مقالات

الثورة الثقافية الثانية .. بناء الأفكار والمفاهيم (الجزء الاول ) بقلم محمد علي موسى

5-Sep-2014

عدوليس نقلا عن إذاعة المنتدى

البناء الحقيقي للأوطان هو بناء الافكار والمفاهيم، والحصيف من يختار الطريق الصعب لضمان بناء حقيقي ودائم وليحصد نتائج سليمة .إذا كانت الثقافة تعني طُرق التفكير والعادات والتقاليد وسبل التعاطي مع التحديات فرحا وترحا وكذا الدين والمعتقدات،هذا يعني أن لكل شعب ثقافة، ومع هذا نجد ثمة فروقات هائلة في درجات التطور بين الشعوب، مرد ذلك في مدى فاعلية الثقافة من عدمها، فالأمم تتوارى وتذبل لهشاشة وضمور قيمها السامية، والأمم التي شَذَبَتْ ثقافتها بحيث تخدمها للإرتقاء في سلم التطور هي التي تمكنت من الولوج لآفاق الرقي.مجتمعنا كسائر المجتمعات لديه عناصر قوة وضعف في ثقافته، ففي الإيجابي منها : نُصرة الحق، الكبرياء ، الشجاعة ، الصبر، الوفاء، التسامح والتعايش ،الامانة والصدق. ومع هذا نفذ الإحتلال الإثيوبي إلي بلادنا بالأساس من خلال ثغرات الضعف في جدران ثقافتنا، وعندما اقمنا ثورة ثقافية في المُهْتَرئ منها تمكنا من رتق تلك الثغرات. من ملامح تلك الثورة الثقافية إعلاء قيمة المواطن الفرد ومساواته مع بقية أفراد المجتمع دون أي تمييز علي أساس : لونه، إقليمه، قبيلته، إيمانه،قوميته،علمه، ثروته،ماضيه، نسبه،عمره وجنسه… فقط يتم التعامل معه علي أساس تقديره لهذه القيم، وتجسيده لقيم: الصدق، الحق، التفاني، التواضع . ووأد الكِبر والرياء والأنا وسرقة جهد الآخرين، ومناصرة الفكرة الرائدة لا “القامات ” والإنتماءات دون الوطنية، والصبر والمسؤولية والتضحية والنقد وترتيب الاولويات والإهتمام بالفنون والتشاور والتعلم من الشعب وتعليمه، والعمل لإسعاد الشعب والاجيال القادمة لا ذواتنا فقط، والتخطيط والتثقيف وإحترام العمل والعلم والتنظيم ومحاربة الخرافة، الثقة في النجاح من خلال العمل برؤية واعية، علي خلفية ذلك أوجد الشعب الأرتري القوة، وتأهل للتغلب علي الثقافة الأضعف فطرد المحتل بإقتدار .

عَقِب طرد الإحتلال الإثيوبي لم تَقم ثورة ثقافية أخرى بل بالأحرى تم إغتيال المحاولات كافة ، فالثقافة التي استجابت بفاعلية لإجلاء الإحتلال لم يتم تأهيلها بهدف التصدي لمعطيات الواقع الجديد وحسب، بل تراجعت الثقافة والقيم التي أفضت بنا للتحرير، وضمن عوامل عديدة وبالتدريج حلت محلها قيم هي علي النقيض منها.فالذي حدث هو الإنقلاب علي الثقافة التي أوجدت القوة للشعب وتم استبدالها بثقافة تصنع القوة لمجموعة جزئية من المجتمع . وهنا انتكست بل انحرفت مسيرة تطورنا كمجتمع في الإتجاه المعاكس. كيف تجلى ذلك ؟ تجلى : بسيادة الفردية المتسلطة علي سيادة الشعب، إذ غدت المشاركة السياسية خارج القانون، شكلية و ترقيعية، والثروة الوطنية تحت تصرف فئات محدودة، ويقوم الرئيس الذي نصب نفسه، بتوزيعها كرشى ومنافع للموالين له، وتقليد المناصب علي معيارالولاء لا الكفاءة والنزاهة ، فغابت المؤسسية وتم إعدام الرأي الآخر. فإستشرت منظومة قيم جديدة بالمجتمع المقهورتتمظهر في سلوكيات غير سوية ، كالإذعان والخنوع، فَشُلَتْ حركته وتلبسته حالة الحذر الشديد ، وهي سمات تتنافى والسمات الأساسية للمجتمع. وإكتسى المستبد بالعلو والكِبر فلا يسمح لأحد بمخالفته ومناقشته وشيئا فشيئا تتضخم ذاته وتتملكه العقلية الإطلاقية، فيتوهم بأنه هو فقط من يمتلك الحقيقة، فيرفض الأخر، ويستخف بمن يستبد بهم، لهذا ينحو بالآئمة عليهم، فتتحول البيئة المحيطة به إلي كائنات مشوهة من كثرة الاقنعة التي يرتدونها لإرضائه، فتسري فيهم ثقافة النفاق والكذب والإلتواء والخوف، لهذا يُعَد الإستبداد أحد أهم عوامل التلوث الاخلاقي المدمر لمنظومة القيم النبيلة في المجتمع . وبالضرورة نتاج كل ذلك أن تتهاوي أعمدة التطور ويتفشى البؤس وتُنتَهك سيادة الوطن. أليس هذا ما ينطبق علي بلادنا بدقة متناهية ؟ . إنعكاسات ردود الفعل العفوية والتلقائية حيال ذلك، هي الانزواء من الإطار العام الوطني إلي أوعية حماية أخري : كالإثنية والطائفية والإقليمية والمذهبية والقبلية والعشائرية ..الخ، كإستراتيجية لنيل الحقوق أو أقله للشعور بالدفء الإجتماعي الضروري للإنسان . إذا كان هذا هو المشهد العام السياسي والإقتصادي والإجتماعي، لمُنْحَنَى الثقافة في تقدمها وتقهقرها ببلادنا، طبيعي أن يُطرح سؤال ما العمل ؟ ما العمل الواعي والمدروس لإعادة عجلات ثقافتنا لمسارها الصحيح، نحو بناء السلام والإستقرار والحرية والرفاه ؟ .في تقديري من غير المنطقي أن نَتبنَى خيار نُصبح فيه صدي لتداعيات الإنحراف الذي جري بفعل الإنقلاب علي ثقافتنا،علاوة علي كونه لا يفضي بنا إلي أهدافنا، ويخدم مباشرة سلطات الإستبداد. وأن تَبَنِي هكذا مفهوم وسلوك، هو نتاج نفسية أعيتها الحيلة. إعتقد أن جُلكم يوافقني بأن الحكمة تقتضي أن يُبْنَى خيارنا علي روح مفعمة بالتفاؤل في الإنتصار. فيستقيم المنطق بالإستعداد فكرا وعملا لإقامة الثورة الثقافية التي تعيد القوة للشعب وتبني دولة المواطنة. نعم أن أرضية خيارنا هذا متعرجة وليست ممهدة بالقدر الكافي ، إذ تتطلب توافرالفرد المتعدد والمتغير مع مصالِحه، لا فردا متعصبا لوشائج مناطقية وعرقية وتاريخية ودينية وما إلي ذلك، فطول المسافة ووعورتها لا ينبغي لها أن تجعلنا نحيد عن مسارنا ،والذي هو ذروة ما انتجه الإجتهاد البشري لإدارة حياة الناس ، وهو قطعا أفضل عن دروب تُنتَزَع فيها حقوق الشعب وتمزقه وتشرده وتحرمه التقدم، سواء كان ذلك من قوى إستبدادية متشرنقة بشعارات متعددة أو تجمعات بولاءات دون وطنية .يُسَمِي البعض مقاربتنا وإستقرائنا هذا بالمثالية، رغم أنه الطريق الذي سلكته الشعوب التي إستقرت وتطورت، ويُفضل عوضا عنه السير علي الطريق السهل والعبثي، ليصل بنهاية كل محاولة لذات النتائج الكارثية، فيعيد الكَرَة بذات الدروب، بإستثارة العواطف الإنفعالية، معللا الإخفاق السابق بغيرمسبباته الحقيقية، مستغلا العقلية الخرافية في تفسير مآلات التجربة، وعبرإنتقاء الاحداث بغير نسق وبديماغوجية وتضخيم الذات، يَخْلص لإستنتاجات تعميمة قسرية مخلة، مآلاتها ماضيا وحاضرا العدم ومزيدا من الضياع والإنهيار .إعتقد أنكم تقرون معي بأنه لا مناص من الإقرار بأن القاعدة الصحيحة والمجربة علي المستوي الوطني والعالمي هي إيجاد الثقافة العلمية والعملية لتجاوز التخلف وبناء صرح التطور .فالمسألة ليست خبط عشواء ولا هرطقة، بل أسس ومقدمات ومسارات إجبارية . فتسارع عجلة النماء لمجتمع ما، وتراجعها عند مجتمع آخر، غير مرتبطة بأوهام أصل ونوع، بل هي لصيقة تماما بمقدار تفعيل الثقافة الإيجابية في حياتهم . بناءا علي ذلك ألا ترون معي أهمية أن يَنصب إهتمامنا الاول في إيجاد الارضية الثقافية التي تؤهلنا للخروج من دوامة المتاهات اللا متناهية، التي أَطِلنا المكوث فيها ونحن نتوخى نتائج مغايرة . كما تعلمون أن النهوض يتطلب السؤال عن كل شيئ، وأن الحضارة تندثر عندما ينعدم التساؤل، لهذا علينا إثارة المزيد من الأسئلة بالصبر والاجتهاد بعلمية للاجابة عليها.فمثلا :هل سلطة الثقافة القديمة وشخوصها هي العائق ؟ وما هي المحاولات التي تمت لتجاوز ذلك ؟ كيف تأذى شعبنا في ثقافتة جراء فعل الإستبداد ؟ كيف نتجاوز أحباط قطاعات واسعة من شعبنا جراء الخيانة التي تمت في المشروع الوطني بعمل مقاوم يعالج التشكيك والتخوين في الاعمال المشتركة ؟ هل كل فرد قام بدوره كاملا وبإتقان دون إنتظار الآخر؟ هل نعمل بثقافة الحلول المؤقته والعاجلة بحيث تغطي المدى الزمني للفرد أم نعمل بثقافة العمل الإستراتيجي طويل المدى وللأجيال وبعيدا عن أمراض المجد الشخصي؟ أين شبابنا من صناعة مستقبلهم ؟ كيف سنتمكن من بناء دولة المواطنة ذات الواجبات والحقوق والفهم المشترك والتي تحترم القيم والعادات والاديان لجميع مكوناتها ؟… علينا تفعيل القدرة علي التخيل والتفاؤل والعمل والمرح والاستمرار .أن التحديات الوجودية التي تجابهنا ، والتي اثقلت كاهلنا جميعا، ليست مشكلة جينات،وليست تحديات قدرية، والاهم من كل ذلك أن جذورها لا تمت بصلة لمؤامرة من طرف خارجي ، إنما هي من صنعنا نحن ، من ثقافتنا وافكارنا . هذا الإطار من الفهم يُعَد البداية الصحيحة في مسارالبحث عن الحلول للخروج من التراجعات ذات المتوالية الهندسية لعقود من الزمن .بادئ الامرالإقرار بأن الحقيقة مسألة نسبية، وهذا يتطلب من كل فرد او جماعة عدم الاعتقاد بإمتلاكها حصريا وبالمطلق، وبالتالي طرح كل المسلمات أمام التساؤل .وعند كل عثرة، البحث عن موضع الخلل بعقلية منفتحة … ثم الولوج في صناعة المعرفة المؤثرة، وهذه الصناعة تعتمد علي آلية تنظيمية تؤطر الشعب والشباب خاصة في عمل توعوي ميداني ، في مناخ حر لتداول الأفكار وتقويمها، وذلك علي قاعدة توفر إرادة التغيير والمصداقية . وحجر الزاوية هنا هو تنفيذ هذه المعرفة علي أرض الواقع، للخروج من دائرة توصيف الداء إلي دائرة معالجته .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى