الرجل صاحب الكفة المرجحة..
فتحي عثمان

في حال اندلاع حربٍ بين أبي أحمد وإسياس أفورقي، هناك رجل ثالث — يكاد يُنسى في لُجَّةِ الهياج — قد يكون هو صاحبُ الصوت الحاسم في ترجيح كفّةِ أحدِ الخصمين.
هذا الرجل هو دبرصين غبرمكئيل، رجلُ تيغراي القويّ، البالغُ من العمرِ 69 عاماً. المعطياتُ المطروحة من الناحيةِ الاستراتيجية تشيرُ إلى أنَّ أبي أحمد لا يستطيعُ الدخولَ في حربٍ ضدَّ إسياس وظهرُه مكشوفٌ تماماً لأعدائهِ القدامى في تيغراي. والمحذورُ الأكبرُ بالنسبةِ له هو أنْ يميلَ دبرصينُ إلى جانبِ إسياسَ، ممّا يضعفُ قدرةَ أبي أحمد على الفوزِ في المواجهةِ التي يؤجِّجُ نارَها اليوم.

فما هي الخيارات الاستراتيجية للأطراف الثلاثة قبل حدوث المواجهة؟
المشي على حبلٍ مشدودٍ
لـأبي أحمد خياران مهمان، وهما مبنيّان على كسبِ إقليمِ تيغرايَ في صفِّه قبل الحرب. وذلك إما بأن يقفَ رجلُ تيغراي القويُّ وجيشُهُ على الحياد، أو أن يقفَ إلى جانبِ أبي أحمد — وهو الخيارُ الأفضل. ولن يحدث ذلك إلّا بفكِّ الارتباطِ الهشِّ بين دبرصين وإسياس عبر وعودٍ وتحالفاتٍ جديدة.
خياراتُ إسياس أفورقي، من جهةٍ أخرى، تبدو أكثرَ محدوديةً وضيقاً؛ لأنَّه في موقفٍ دفاعيٍّ، واستراتيجيتهُ يحدّدها (عددُ خصومهِ). فخطّتهُ في مواجهةِ أبي أحمد منفرداً ليست هي نفسُ خطّتهِ إذا واجهَهُ أبي أحمد ودبرصين معاً. وهو، مثلَ أبي أحمد، يتمنى أن يقفَ دبرصينُ إلى جانبه ويكفيه شرورَ إقليمِ تيغراي أثناء المواجهة أو على الأقل يبقى على الحياد.
بهذهِ الخيارات يدركُ الطرفانِ أنَّ دبرصين هو صاحبُ الأوراقِ الحاسمةِ في أيِّ مواجهةٍ مقبلة، وذلك لعدة اعتباراتٍ، وأهمُّها ضعفُ الحلفاءِ: فـفانو عندَ أفورقي، ومجموعةُ قِيتاشو رِدا عندَ أبي أحمد. فهذان الحليفان ليس لأيِّ منهما وجودٌ حاسمٌ في إقليمِ تيغراي، الذي لا يمكنُ إغفالهُ من حساباتِ العملِ العسكري.

لاعبُ الأوراقِ الحاسمة
لا يغيبُ عن إدراكِ دبرصين الوضعُ الحرجُ لخصميه، وكذلك الأوراقُ المرجَّحةُ التي يملكها هو نفسه. فـأبي أحمد، رغم اتفاقِ بريتوريا الذي أنهى الحربَ في تيغراي، لا يزالُ عدواً لدبرصين. وإسياس كذلك عدوٌّ لدبرصين رغم دعاوى حلفِ “صمدو”.
دخولُ عدوانٍ في صراع من نوعِ “كسر العظم” سيكونُ من صالحِ دبرصين. العدوُّ الأشرسُ بالنسبةِ له هو إسياس أفورقي، لأنَّ دبرصين وقواته يعتقدون أنَّ أبي أحمد عدوٌّ يسهلُ كسره، خاصّةً إذا كان غيرَ مدعومٍ من قبلِ أفورقي. وإذا أتيحت لدبرصين فرصة اختيار أحدِ العدوين، فإنه سيفضّلُ ذهابَ إسياس العنيد؛ لذلك، إذا حتمتْ عليه الظروفُ اختيارُ أحدِ الطرفين، فإنَّ ميله إلى أبي أحمد هو الأرجَح، خاصّةً وأنَّ التحالفَ مع أبي أحمد سيضمنُ له سيطرةً أقوى على الإقليم، بتحييدِ خصومِه كـقِيتاشو رِدا والجنرالِ صادقان — وهذا أمرٌ يمكنُ أن يضمنَهُ أبي أحمد أكثرَ من أفورقي.

هذه التعقيداتُ السياسية تعطي دبرصين امتيازاً لم يكن يحلمُ به، وتفرضُ عليه استخدامَ ميزانِ الذهب في أفعاله حتى لا يكونَ أوّلَ الخاسرين في المواجهة التي يدخلُها أعداؤه بكاملِ طاقتهم. وهو يدركُ أنَّ اتخاذَ موقفٍ حاسمٍ لن يتمَّ بغيرِ ثمنٍ غالٍ، لأنَّ السلعةَ التي يملكها أصبحتْ الأغلى والأكثرَ طلباً من النواحي السياسية والاستراتيجية. وهذا سيعرِّضه لمخاطرَ محاولاتِ كلِّ الأطرافِ تجريده من أوراقِه الرابحةِ، حتى ولو كان ذلك بتصفيته جسدياً.
اللعبُ بقربِ فوهةِ البركان
البركانُ الخامدُ لا تؤتمنُ فوهتُه. فتأجيجُ نيرانِ الحرب، كما هو مشاهدٌ اليوم، ليس صعباً. ادّعاءاتُ الحصولِ على ممرٍّ بحريٍّ، أو مبرراتُ الدفاعِ عن السيادة، في النهاية ليست إلا ذرائعَ لكسبِ تأييدٍ شعبيٍّ للحرب.
الزلازلُ القريبةُ من البراكين في الغالبِ ما تؤدي إلى ثورانِها، وعندما تبدأ الحممُ بالتدفّق ينسى الناس أسبابَ ثورةِ البركان. فإذا اندلعتِ الحربُ فإنها ستطالُ الجميعَ، وستكون مختلفةً عن أيِّ حربٍ سابقة؛ فلكي يحققَ أحدُ الأطرافِ فيها نصراً حاسماً عليه أن يسحقَ خصمَه تماماً، وهذا أمرٌ لن يتمَّ بمواجهاتٍ خفيفةٍ وقصيرةٍ، بل بمواجهةٍ طويلةٍ وداميةٍ ومتجددةِ الدوافع. وحتى لو أحدثتِ الحربُ دماراً غير مسبوق، فسيبقى لذلكَ مبرّرٌ؛ فالمهاجمُ يراهُ ثمناً للحرب، بينما المدافعُ يراهُ جريمةَ عدوان، وفي النهاية سيكونُ دماراً كبيراً، خاصّةً إذا كان مبررُ الحربِ هو “القضاءُ على الشر” — فتحت هذا المبرر يُبرَّرُ كلُّ دمارٍ.
قد يتساءلُ قراءُ المقالِ عن سببِ نسبِ الحروبِ لأشخاصٍ لا للبلدانِ أو الشعوب؛ وذلك لأنَّ هذه الحروب ما كانت ولن تكون يوماً حروبَ شعوبٍ. هي حروبُ أشخاصٍ تحوّلوا إلى “أمراءِ حرب”؛ وهم في حروبهم يذكرون بحقبةٍ “زَمَنِي مَسافَنتِي” في التاريخِ الإثيوبي.
لكنَّ السؤالَ المؤرقَ الذي يطرحُ نفسه على الإرتريين اليومَ هو: هل خسارةُ إسياس أفورقي في الحربِ تعني هزيمةَ إرتريا؟
بالطبع، من وضعوا كلَّ بيضِهم في سلةِ إسياس ستُجيبُهم إجابتُهم بنعم، وبلا شك.