مقالات

رحيل المعلم والمربي : عمر الحاج صالح

رَحَل بصمت… كما يفعل العظماء حين يكون حضورهم أبلغ من أيّ كلام، وحين يدركون أن أثر الإنسان يُكتب في القلوب قبل السجلات، وفي حياة الناس قبل المجلدات. رَحَل المعلّم عمر الحاج صالح بعد رحلة عمرٍ مديدة، تجاوز فيها حدود الجغرافيا وتحدّيات الزمان، ليصنع مسيرة تستحق أن تُروى على مهل، وأن تُقرأ بامتنان.

من شواطئ زولا في إرتريا بدأت الحكاية… شابٌّ يمشي على قدميه نحو السودان، لا يحمل في حقيبته إلا إرادةً من حديد، وقلبًا يتّقد شغفًا بالعلم. يسافر كما يسافر الباحث عن الماء في صحراء عطشى، حتى وصل إلى الأزهر الشريف، حيث نهل من علومه، ثم واصل الطريق إلى الكويت، فحصل على إجازته الجامعية في اللغة العربية من كلية الآداب بجامعة الكويت.

لم تكن الشهادةُ غايته، بل وسيلته لخدمة الناس. فكان أن ابتعثته الكويت إلى اليمن بين عامي 1970–1980، ليكون أحد الذين أسهموا في صناعة جيلٍ كاملٍ من الطلاب في عدن؛ جيل لا يزال يذكره بالخير، ويستعيد صوته الرخيم على السبورة، وصرامة محبته، وأبوّته الهادئة.

ومن عدن إلى بنغازي، واصل مسيرته بين 1981–1994، معلّمًا في ثانوية الأبيار وفي معهد المعلّمين، يغرس بذور المعرفة في نفوس الشباب، ويعيد تشكيل أحلامهم، كأنه يكتب مستقبلهم بيده. لم يكن مجرد معلّم… كان صانعًا للوعي، ومهذّبًا للنفوس، ومؤمنًا بأن العلم هو الباب الذي تُفتح منه كل الطرق الأخرى.

عاد إلى إرتريا عام 1994، حاملًا خبرته ورسالته، فَعَمِل في دار الفتوى، ثم عاد إلى مهنته الأولى والأثيرة: التعليم. عُيّن في مدينة كرن، وظل فيها حتى آخر يوم من حياته في 5 ديسمبر 2025، يقدّم العلم كما يقدّم الأب الحنان، ويمنح المعرفة كما تُمنح الهدايا الثمينة لمن يستحق.

كان رجلًا بسيطًا وقورًا، كريمًا بطبعه، عذبًا في معاملته، لا يعرف التعالي، ولا يطلب منصبًا، ولا يبحث عن ضوء… لأنه كان في ذاته ضوءًا. امتد أثره في اليمن وليبيا وإرتريا، وفي طلابٍ كُثُرٍ صاروا رجالًا ونساءً يحملون بصمته في أعماقهم.

وكان فوق ذلك شاعرًا وكاتبَ قصة، عرفه أقرانه من الأدباء، وربطته علاقات وثيقة بجيل الثورة المؤسِّس، وكان صمته عن نشر شعره تواضعًا لا عجزًا، وانتظارًا أن يأتي الزمن الذي يُنصِف الكبار… وقد جاء، وإن تأخّر.

رَحَل بعد وعكةٍ صحية، عن واحدٍ وثمانين عامًا من البذل والإنارة، تاركًا سيرةً ناصعةً كبياض قلبه، وقلوبًا مثقلةً بالفقد، وذكرياتٍ لا تُنسى لرجل عاش للناس وبالناس، وأعطى ولم ينتظر المقابل، وعلّم أجيالًا لا تُعد.

نتقدم بخالص العزاء إلى إخوته:
الأستاذ عبد العزيز صالح، ومحمد نور، وعبد القادر، وعبد الغني، ومحمد علي، ومحمد الأمين.
وإلى أخواته: حليمة، وزينب، وسعدية، وخديجة.
وإلى أبنائه: محمد، وعبد السلام، وخديجة، وعائشة.
وإلى جميع أفراد العائلة ومحبيه وتلاميذه الذين حملوا نوره معهم إلى كل مكان.

اللهم اغفر له وارحمه، واجعل علمه صدقةً جارية، ونوّر قبره، وارفع مقامه، واجمعه بالصالحين.
إنا لله وإنا إليه راجعون.

نقلا عن صفحة الصحفي الاستاذ محمد طه توكل .

عمر الحاج صالح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى