4-Feb-2006
المركز
الثورة :
فى صباح الرابع والعشرين من شهر مايو 1991 دخلت قوات الجيش الشعبى الارترى العاصمة الارترية ( اسمرا) و هرب الجنود الاثيوبيون عبر الحدود الى السودان. انتهت مرحلة الكفاح المسلح وتوجت نضالات الشعب الارترى بنصر عسكرى وشعبى حاسم تمت صياغته قانونيا فى الاستفتاء الذى جرى عام 1993 حيث صوت الارتريون لصالح الاستقلال بنسبة تجاوزت %97
انبهر العلم امام ذلك الحدث وعبر عن اعجابه بالشعب الارترى القليل العدد والمحدود الامكانيات وكيف استطاع ان يهزم اكبر امبراطورية افريقية. وانقسم العالم فى ردود الافعال : 1/ الشعب الارترى بطبيعة الحال غنى ورقص ووجد اخيرا مردودا لتضحياته خلال ثلاثة عقود. وللشعب الارترى صفق احرار العلم والشعوب المحبة للحرية. 2/ قلة عبرت عن غضبها ورفضها ( الامهرا فى اثيوبيا ) خاصة الشوفينيون منهم والذين شعرو بهزيمة نكراء وضياع ( مجدهم) الذى بنوه على جماجم واشلاء القوميات الاثيوبية الاخرى والشعب الارترى لاحقا. 3/ الدول الكبرى اصابتها الدهشة لتطور الاحداث – وهى التى كانت تعمل على اسقاط نظام ( منقستو) الماركسى (امريكا واوروبا) ولكنها لم تكن تريد ظهور كيان سياسى جديد فى المنطقة لذا بدأت تعيد حساباتها وتضع خططها لكيفية التعامل مع المولود الجديد. ولم تكن الدول الكبرى وحدها هى التى لم ترغب او لم تتوقع انتصار الثورة الارترية – بل ان كثير من القوى الاقليمية وحتى المنظمات التى كانت تدعم وتؤيد حق الشعب الارترى فى تقرير مصيره لم تكن واثقة بان الحلم الارترى يمكن ان يتحقق فى ظل معادلات اقليمية ودولية بدت وكانها ( خط احمر ) امام التطلعات الارترية : • اثيوبيا الامبراطورية – حيث مقر منظمة الوحدة الافريقية وشخصية الامبراطور (هيلى سلاسى) كرمز لافريقيا التى قاومت الغزو الاوربى (الابيض) جعلت من القارة الافريقية منطقة مقفولة امام الثورة الارترية لا يمكن الاغتراب منها ناهيك عن اقناعها بالاستماع الى شكوى الشعب الارترى. • التحالف الاثيوبى – الامريكى جعل من الثورة الارترية حركة غير مرغوب فيها ولا يجب التعامل معها ليس فى الولايات المتحدة فحسب بل وفى مناطق حلفائها فى اوروبا وحتى فى بعض مناطق الشرق الاوسط. وبعد تغير النظام فى (اديس ابابا) ومجىء الحكم الماركسى الحليف للاتحاد السوفيتى انقلبت المعادلة واصبحت الولايات المتحدة بطريق غير مباشر تتصل بالثورة الارترية ( خاصة الجبهة الشعبية). وتوعز لى حلفائها فى المنطقة بدعم الثورة الارترية ولكن طوال تلك الفترة لم تغير امريكا موقفها بالنسبة لاستقلال ارتريا – لا استقلال ولكن يمكن بحث اعادة الفيدرالية او الكونفيدرالية. • ولكن ذلك التغير فى نظام الحكم فى اثيوبيا ادى الى توقف مواقع الدعم وتأييد للثورة الارترية كانت فى عهد ( هيلى سلاسى) تعتبر صديقة للثورة الارترية – تلك هى مواقع اليسار العالمى بصفة عامة والعربى بصفة خاصة. • موازين القوى بين ارتريا واثيوبيا – الارتريون (اربعة ملاين) فى مواجهة خمسين مليونا – مع افتقار الثورة الارترية الى حليف او غطاء سياسى دولى يسندها ويدافع عن حقها فى تقرير المصير. لكل تلك الاسباب كان الفهم العام حول الثورة الارترية انها سوف تتوقف فى منتصف الطريق وانها فى احسن الاحوال ستعيد الفدرالية باعتبارها قرارا صادرا عن الامم المتحدة. ولكن بالمقابل فان الثورة الارترية كانت تنطلق من مخزون تاريخى وتعتمد على معطيات وحسابات واقعية وتسترشد بدروس التاريخ وتتعلم من تجارب الشعوب فى مقاومة الاحتلال وانتزاع حقوقها : 1/ تجربة الشعب الارترى فى مقاومة الغزاة – من الجيران او من اوربا اعطته مناعة ضد الاستسلام ووفرت له مخزونا من الاعتزاز بالكرامة والهوية ظهر جليا فى مرحلة تغرير المصير ( 1945-1952 ) باعلان الكتلة الا ستقلالية. 2/ لقد امن الشعب بحقه ايمانا لا يتزعزع واقتنع بانه يستطيع انتزاع ذلك الحق اذا دفع الثمن وكان على استعداد لتقديم التضحيات 3/ بالنسبة لموازين القوى – كان الارتريون يدركون انهم لا يواجهون (خمسين) مليون اثيوبى – بل فئة قليلة داخل الامبراطورية لان بقية القوميات الاثيوبية اصابها ما اصاب الشعب الارترى من اضهاد وضياع للحقوق وانه اذا بدات الرصاصة الاولى فى ارتريا فان الرسالة ستصل سريعة وقوية الى القوميات الاثيوبية والتى ستقوم بدورها باعلان الحرب على نظام (الامهرا) فى اديس ابابا وتنهار الامبراطورية الاثيوبية وهذا ما حدث بالضبط ! اذكر اننى التقيت مع سائق سيارة اجرة فى احدى بلدان الخليج بعد اندلاع الثورة الارترية بسنوات ومن خلال الشكل واللون واللغة ادركت انه من منطقة القرن الافريقى وادرك هو ايضا اننى من نفس المنطقة دون ان يعرف كل منا الجنسية الحقيقية للاخر- لذا سالته مباشرة من اين انت ؟ اجاب : من ( اورومو) وسالته عن احوالهم فبدأ يشرح لى معاناتهم وضياع حقوقهم فقاطعته وقلت : لماذا لا تثورون ضد الامبراطور والتفت الى من مقعد السائق وكنت جالسا فى المقعد الخلفى وقال : انت ارترى ؟ قلت: كيف عرفت ؟ قال: من غير الارترين يقول او يفعل ذلك !؟ 4/ بالنسبة لتغير علاقات القوى الاقليمية والدولية فان ذلك ممكن تحقيقه من خلال الصمود وفرض امر واقع والخطاب السياسى الموضوعى الذى يستخدم لغة العصر (المصالح والعلاقات) وابراز معانى وقيم الحرية والعدالة. ولم يتاخر تحقيق ذلك كثيرا – بدءا بالشعب السودانى وقواه الاجتماعية المتعددة والمتنوعة واحزابه السياسية وهيئاته المدنية ( محامون – قضاة – كتاب – وصحفيون – معلمون – عمال وفنانون – مراة وطلاب … الخ ). كانت تلك هى القاعدة التى احتمت بها الثورة الارترية خارج حدودها والارضية التى انطلقت منها للتواصل والاتصال مع العلم الخارجى. ثم كان افتتاح مكتب فى الصومال وبعده بدأ الدعم والتأيد يتدفق من سوريا – العراق – السعودية – مصر – دول الخليج – ليبيا – تونس – اليمن … الخ. وكانت الجاليات الارترية فى الخارج تقوم بدور ( السفارات ) بالاضافة الى تقديم الدعم المالى. وشيئا فشيئا اتسعت دائرة التأييد وانتقلت الى اوروبا – ولكنها دائما كانت عرضة للصعود الهبوط محكومة بصراع قطبى الحرب الباردة – امريكا والاتحاد السوفيتى ولكن السؤال: اذا كانت تلك هى الرسالة والمسيرة – فمن هى قوى الثورة الارترية التى بدأت عام 1961 وفجرت اطول حرب تحرير فى القارة الافريقية؟ أن المتتبع لتطور الاحداث فى ارتريا خاصة فى مرحلة تقرير المصير يدرك بان الاصطفاف السياسى الذى حدث فى تلك المرحلة والقوى الاجتماعية التى شكلت الاحزاب تركت اثارها المباشرة على شكل ومحتوى الحركات والتحركات اللاحقة. ففى فترة تقرير المصير كان معظم المسلمين يطالبون بالاستقلال ومعهم اقلية مسيحية (رأس تسما وولدأب ولدماريام) وهؤلاء شكلوا معا ( الكتلة الاستقلالية) وبالمقابل فان معظم المسييحين ومعهم اقلية مسلمة كانوا يطالبون بالتحاد مع اثيوبيا- وهؤلاء اسسو حزب (الوحدة – اندنت) وبعد القرار الفدرالى- ظهرت (حركة تحرير ارتريا وجميع اعضاء قيادتها من المسلمين – ومعظم عضويتها ايضا- ولكن حدث تطور هام فى ذلك الوقت وهوان جزءا من المسيحين الذين كانوا مع الوحدة مع اثيوبيا – وجدوا ان وعود اثيوبيا كانت كاذبة وان الامبراطورية همها الاول هو التوسع والتمكين لقومية الامهرا بالسيطرة على السلطة والثروة – اما بقية القوميات بما في ذلك المسيحيون الارتريون فهم من الدرجة الثانية والثالثة !! لذا وجدنا اعداد كبيرة من المسيحين الارترين ينضمون الى حركة تحرير ارتريا عام 1958 بعد ذلك كانت مرحلة الكفاح المسلح 1961 وكانت جبه التحرير الارترية. الرعيل الاول والقيادات السياسية والعسكرية والمناضلون والعضوية – جميعهم كانوا من المسلمين – لماذا ؟ لماذا لم يشارك المسيحيون من البداية ؟ سأترك الاجابة لاحد ابناء تلك الطائفة- عام 1968 كان (اسياسى افورقى ) ضمن بعثة عسكرية ارسلتها جبه التحرير الى الصين وكانت تضم اقلبية مسلمة وقلة من المسيحين وفى طريق عودتها وبعد ان اكملت البعثة التدريبية توقفت فى (دمشق- سوريا) حيث كان مكتب جبهة التحرير. وبوجود قيادة الجبه ( المجلس الاعلى) شارك اعضاء البعثة فى اجتماع لمناقشة النتائج وفى البداية قال الشهيد ( عثمان سبى ) عضو المجلس الاعلى رحب بالاخوة المسيحين الذين انضموا الى اخوتهم فى النضال بعد سنوات ونأمل ان نرى المزيد… ولكن (اسياس افورقى) لم يفوت الفرصة وتدخل طالبا الحديث وقال : (( ان المسلمين اذا كانو قد بدأو الثورة فلأنهم لم يكن لديهم بديل اخر- ولم يخسرو شيئا بذهابهم الى الثورة – ولكن المسيحي اذا التحقوا بالثورة فانه يخسر الكثير- الوظيفة – البعثات التعليمية فى الخارج – قروض البنوك لبناء المنازل والاستثمار – كل ذلك كان خطر للمسيحين ..))!! لعبت الكنيسة الارثدوكسية فى ارتريا دور تعبويا كبيرا وخطيرا. استخدمت الدين لاقناع ابناء الطائفة بعدم معارضة الوحدة مع اثيوبيا وقامت بعملية( غسيل دماغ) متواصل لزرع الخوف فى قلوب المسيحين الارترين وتهديدهم باتخاذ اجرأت وان كل من يخرج عن ( الرعية ) سيلحق به غضب الرب ولا بد ان يقدم الطاعة الكاملة للابراطور (هيلى سيلاسى ) راعى الكنيسة والذى صورته الكيسة باعتباره ظل الله فى الارض واذا اضفنا الى ذلك اجرأت السلطة المدنية والعسكرية والامنية فان الجيل الذى نشأ فى تلك المرحلة كان متشبع بشحنة تعبوية اختزنها فى زاكرته الجمعية واصبحت تقود خطواته وتشكل مواقفه خلال السنوات اللاحقة موخرا التقيت بصديق مناضل قضى اكثر من نصف عمره فى الكفاح المسلح وهو من ابناء المرتفعات الارترية من المسيحين اكتسبل من تجربة الثورة الكثير وقرأ واتصل ليكون فهما وثقافة ساعدته على الاتصال والتوصل مع المناضلين الاخرين. جلسنا نتجاذب اطراف الحديث ونستعيد زكريات مرحلة الثورة- وفجأة قال لى : ( هل تصدق باننى ذات يوم وانا امسك بسلاحى فى الخطوط الامامية واستعد لمواجهة الجيش الاثيوبى – فجأة سمعت فى الراديوا ان الامبراطور هيلى سلاسى قد مات ! ولم اصدق – فقد تدافعت الى ذاكرتى الامامية ما كان مخزون واسترجعت صورة (نصف الاله) لهيلى سلاسى وما كانوا يقولونه لنا القساوسة – ولكن استعد بسرعة قدرتى العقلية وقلت – حسنا هيلى سلاسى يمكن ان يموت !؟ ولاحظ صمتى ونظر الى واضاف : طبعا انتم المسلمون لا تعطون الموت ذلك البعد – وتؤمنون ان الانسان مهما كان موقعه وسلطانه فان مصيره الموت وهذا يساعدكم كثيرا فى التعامل مع قضية الموت. وقلت له : الغريب فى المر انك تشك ولو للحظة فى موت هيلى سلاسى ولا تشك اطلاقا فى موت المسيح! المسلمون- كما قلت – يؤمنون بان الوموت حقا لكل بنى البشر – ولكن هناك (شخص) واحد لا يؤمنون بانه مات – انه المسيح ( عيسى بن مريم ) اتدرى لماذا ؟ لانه كلام الله والكلمة لا تموت ! ثم اضفت قائلا : على كل حال – فالتاريخ ملىء بالاسماء التى كانت تعتقد انها مخلده ولكنها ذهبت – موبوتو- عيدى امين – بول بوت – وهتلر … الخ ونظر الى مبتسما وهمسا : اسياس ايضا سيذهب ! قلت : بالمناسبة انه اكثر من يؤمن ذلك لذا تراه يكثر من الحراسات والاحتياطات لحماية نفسه وتأخير الموعد ! ثم انه ( بروتستانتى) لم يخضع مثلك لغسيل الكنيسة !! ورغم كل ذلك – فقد واصل الارتريون النضال المشترك وقدموا التضحيات من الجانبين وكان يجمعهم هدف مشترك : التحرير- ولكن كان يفرق بينهم ايضا شىء هام لم يبرز فى السنوات الاولى للنضال- ولكنه برز وتشكل مع تأسيس الجبهة الشعبية – انه موضوع (الدولة ) ! لم تكن الدولة ضمن اولويات جبهة التحرير لا فكرة ولا صياغة ولا استعداد – فى حين ان الجبه الشعبية وضعت ( الدولة) على رأس اهتماماتها وعملت من اجلها وسخرت فى سبيله كل امكانياتها وعلاقتها. لماذا غابت فكرة الدولة عن الممارة اليومية فى جبهة التحرير- ولماذا كانت هى محور تحرك ونشاط الجبهة الشعبية!! نواصل فى الحلقة القادمة
