جلال أبرا .. سيرة كفاح !
بقلم / محمد خير عمر
ترجمة / سعيد عبد الحي
قصة جلال ليست مجرد سرد موجز لسيرة ذاتية شخصية،وإنما هى رواية لكفاح الجبرتة من اجل الحفاظ على عقيدتهم وهويتهم وبحثهم عن المعرفة والعلم . التقيت به لأول مرة قبل عدة سنوات في مقهى “بروفيدانس” في أوسلو، ويعرف هذا المقهى فى اوساط العديد من الارتريين هناك باسم مقهى “آلجزائرى” ، لأن العديد من الجزائريين والمغاربة يرتادونه . كنت جالسا لوحدى عندما انضم إلي . كان بعض من أصدقائي قد حذروني منه واخبرونى انه غير ودي وعدواني ، ولكن من عادتى أنى دائما افضل ان اتحدث واستمع إلى الناس قبل ان احكم عليهم . نقاشنا قادنا بسرعة إلى قضية الجبرتة، التي اكتشفت في وقت لاحق ان لديه الكثير من الشغف والاهتمام بها . استمعت اليه باهتمام ، وتعرفت على الكثير من المعلومات الجديدة بالنسبة لى، وقررت منذ ذلك اليوم معرفة المزيد عن هذه القضية ، وقد نجح جلال في تغيير بعض المفاهيم الخاطئة التي كان لدي حولها. أعجبت بحججه الفكرية والمنطقية وبصدقه ، وبتسميته للاشياء بمسمياتها والجهر بها بصوت عال. من خلاله ولاهتمامي الخاص بمعرفة الحقيقة، عرفت المزيد عن الظلم التاريخي الذى تعرض له الجبرتة على يد الحكام الاحباش. وعلمت الكثير عن مدى تصميمهم الجبار للحفاظ على عقيدتهم في ظل ظروف تحدى عصيبة للغاية، وكذا عن نضالهم من أجل منح أنفسهم ملامح الهوية التى يريدونها لانفسهم .
قاد هذا اللقاء إلى العديد من التفاعلات والنقاشات الفكرية حول مختلف القضايا .
من الاشياء التى اعجبتنى فيه هو انه كان متواضعا ولا يحب الظهور . فهو نادرا ما يتحدث عن نفسه. استغرق منى الأمر وقتا طويلا قبل أن اكتشف أنه كان مقاتلا في الميدان مع تنظيم الجبهة الشعبية لتحريرارتريا وأنه قد اصيب ستة مرات فى المعارك ، وأن الاصابة الاخيرة جعلته مشلولا تقريبا لأكثر من سنة ، ومن المفارقات انه حدث فى مرات عديدة اثناء المناقشات، في حضوري، ان يتحداه البعض من مؤيدي الحزب الحاكم والذين لم يسهموا بأي شيء في النضال فيقولون له : ” …اصمت ، ماذا تعرف انت عن إرتريا حتى يحق لك ان تنتقد النظام”.
علمت سبب تسمية جده ب “ابرا “. مع ان اسمه الأصلي هو أبرار، لكن والدته (أى والدة جد جلال ) اختارت تغييره إلى “ابرا” لحمايته من التحول القسري إلى المسيحية ، حيث كان الامبراطور(الاثيوبى ) يوهنس يستخدم القوة لتحويل المسلمين إلى المسيحية. وقد قرأت في كتاب الفه أسقف قبطي مصري أن الكنيسة المصرية القبطية التي كانت تشرف على إدارة الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية قد نصحت الامبراطور يوهنس بأن يمتنع عن مثل هذه الممارسات. في أعقاب انتهاء عهد الإرهاب ضد المسلمين الذى كان سائداً خلال فترة حكم الامبراطور يوهنس ، قرر “أبرا“ الحفاظ على ذلك الاسم لتذكير الأجيال القادمة بالمحن التى كانوا يتعرضون لها.
والده الراحل (الدكتور يسن ) الذي كان أستاذا بارزا في علم الاقتصاد في جامعة أسمرة، قتل على يد اجهزة امن الجبهة الشعبية لتحريرارتريا في يناير 1991 أمام منزله. ذنبه الوحيد هو انه دافع عن قضية الجبرتة وسعى للاعتراف بهم ككيان مستقل .
ربما لا يعرف الكثيرين أن والدة جلال هي من متحدثى لغة التجرى ، ولكن عند معرفة نضال العائلة من اجل الحفاظ على عقيدتهم وهويتهم ، يمكن فهم لماذا لدى جلال كل هذه العاطفة القوية تجاه الجبرتة.
جلال يتحدث عدة لغات. حيث يجيد الإيطالية والعربية والإنجليزية والنرويجية، إلى جانب لغته التجرينية. وهو نسبيا لا يجيد التجرى لغة أمه. لدى عائلته شغف كبير بالتعليم. جده كان رجل أعمال ناجح وسافر كثيرا إلى أوروبا لعقد الصفقات التجارية. والده واحد من بين عدد قليل جداً من الإرتريين الذين درسوا علم الاقتصاد في الجامعة الأميركية في بيروت في عام 1948.
ولد جلال في أسمرا في عام 1957 .وذهب إلى مدرسة تحفيظ القرآن (الخلوة) و روضة أطفال “مايكل أنجلو بوناروتي”، ثم مدرسة “سانت آنا” التمهيدية والابتدائية ، ودرس المرحلة الثانوية في مدرسة “فيتوريو ايمانويل”.
بعد حصوله في عام 1984على حق اللجوء في النرويج ، تابع دراسة المرحلة الثانوية العليا في مدرسة Folkehøgskole في تيليمارك. ودرس لاحقا عدة كورسات فى مجال علم الإنسان الاجتماعي ” سوشال انثربولوجى ” في جامعة أوسلو.ثم حصل على بكالوريوس في تكنولوجيا المعلومات من جامعة أوسلو/ النرويج. ومن بين أمور أخرى، عمل جلال كفني وفي وقت لاحق كمسؤول فى مختلف دور السينما في أوسلو كما عمل كمترجم أيضا.
منذ سن مبكرة اظهر جلال اهتماما بالسياسة واصبح ناشطا فيها. في عام 1972، أى عندما كان فى الخامسة عشر من عمره ، ذهب إلى تسني مع زميليه مسفن تدلا عقبيت ويوناس أفورقي للانضمام إلى صفوف الكفاح المسلح، ولكنهم اعتقلوا بالقرب من الحدود السودانية. تدخل عجيل عبد الرحمن، الذي كان وقتها مسؤولا فى تلك المنطقة، وأفرج عنهم بكفالة. كان عليه أن يعود إلى أسمرا لمتابعة دراسته. في عام 1974 تم تجنيده من قبل الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا حيث اصبح عضواً نشطاً فيها . وكان يعمل ضمن إحدى اولى الخلايا السرية التابعة للتنظيم في أسمرا. كانت خليته تضم كل من عبده محمد علي، يوناس أفورقي (Zobino)، سلمون زمكئيل ، وبرهان نور أبرا . كانت هذه الخلية تقوم بجمع المال، وتوزيع المنشورات وتجنيد أعضاء جدد، واحضار الأدوية التى يحتاجها التنظيم . وكان من بين من جندهم للانضمام الى الثوار كل من سراج أحمد أبرا ، سمئون قبرى دنقل ، زفان أرايا، وجميل محمد علي.
عندما أَعتقل رفيقهم سليمان زمكئيل فى مطلع عام 1975 كان عليهم ترك العاصمة أسمرا والالتحاق بالميدان. وهناك تلقى جلال تدريب عسكري لفترة قصيرة ، وكان اول تعيين له فى الجيش هو العمل ضمن فصيلة بقيادة إبراهيم عافا. وفي اوقات لاحقة عمل تحت إمرة كتيبة بقيادة ولدنكئيل هيلي ، وكان براخى قبرى سلاسى (وزير الاعلام لاحقا ، وهو معتقل الآن ضمن مجموعة الخمسة عشر ) هو المفوض السياسي لهذه الكتيبة . كما عمل تحت امرة القائد بتودد ابرها ( ايضا يقبع فى السجن منذ عام 1991م )الذى كان يقود فصيلة وقتها . خلال تواجده فى الميدان شارك جلال في العديد من المعارك العسكرية ضد الجيش الإثيوبي. وبعد إصابته السادسة التي تركته مشلولا لمدة سنة تقريبا، تم تعيينه فى جهاز الإعلام التابع للجبهة الشعبية، حيث تقلد عدة مناصب من بينها رئيس وحدة الطبع اليدوية ، وشارك فى الدورة التاسعة للكوادر العليا في مدرسة الكادر. بعد ذلك تم تعيينه كممثل لجهاز الاعلام التابع للجبهة الشعبية في مدينة بورتسودان حيث عمل هناك حتى نهاية عام 1983 وبعدها ترك التنظيم .
جلال مثقف متنوع المعارف. يمكنك أن تناقش معه أي موضوع، بما في ذلك ما يتعلق بالدين. فهو إلى جانب القرآن، قد حفظ الكتاب المقدس (الانجيل)عن ظهر قلب. ويجادل كثيرا مع المؤمنين المسيحيين ويتحداهم ان يقرأو الآية رقم كذا او رقم كذا فيتفاجئون كثيرا بذلك . عندما تناقشه حول الكتاب المقدس، تقتنع بأن أولئك الذين يسارعون إلى انتقاد القرآن، يحتاجون إلى اعادة قراءة الكتاب المقدس بشكل صحيح، وبفضل جلال قرأت الكتاب المقدس ولدى الآن نسخة منه. لدى جلال مجموعة نادرة من الصور والكتب المتعلقة بإرتريا. وعلى عكس العديد من الآخرين، الذين يحتفظون بمثل هذه الصورلأنفسهم فإنه يشارك مجموعته بالمجان . وقد شاركته الكثير من هذه الصور والوثائق التاريخية مع بقية الآخرين . أيضا رئسوم كيدانى كان قد شارك فى الحصول على العديد من تلك الصور. الكثير من صوره يتم نشرها في موقع الجبرتة.كوم. تضم مجموعة كتبه النادرة بعض الكتب الإيطالية مثل: “دليل الشخصيات البارزة في إرتريا عام 1952″، وكتاب (باللغة الانجليزية ) لم ينشر بعد للسير كينيدي تريفاسكس بعنوان “الطوفان.. وجهة نظر شخصية حول نهاية إمبراطورية”.باختصار صداقته وسعت من معرفتى بارتريا والعالم.والامرلا يقتصر على الكتب والصور فقط ، فجلال لديه مكتبة موسيقية زاخرة بالموسيقى والاغانى القديمة والمعاصرة من إرتريا وإثيوبيا والسودان وإيطاليا.
جلال شخص اجتماعي جدا، ويتميز بروح دعابة عالية ولديه طائفة متنوعة من الأصدقاء، حتى من بين المكونات السياسية. وليس من عادته اطلاقا ان يتحدث وراء المرء ، ولكن يمكن أن يشعر المرء أنه يكون غير لطيفا في قول الحقيقة المجردة. إذا سرت معه في شوارع أوسلو، يقاطعكم الكثير من الأشخاص الذين يودون ان يدردشوا معه،. ويتمتع جلال بذاكرة مبهرة وأنا اندهش في بعض الأحيان حين ينظر جلال إلى بعض الاشخاص ويذكرهم بتفاصيل اشياء فعلوها عندما كانوا صغارا أو يعرفهم باسماء أقارب لهم . وجلال سخي جدا عندما يتعلق الأمر بالمساهمات المالية لأغراض سياسية أو بمساعدة أشخاص محتاجين. المقاتل المخضرم تسفاى تمنو نفسه عبر عن امتنانه له لما قدمه له من دعم في كتابه.
نحن نقابل الكثير من الاشخاص فى حياتنا.البعض منهم يمر ببساطة دون أن يترك فيك أي أثر، والبعض يترك آثارا ، وآخرون يتركون فينا بصمة انطباعات دائمة ، وجلال بالنسبة لى هو واحد من هؤلاء . أنا أعرف الكثير عن الأنشطة السياسية السرية التى كان قد شارك فيها ولكن لم يحن الوقت بعد للحديث عنها. ونشاطه السياسي قد جلب له بعض الأعداء حتى بين بعض أولئك الذين يدعون أنهم من ناشدى العدالة. ومع ذلك،فإن أمانته وبعد نظره كانا يحميانه دائما ضد التشهير. وقد استطعت من خلاله ان اكتب بعض السطور التعريفية عن قرماى فليبو “ودى فليبو” ، والفنان تولدى ردا ، ومسفن مارى . أنا أعلم أن جلال يحب دائما النأى عن الاضواء، ولكن آمل أن يسامحنى علي كتابة هذه السطور عنه.
وللحقيقة ، إرتريا تزخر بالكثير من قصص امثال هؤلاء والتى تنتظر أن يكتب عنها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هامش:
كتب المادة الدكتور محمد خير عمر في مدونة ” هدقايت” في ٢٠١٦م وترجمها عن الانجليزية الاستاذ سعيد عبد الحي.
جلال ياسين ابرا ناشط ومدون وموثق ومقاتل سابق في الجيش الشعبية لتحرير إريتريا.
رحل بعد معاناة طويلة مع المرض الذي واجهه بصبر وجلد المناضل، إلا أن جسده المنهك باصابات في معارك الشرف والبطولة خانة ليرحل بهدوء في أوسلو في 15 مايوالجاري.
تابعت صفحة على الفيسبوك لتميزها ودقتها وأدعو القاريء ليكتشف الجهد الذي كان يكابده الفقيد في البحث والتدقيق.
عدوليس تشاطر أسرة الفقيد الشهيد ورفاقه ومتابعي صفحته وكل مناضلي الثورة الإريترية هذا الفقد الجلل ولا حول ولا قوة إلا بالله.
https://hedgait.blogspot.com/2016/08/note-on-jelal-yassin-in-arabic.html?m=1