في طريقها الى الانهيار والتفكك نتيجة لهذه الحرب غير النظامية كما يصفها البعض، وأيضا إلى الذين يعتقدون أن انتصار أديس أبابا على جماعة التقراي الشريرة سوف يُبعدُ أو يُزيلَ الخطر تمامًا عن اريتريا، أقول لهؤلاء وهؤلاء هذه قراءات حتى لو انها تحمل في بعضٍ منها شيء من الصحة، الا أنها غير دقيقة، وأقرب الى التمني منها إلى الاستراتيجيات، وفي السياسة لا يوجد شيء اسمه تمنيات. وفي النهاية، وكما هو معروف تاريخيًا، أثيوبيا لا تترك للأثيوبيين وحدهم ، تقارو كانوا أم أمهرا.
أيها الناس، هذه الحرب التي أصبحت مُرهقة بكل المقاييس ليس على أهلها فقط، بل على الإقليم وناسه، فهي إلم تفعل بنا نحن الاريتريون شيئًا، كشفت لنا كم الزيف الذي بيننا، وكم القبح الذي يحمله بعضنا، والضعف والهوان الذي نحن فيه، والبؤس والانقسام، وكذلك الفقر ليس في المال والصحة، بل في الوعي والمعرفة. وهذه الأشياء مجتمعة هي من يهدد مستقبل إريتريا السياسي، ك دولة مستقلة ذات سيادة أكثر من الأعداء التاريخين. قد وصل بنا الحال هذا العام، إلى الدرجة التي لا نستطيع أن نرى إريتريا الا من خلال “الترويكا” إذا صح هذا التعبير (أثيوبيا الكبرىتقراي الكبرىهقدف الكبرى). ولعمري، ما هذه إلا عودة الى مرحلة البدايات، والى المشهد الأخير من لقاء “بيت قرقيس”..الشهير، أو هكذا يبدو..المشهد.
وأخيرًا: أسياس ونظامه الفاشل إلم يكن شيء، فهو بالتأكيد كان وما زال الخطر الحقيقي والأول الذي يهدد وجود الكيان واستمرارية إريتريا ك دولة مستقلة ذات سيادة، ومن لا يدرك ذلك، فهو شأنه، فقط عليه أن يكُفَ عن الحديث في مسألة السيادة، سيما مسألة التغيير والدولة المدنية الدستورية. لأن هذه مسائل لا تتجزأ. وأن أسياس أفورقي لا يمكن أن يكون قاتلاً للأحرار، وطاردًا للعقول، ومشردًا للأمة، ومضيعًا للأحلام والوطن. وفي ذات الوقت يكون بطلًا قوميًا، وحامي الوطن والسيادة، ومنجزاته التاريخية.
أوقفوا هذا العبث الذي أنتم فيه، بل أوقفوا هذا..الهراء.
ويبقى السؤال: بعد كل هذا النضال، والثمن الباهظ الذي دفع فيه، من صمود بطولات تضحيات ودماء، إذا لم يكن أسياس أفورقي الذي قاد المسيرة ثورة ودولة لأكثر من خمسة عقود، هو المسؤول عن هذا الضياع وهذا التراجع غير المسبوق في التاريخ الاريتري الحديث، فمن يكون إذن؟ وإذا كان الأمر كذلك، أسياس يكون هو العدو الأول الذي يهدد مستقبل الدولة الإريترية السياسي، الدولة المهددة من أهلها أكثرُ من الأعداء..التاريخيين. أو هكذا أنا..أرى.
كل عامٍ وأنتم بخير .