مقالات

لامبيدوزا…….الموت على مشارف الأمل يقلم / فتحي عثمان

3-Oct-2014

عدوليس ـ ملبورن ـ

يصادف يوم الثالث من شهر أكتوبر الذكرى الأولي لفاجعة لامبيدوزا وغرق القارب الذي كان يقل 518 مهاجرا على بعد نصف ميل فقط جنوب غرب جزيرة لامبيدوزا الايطالية. فما الذي حدث صبيحة الفاجعة؟عند الساعة الثانية فجرا من يوم الثالث من أكتوبر تراءت للعيان على ظهر القارب أضواء جزيرة لامبيدوزا. واستعدادا للنزول إلى البر الايطالي بعد قطر القارب بواسطة قوارب خفر السواحل الايطالي يمكن ملامسة اليابسة بعد طول عناء. هكذا تراءت أضواء الجزيرة وأحلام العمر القادم.

كالعادة، وفي مثل هذه الحالات، أي عند الاقتراب من اليابسة، يطفئ قائد القارب المحرك ويترك القارب يتهادي مع حركة الموج حتى تلمحه قوارب الصيد أو أحد دوريات خفر السواحل. كان القارب المنكوب مقسوما إلى قسمين: قسم علوي، والقسم السفلي حيث المحركات، كان يعج بالنساء والأطفال الذين كانوا يعانون من دوار البحر وحر الشمس والضعف، وكانت أرضية القارب زلقة بسبب القئ والأوساخ وكانت الحرارة لا تطاق. القسم العلوي من ناحية أخري كان يقابل السماء والنجوم، والذين كانوا ينامون فيه كانوا يستخدمون بطانيات أثناء هبوب رياح أكتوبر الباردة.
فجأة بدأت المياه وبكميات كبيرة تغمر الجزء الأسفل من القارب، مما اضطر قائده إلى النزول محاولا تشغيل المحركات والاقتراب أكثر من اليابسة حتى يتفادى كارثة وشيكة الوقوع. أستمر اندفاع الماء إلى داخل القارب، وبدأ الأطفال في البكاء والنساء في الصياح. ساد القارب الهرج والمرج والخوف. عندما أحس قائد القارب بالخطر فكر في إشعال نار في ظلمة الفجر عله بذلك يسترعي انتباه دوريات خفر السواحل التي تجوب تلك الأنحاء. وأشعل النار في أحدى البطانيات ولكن يده احترقت بسبب اللهب، فترك البطانية لتقع على الأرضية الممتلئة بالوقود السائل، حينها أشتعل القارب وبدأ الجميع التدافع طلبا للنجاة.
هرب الجميع من النار ولجأوا إلى الناحية الأخرى من القارب، تكدس الجميع في ناحية واحدة من القارب أدى إلى انقلابه. وعند انقلابه على جانبه سقط كل من كان في القسم العلوي في الماء. لم يكن هناك ما يمكن التمسك به. وكان الظلام حالكا والصراخ يملأ الأرجاء، عويل نساء وبكاء أطفال وصرخات رجال. أغلب من كانوا على متن القارب لم يكونوا يجيدون السباحة. محاولة كل واحد التمسك بالآخر للنجاة أدت لموت جماعي.وتروي أحدى الناجيات واسمها فانوس القصة للصحفي في صحيفة الغارديان البريطانية زد نيلسون، قالت فانوس بأن احد الشباب كان أسمه سلومون وكان يرعي صبيا يبلغ من العمر أربعة سنوات، كانت أم الطفل في حالة يرثي لها، وأشفق هو على الطفل وأستمر في رعايته طول الرحلة. وعندما بدأ القارب في الغرق، تمسك سلومون والذي كان مغنيا واعدا، بأحد الأعمدة ولكن في هذه الأثناء تشبث به اثنان وأمسكاه بيأس من سرواله وسحباه معهما إلى لجة المياه في الرحلة الأخيرة نحو الأبدية. ظلت فانوس على قيد الحياة بعد تمسكها بالجثث الطافية على سطح الماء، أربع ساعات كاملة قضتها على تلك الحال، وقالت لاحقا بأنها كانت أطول أربع ساعات في حياتها كلها.
رأي أحد صيادي مراكب الصيد القارب المنكوب وبعد ساعات توالى وصول دوريات خفر السواحل الايطالي، وتم إنقاذ من قدر له النجاة من تلك الكارثة.
أرقام الفاجعة:
كان القارب يقل 518 شخصا، غرق منهم 366 شابا وشابة ارترية، و80 امرأة، ولم ينجو من الموت أي طفل تحت سن الثانية عشر من العمر. نجا 153 رجلا وخمس نساء فقط، أحداهن فانوس التي فقدت صديقة عمرها قسانت.
دفع كل واحد من الضحايا 1600 دولار لرحلة القارب من السواحل الليبية وحتى البر الأوروبي. أي أجمالي المبلغ الذي دفعه الضحايا بلغ 828.800 ويمكنك تصور المبالغ التي تصب في جيوب المستفيدين من هذه التجارة الخطرة.
ردود الفعل على الكارثة وموقف اسمرا المخزي:
في يوم 4 أكتوبر أي اليوم التالي للكارثة، اجتاحت موجة حزن وكآبة لامبيدوزا التي أغلقت المدارس والمحال التجارية ونكست الأعلام في حداد على أرواح الضحايا. ومع انتشار خبر الكارثة في وسائل الإعلام المحلية والعالمية أعلنت دقائق الوقوف حدادا على أرواح الضحايا وتليت الصلوات على أرواحهم، كان وقع الصدمة كبيرا خاصة على أسر وأقارب الضحايا في ارتريا والمهجر.
في أسمرا وفي التاسع من أكتوبر، أي بعد مضى ستة أيام كاملة على الكارثة ظهر مذيع التلفزيون ليلقي خبرا هزيلا ومخجلا بأن قاربا يقل عدد من المهاجرين (الأفارقة)ٍ غرق قبالة السواحل الايطالية مما أدى إلىٍ موت العديد منهم. كان المذيع يتلو هذا الخبر والأسر في اسمرا يضرب قلبها خوفا وهلعا على مصير أبناءها. وكانت في نفس الوقت بعض المواقع الموالية للنظام على الشبكة العنكبوتية تروج شائعات مفادها أن غرقى الكارثة هم من الجنسية الإثيوبية.
الحقيقة هي أن اسمرا وبعد مضي سنة تستخدم هذه الكارثة لتدعيم منطقها القائل بأن الشباب الارتري مغرر به بواسطة أجهزة الاستخبارات الأجنبية، والتي تصور له الحياة في الخارج كأنها جنة، وهو الذي يدفع الثمن. وبهذا الفهم الهروبيٍ لا تمانع اسمرا أن تتكرر مثل هذه الفاجعة مرتين وثلاث وأكثر لتثبت وجهة نظرها، ليس ذلك فحسب بل أصبحت تستخدم هذه الكوارث للتشفي وري الغليل تجاه الشباب الهارب من جحيم الخدمة الإجبارية والسياسات التعسفية.
في الدول المتحضرة عندما تلقى مجموعة من المواطنين مصرعها نتيجة لحريق، أو انهيار منجم، أو تحطم طائرة، فإنها تقوم بإعلان الحداد الوطني وتنكس الأعلام وتتعاطف مع أسر الضحايا، فهل سمعنا أن مسئولا ارتريا كبيرا أو صغير زار أسر الضحايا لتقديم واجب العزاء ومشاطرة الأسر المكلومة الأحزان؟
بعد مضى عام على كارثة لامبيدوزا لا زالت الحكومة الارترية لا تقر بأن الضحايا هم من الارتريين. وعندما قال سفير ارتريا لدى ايطاليا حينهاٍ بأن ارتريا سوف تساعد في دفع تكاليف فحوص الحمص النووي للتعرف على الضحايا جاءه تقريع من أسمرا وأجبر على سحب تصريحه.
الجرذان والسفينة والجرذان والعقيد:
في أحدي المرات سئل مسئول ارتري رفيع عن ظاهرة هروب الشباب، فرد قائلا بعنجهية وغطرسة بأن الجرذان كانت تقفز من السفينة خلال فترة النضال فما بالكم باليوم: أي أن الشباب الارتري لا يعدو كونه- في رأي هذا المسئول الرفيع- سوى مجموعة جرذان.
ويذكرني هذا بعقيد ليبيا الذي وصف شباب ليبيا بالجرذان، وانتهي به المطاف في أحد مجاري مدينة سرت. وما أشبه اليوم بالبارحة.
المجد والخلود لشهداء الشعب الارتري الأبي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى