أغوردات مدينة لا يستنْسرُ بأرضها البُغاثْ : كرار أبوالفتح*
1-Apr-2009
المركز
في البدء كانت كلمة واستصدرها بأن لا يحمل قولي هذا فوق محمله، كما أن لا ينأي به بعيداً عن مقصده، ومن البداهة ونافلة القول أن ننوه بأن أي مجموعة من البشر عندما تقطن في بقعة ما فإنها لا تخلو من نماذج ألوان الطيف الذي يشكل نسيجها، الا أنه قد يغلب لون طيف في ذلك النسيج،
ومن ألوان هذه الفسيفساء يتكون سكان هذه المدينة مثلها مثل بقية المدن في هذه المعمورة.وإذا ذكر الكفاح الأرتري ولم يتناول في صدارته دور هذه المدينة وإقليمها بكل أبعاده الأدني منه والأعلي مضافاً اليه إقليم القاش بكل مساحته الشاسعة يكون الحديث قد فقد مصداقيته ونشذ عن قاعدته، ويغدو مجرد هرطقة لا يستدعي الوقوف عليه، أو قل ان شئت انه مجرد عقد انفرطت حباته وتناثرت ولم يعد يشكل شيئاً.وعندما فجر الأبطال الثورة بين الجبال والسهول والوديان إحتضنها هذين الأقليمين وترعرعت وقويت شوكتها في حجره وتحت رعايته، فقد قدم لها كل مايملك دون أدني تذمر أو ضجر بل كان يقدم ذلك بكل رحابة صدر واريحية، وكان ينتزع اللقمة من فم ابنائه وفلذ أكباده وممن يعول لكي يقدمها راضياً مبتهلاً للثوار الأشاوس، وكان هذا ديدنه دوماً.وقد أدرك وفطن المستعمر البغيض لهذا التأييد وهذه الحماية والرعاية اللامحدودة، فأراد كدأب أي مستعمر ان يجعل لها حداً وأن يطمرها قبل بزوغها ويستفحل أمرها، وأن يجتز منبتها قبل تجذره، وأن يجفف منبعها قبل أن يحال الي نهر أو بحر يهدر موجه ويمتد فيضانه ويغمر كل الربوع، ومن ثم يكون بقاءه مهدداً، فحشد جيشه ودججه بكل أنواع العتاد وأطلق يده لكي يعثوا في الأرض فساداً ويلقن هذين الأقليمين درساً لن ينسوه مابقيت لهم الحياة، ويكونوا عبرة لمن تسول له نفسه بشق عصا الطاعة، فأبادوا المواشي التي هي مصدر رزقهم ومنبع ثروتهم وقتلوا وأعتقلوا الرجال وسلبوا النساء وحرقوا ودمروا القري ظناً وتوهماً منهم أن مثل هذا الصنيع وهذه البربرية والهمجية سوف ترهبهم وتثنيهم عن نهجهم وقناعتهم بقضيتهم، ولكنهم أضحوا أكثر عزيمةً وأشد شكيمة وأعمق إيماناً وأقوي إصراراً للمضي قدماً خلف ثورتهم غير عابئين بما كان وما سوف يكون في الغد المنظور أو المجهول معاً.وعندما كان الحرب والدمار والإبادة الجماعية بشتي أنواعها وصنوفها من نصيب هذين الأقليمين كان ثمة من الأقاليم في البلاد ينعم ويرتع في دعة ووئام، وينام ملئ جفنيه بسلام.وقبل ان نسقط حق من حقوق أي أقليم أو مواطن ناضل وضحي بروحه ودمه وجهده في سبيل هذا الوطن، ودون أي إدعاء أو مزايدة أو مفاخرة علي أحد مهما كان ـ ولن يخالفني فيما أذهب اليه إلا من كابر مكابراً أو جاهلاً أو جاحداً ـ إن أقليمي “قاش وبركا” بكل أبعادهما الجغرافية هما من أرشدا وغرزا ونميّا في نفوس ووجدان ممن هم في سدة الحكم وسدنته بأن هناك وطن قد أُغتصب وضم قسراً الي كيان آخر، وان مدناً وقري قد دُمرت وأُنتهكت حقوقها، ونفوساً قد أذهقت، وعزة وكرامة قد أهدرت، وهناك ثورة قد أُندلعت تطالب بكل الحقوق التي سلبت.ومن سخرية القدر ونكد الدنيا علي المرأ، هؤلاء هم أنفسهم الآن من يكيلون له اليوم ألواناً وصنوفاً من العذاب ويتفننون للنيل منه بشتي السبل، قبل أن يحمّر لهم وجهاً وجبيناً خجلاً، أو يرتعش لهم جفناً إنكساراً، أو تدمع لهم عيناً حزناً وأسفاً علي سوء صنيعهم وما تقترفه ايديهم في حق هؤلاء ـ كأن المُستعمرقد أوصاهم عليهم خيراً ولم يخيبوا ظنه فيهم.إن حكّام أسمرا قد إستمرؤا وتمادوا في إهمال والنيل من هذه المدينة وأقليمها دون سواهم. فلم ينشئوا في أرضها اي مشروع تنموي مهما كان حجمه لكي ينهض بها، كما لم يشيدوا مرفقاً الذي يعد من المرافق الحيوية والأساسية كالتعليم والصحة ولا نقول الماء والكهرباء اللذين اصبحا من الكماليات بالنسبة لهذه المدينة، ولم يكن الإهمال قاصراً في هذه المرافق فحسب بل تعداه الي سلب الصفة الإدارية التي كانت تتمتع بها المدينة إبان عهد الإستعمار، الأمر الذي حدا بالمواطن أنه لو أُضطر الي أي إجراء قانوني مهما كان نوعه أو حجمه ليس له من سبيل سوي حمل حقائبه ويمّم وجهه شطر مدينة بارنتو ـ حفظها الله من كل مكروه ـ ولا تعليق No Comment .والمغزي من جراء كل هذه المعاناة هو النكاية بهذا الشعب وإذلاله وتمزيقه وطمس هويته وتغيير معالمه وتهميش مدينة حتي تغدو قرية بعد أن كانت مدينة يؤمها القاصي قبل الداني، وان يعيش قاطنوها علي أطلالها نادمين متحسرين عليها وعليهم بما آلوا اليه علي حد سواء وهم يرددون هذا البيت :ـ كـأن لـم يكـن بيـن الحجـون ولا الصـفا أنيـس ولم يسـمر بـمكـة سـامـرُونحن لا نجد لكل هذا الصنيع من الإهمال والتدمير والتهجير والتهميش مايبرره أو يستدعيه سوي حقد دفين وكراهيـة بغيضة تنفثها صدورهم دون ادني جناية أو جريرة إقترفتها أيدي المواطنين.ومع كل هذا وبعد كل هذه المعاناة فإن شعب هذه المدينة مثله مثل طائر الفينق كلما إحترق ونشر رائحة العنبر يستمد من إحتراقه بعثاً جديداً… وحياة اجد ملؤها التفاؤل والتضحية ونكران الذات. وهو يقول لهؤلاء الأوباش ” من يزرع الريح يحصد العواصف “.ولو أمعنا النظر في النهج الذي ينهجه نظام أسمرا لوجدنا إنه لا يألوا جهداً من غرز ناراً طائفية، وينمي نعرات قبلية وجهوية وعشائرية، وهذه هي التركة التي يريد أن يورثها ويخلفها من بعده ويعمق جذورها بين الشعب لكي يعيش متناحراً متجزئاً مقوضاً وحدته الوطنية.وتجنباً لهذا المنزلق وبعداً عن آثاره المدمرة ودرءً للفتنة وإغلاقاً لجميع ابوابها، ومن باب إعادة الحق لذويه ومستحقيه نقول ان الأرض التي أستثمرت عن طريق وضع اليد عليها، أو العقار الذي قُطن وأستغُل بغياب ذويه، مالم يكن قد تم بيعه من مالكه الأصلي أو ممن ينوب عنه نيابة قانونية وبعقد شرعي لا تشوبه شائبة ويكون حجة لحائزه في دعواه أمام القضاء لأن العقد شريعة المتعاقدين.فكل مواطن نزح الي أي أقليم من الأقاليم في البلاد بعد عام 1975 وآلت له ملكية أرض عن طريق قانون هذا النظام القائم في أسمرا ويكون قد صدر تحت مادة قانوينة فحواها “إن الأرض للدولة تتصرف فيها كيف تشاء” نقول “هذا قول حق أريد به باطل” مبتغاه اشعال فتيل الفتنة بين المواطنين وانه صدر من اجل تحقيق أهداف لا تخفي علي الجميع لا سيما انه قد تم بعد تهجير أصحاب الأرض ودفعهم علي هذا ومضايقتهم وسن قوانين تعسفية استهدفتهم وحملتهم الي ترك ديارهم قسراً، ومن ثم إستيطان آخرين في أرضهم من خلال الهجرة الداخلية التي أستحدثها النظام من أجل تعميق الفتنة بين المواطنين في المستقبل.فالأرض التي منحتها الدولة لهؤلاء النازحين وآلت لهم ملكيتها وفق سند قانوني ظالم، يجب أن تنزع منهم وتعود الي أصحابها ومستحقيها من ابناء نفس الأقليم بعد ان يتم عودتهم من مهجرهم، فهم أولي واحق بملكيتها وإستثمارها وإستصلاحها، علي أن يعود كل نازح الي أقليمه الذي نزح منه وأن يعوّض وفق قانون آخر إن كان ثمة ما يستدعي ذلك.وهذا الأمر يجب أن يلح في سبيل تحقيقه كل مواطن في أقليمه، قبل ان يصبح أمراً واقعاً يتعاقب عليه الأجيال في الأقليم، وعندها سوف يستعصي علاجه وإن لم يرق الي درجة الإستحالة. لأنه ليس هناك حق يضيع وراءه مطالب، ويمكن معالجة هذا الموضوع بشئ من الإسهاب لأهميته الملحة والضرورية.ألم يعلم حكام أسمرا إن المستعمر الإثيوبي عندما همّ بضم أرتريا اليه أراد أن ينال صك هذا الإغتصاب من هذه المدينة وشعبها لأنه يعلم جيداً قبل غيره إنها الغصة التي يمكن أن تحول دون إبتلاعه بهذه الأرض، فأقام لهذا الصدد إحتفالاً لينال هذه الموافقة ولو كان ذلك بشكل ضمني أو صوري، ولكن الرد كان يوافق ودور هذه المدينة الأبية وشعبها الباسل فأنفجرت “قنبلة” في ذلك الكرنفال وكان المستهدف بها ممثل المستعمر ولكنه نجا بأعجوبة، وكانت تلك الرسالة معبرة عن معدن ودور هذه المدينة وشعبها، وحدثت من جراء ذلك الإنفجار مجزرة مات فيها من مات من أعيان المدينة وعامها، وعاشت المدينة يوماً مظلماً كما لم تعشه من قبل.وكدأب أي مستعمر أراد ان يرهب ويعاقب الشعب علي فعلته وتجرئه عليه فقام بتلفيق تهمة الضلوع علي هذا العمل وبشكل تعسفي وبدون تقديم أدلة دامغة وحيثيات وقرائن تدعم التهمة، فكانت المحكمة صورية والحكم مسبقاً قبل الوقائع، فصدر الحكم بالإعدام كما أعد له علي إثنين من ابناء هذه المدينة ونفذ عليهما في أكتوبر من عام 1964.فكان ذلك الشهيد محمد حسن حسنو أول شهيد مدني يحكم عليه بالإعدام شنقاً أمام أهله ومواطنيه لإرهابهم، وقد نال هذا الشرف الذي وشح به صدره هو ورفيقه الشهيد عبدالرحيم محمد موسي، وعندما سيق الشهيد محمد الحسن حسنو الي منصة التشريف لم يهابها بل قدم اليها قدوم الأبطال رافعاً رأسه كالجبل الأشم ولم ترتعش قداماه خوفاً من المصير المحتوم، وكأنه كان يردد بيت المتنبئ الذي يقول فيه:ـإذا لـم يـكـن من المـوت بـدُ فمـن العجـز أن تـموت جـبـانـاًفزرأ في وجه جلاديه كالأسد الضاري بصرخة مجلجلة وهتاف مدوي إهتزت له أقدام جلاديه وأرتعشت منه فرائصهم، فكان هتافه : “عاش الشعب الأرتري وعاشت أرتريا حرةً مستقلة” وكان هذا الهتاف جدير به أن يسطر بماء من ذهب، وأكبر ظني ولا أخالني قد تنكبت الحقيقة وجانيت الجادة لو قلت إن هذا القول لم يردده إنسان في وجه جلاديه قبله في هذا الوطن، وانفض الجمهور من أمام هذا المنظر المهيب أفراداً وجماعات ولسان حالهم يقول لهذا الفارس قبل أن يترجل:ـعـلوُ في الحـيـاة والممـات لـحق تلك إحـدي المـعجزاتولـما ضـاق بـطن الأرض عن أن يواري فـيه المـكرمـاتأصاروا قـبرك وأستعاضوا عليك اليوم صـوت النـائحـات وقد حملوا معهم ذاك الهتاف في أعماقهم شعاراً ونبراساً ورثه السلف للخلف لكي يرفعه ويتحدي به العدو المغتصب.وعليه ان يعلم إن هذه المدينة لم يعتقل فيها فدائي واحد وشايةً وتجسساً، مع أنها من أكثر المدن علي الإطلاق التي كان ينفذ فيها الفدائيون عملياتهم البطولية وبشكل جريئ، لأن المواطن كان عينهم الساهرة وقلبهم النابض ومرشدهم ومعينهم.وتتوالي الأحداث الأليمة والذكريات المرة بأهلها حيث أنه وبعد قيام الفدائيون بعملية إغتيال الشيخ حامد فرج في قلب مدينة اغوردات بجوار الجامع ظهراً أنتشر الجيش في المدينة وضواحيها فقتلوا من قتلوا إشباعاً لنفوسهم (الهولاكية) وكان من ضمن هؤلاء الضحايا إبنة العم عثمان جبداي التي أغتيلت في بيتها وأمام مرآي والدتها، ولن تشفع لها أنوثتها ولا حداثة سنها ولا توسل والدتها وأخوانها ودموعهم التي كانت تنهار مدراراً.وإن هذه المدينة وشعبها إن نسوا أشياءً في محطات حياتهم المنطوية فإنهم لا ولن ينسوا هذا اليوم من حيث وضعه الله في شهره وسنته، فهذا اليوم جدير به ان يُنعت بيوم “الأحد الأسود” الدامي لأن المدينة باتت فيه سوداء دامية، سوداء من الدخان الذي عمّ أركانها بعد ان أحرقت كل البيوت بمن فيها وما فيها، دامية لأن جثث القتلي قد تناثرت في البيوت والطرقات، فقتل العدو الرجال والنساء والشيوخ والأطفال دون تمييز، فهذا التأريخ مساء الأحد 9/3/1975 تأريخ محفور في ذاكرة هذا الشعب لن تنساه ذاكرتهم ولا تمحوه الأيام والسنون بتعاقبها.فمدينة هذا هو ديدنها في مراحل تأريخها النضالي فهي جديرة بأن تنحني لها هامات الأبطال تقديراً وتبجيلاً لدورها ولعطائها الذي لا ينضب وأكرم به من عطاء لتسديد فواتير النضال موشحة به صدرها وحبل علي تسديده شعبها دون منّ علي أحد، فشعب هذا هو عطائه ومدينة هذا هو نضالها فكيف يكون هذا مآلها؟! تساؤل وتعجب لا نجد له جواباً شافياً علي الأقل في ظل هذا النظام الباغي الدكتاتوري.. ألم يعلم من هم في سدة الحكم وسدنته بأن هذه المدينة وساحتها كانت وساماً ووشاحاً يزدان به صدر كل مواطن حر شريف، وكل شهيد فدى الوطن بروحه ودمه ونال شرف صلب جسمانه الطاهر في تلك الساحة وفي قلب هذه المدينة الباسلة ولا فخر.فقومها كرام موطؤن أكنافهم لوعوشروا، أُسودُ ضارية لو زأروا فهذه سماتهم ورثوها وورثوها لأبنائهم.فإن الشقي من تعادي صدورهم وذو الجد من لا نوا اليه ومن ودوايسوسون أحلاماً بعيداً أناتها وإن غضبوا جـاء الحـفيـظة والجـدأقلوا عليهم لا أبـاً لأبيـكـم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدواأولئك قوم ان بنوا أحسنوا البنا وإن عاهدوا أوفوا وان عقدوا شـدواوان كان النعمـي عليهم جزوا بها وإن أنعموا لا كدروها ولا كـدواوكيف ولم أعلمهم خذلوكـم علي مفظع ولا أديمكم قدّواوقد لا مني أفناء سـعد عليهـم وما قلت إلا بالذي علمتْ سعدُوهذا قول نردده مع شاعرنا “الحطيئة” من قصيدة مدح بها آل شماس ” وماذا يضيرني إذا أضفت وقلت مع القائل: ” هم قوم إن قالوا أصابوا، وإن عاهدوا أوفوا، وإن وعدوا أجابوا، وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا، ولا يستطيع الفاعلون فعالهم، وإن أحسنوا في النائبات وأجملوا” وإن لام اللائمون كما لاموا شاعرنا وقد خابوا.وهذه المدينة شاء نظام أسمرا أم لم يشاء علمُ في رأسه نارُ ومنارة يهتدي بها كل ضال، وصدراً حنوناً دافئاً لكل محتاج، وسهماً مسموماً في صدر كل من تسول له نفسه في أن ينال حقاً من حقوقها قسراً، فهي دوماً كالشجرة السامغة التي لا تعبأ إذا رمتها مجموعة من الأقزام والأوباش يوماً بالحجارة بعد ان عجزت أيديهم من ان تنال ثمرة من ثمارها العالية، فهي عزيزة برجالها، قوية بصواعد شبابها مشرئبةً بهم، حصينة بفسيفسائها، فلا يستنْسرُ بأرضها البُغاثْ، كما لم يستأسد فيها أسد من ورق من قبل*