ارتريا .. من الثورة الظافرة الى الدولةالحائرة الحلقة (2): عمر جابر عمر- ملبورن
7-Feb-2006
المركز
الدولة
هل غابت فكرة ( الدولة ) عن جبهة التحرير؟ ولماذا اصبحت ( حاضرة) ومن اولويات الجبهة الشعبية؟؟ لنرجع قليلا الى تجربة كل تنظيم ونحاول تتبع مسارها وسنجد ما يمكن ان يشكل اجابة على السوال.
اولاً :تجربة جبهة التحرير كانت الجبهة تنظيما وطنيا فى منطلقاته – ثوريا فى اهدافهة وشعاراته. وبالرغم من التركيبة الاجتماعية التى رافقت التاسيس ( المسلمين ) الا ان جبهة التحرير كانت ارترية فى نظرتها الشمولية تتوجه بخطابها السياسى الى كل مفاصل المجتمع الارترى وتعمل على تحقيق وفاق وطنى تحت مظلة الكفاح المسلح. كانت جبهة التحرير تدرك بان مشاركة ( المسيحيين) ضرورة وطنية وشرط لانتصار الثورة. لذا فهى قد وضعت الاسس لتلك المشاركة حتى قبل ان يلحق المسيحيون بالثورة. اقرت اللغتين ( العربية والتغرنية) كلغتين رسميتين , طرحت برنامجا وطنيا ( وليس دولة اسلامية)وقامت بمحاولات متواصلة لاقناع وتجنيد ابناء المرتفعات الارترية. وعندما كان ياتى احدهم ويلحق بالثورة فانه كان يجد حفاوة واستقبال حتى وان كانت امكانياته وتجربته محدودة كان الهدف هو ارسال رسالة الى من هم فى داخل المدن والقرى بان جبهة التحرير هى للجمع. ولكن تلك السياسة لم تكن ناجحة دائما – فقد حدثت انتكاسات وهزات خاصة الفترة 1965-1970 1/ عام 1965 كان هناك عضو فى القيادة الثورية ( ملوء) واذكر ان اعضاء القيادة من المسلمين كانو ياخذون خمسة قروش ( شلن) كمصروف فى كسلا فى حين ان ( ملوء) كان ياخذ خمسة وعشرين قرشا ( طرادة) والمبرر – ان الاخرين من خلا علاقتهم الاجتماعية وتواصله الثقافى يجدون من يساعده فى حين ان ( ملوء) وحيد غريب لا يعرف احدا ولا يعرفه احدا!! بالرغم من ذلك لم يطب له المقام وسلم ونفسه للسلطات الاثيوبية بعد فترة وجيزة.. وكان اول ضحاياه الشهيدان ( ولدداويت تمسقن و سيوم عقبا مكائيل) حيث كان قد شاهدهما فى ( كسلا) فى مقر القيادة الثورية وهما يتأهبان للدخول الى ارتريا لتنظيم خلايا لجبهة التحرير. وكانت النتيجة ان تم القبض عليهما فى ( اسمرا) ومكثا فى السجن عشرة اعوام حتى خرجتهما قوات جبهة التحرير عام 1975. 2/ بعد تقسيم المناطق عام 1965 اضيفت منطقة خامسة بقيادة ( ولداى كحساى ) لتعزيز مبدا المشاركة وافساح المجال لابناء المرتفعات لاخذ موقع القيادة, ولكن القائد الجديد لم يستطع ان يستوعب المبدأ ولا اكتسب مفهوم المشاركة – لذا اتفق مع قريب له ( قسيس) فى داخل ارتريا لتسليم نفسه للسلطات الاثيوبية ومعه اسلحة المنطقة كلها !! ولكن الموامرة كشفت وهرب القائد ولكن الجبهة استرجعت سلاحها. 3/ بعد موتمر ( ادوبحا) عام 1969 انفصل ( اسياس افورقى ) مع مجموعته عن جبهة التحرير واصدر بيانه الشهير ( نحن واهدافنا ). 4/ خلال تلك الفترة كلها كان الهروب مستمرا على مستوى افراد ومجموعات صغيرة ولكن بقيت هناك دائما قلة استوعبت الفكرة وان لم تمثل ثقلا فى داخل التنظيم ولم تشكل عامل جزب لمن كان خارجه. كانت فكرة المشاركة هى المسيطرة على اجندة قيادات الجبهة منذ البداية وحتى عام 1975 كانت جبهة التحرير وتومن بالمشاركة قاعدة وشرطا لبناء الدولة – واذا لم يكن الطرف الاخر حاضرا ومشاركا فى مرحلة التحرير كيف يمكن مناقشة فكرة الدولة والتخطيط ؟ ذلك الموقف لم يكن طارئا ولا مستحدثا – لان المسلمين من خلال تجربتهم فى مرحلة تقرير المصير وتتشكيلهم ( الكتلة الاستقلالية) مع القلة المسيحية امنوا بان ( الوطن ) لن يكون وطنا الااذا كان للجمع وان ( الدولة ) لن تستقيم وتكتسب شرعيتها الا اذا تمثل فيها الجميع وان الصراع ضد اثيوبيا والنتصار عليها لن يتحقق الابوفاق وطنى شامل . بعد تطبيق الفدرالية استدعى ممثل الامبراطور كل من ( تدلاباير) و ( على رادأى) وقدم لهما حصة كل طائفة من الحقائب الوزارية. ربما يقول البعض اليوم انها ( سذاجة ) او ( طيبة قلب ) ولكن الخلل لم يكن فى الفكرة فى حد ذاتها ( المشاركة ) بل كان فى اسلوب الوصول الى ذلك الوفاق . لقد ارتكبت قيادات جبهة التحرير اخطاء سياسية محلية وخارجية ادت الى ظهور قوى معادية لها فى الداخل والخارج واضعفت من قدراتها ليس لاقناع الشريك الاخر بل وافقدتها القدرة على الاحتفاظ بما كان لديها منذ البداية . من الاخطاء الداخلية : 1/ فقدان ولاء وتأيد مجموعات قومية كانت بحكم تركيبتها الاجتماعيه وتكوينها الثقافى ضمن قاعدة جبهة التحرير فى مبناها و معنتها- فى اهدافها القريبة والبعيدة. قرار المؤتمر الوطني الاول حول التعامل مع القوى المنشقة – الانذار لقوات التحرير الشعبية – اما الانخراط او مواجهة التصفية فى حين ان القرار بالنسبة للحوار وذلك مبرر ان الامر يتعلق بالوحدة الوطنية !؟ هل كان تعبيرا عن (اكتفاء ) و ( تشبع ) بوجود الطرف المسلم ونقص فى تواجد الطرف الاخر ؟ام كان ابتسار لمفهوم الوحدة الوطنية وقفزا على معطيات الواقع ؟ ربما كانت لسيطرة فكرة ( المشاركة ) على نهج وفكر الجبهة العامل الاكبر فى اتخاذ ذلك القرار . والنتيجة – لم يقبل ذلك ( الشريك ) بالحوار وخسرت الجبهة قواها الحقيقية والتى التحقت با سياس وتحلفت معه فى مواجهة الجبهة. ومن الاخطاء السياسية الخارجية : 1/ لم تكن هناك علاقة سياسية مبنية على فهم للمصالح المشتركة بين جبهةالتحرير والحكومات السودانية المتعاقبة. صحيح ان تلك الحكومات كانت مترددة فى اقامة علاقة واضحة مع الثورة الارترية ، بل وفى بعض المراحل كانت متأمرة عليها ومتخوفة منها . ولكن وكما عبر احد القياديين السودانيين فى مرحلة الاحزاب الثانية : ( ان الثورة الارترية تقوم بحماية الحدود الشرقية للسودان دون دعم عسكرى او امن من الحكومات السودانية وتلك ركيزة اساسية لاقامة تحالف استراتيجى معها ) وحتى فى مراحل ( اهتمام ) الحكومات السودانية باقامة تلك العلاقة فان الجبهة لم تعطى ذ لك الامر اهميته الاستراتيجية بل كانت مشقولة بالعلاقات اليومية مع اجهزة الامن لتامين مرور المساعدات الخارجية وسفر وحركة قيادات الثورة و مناضليها. ذات يوم استدعى الرئيس ( نميرى) قيادات اجهزته الامنية وطلب منهم تقرير مفصل عن الثورة الارترية. ومن ضمن ما جاء فى التقرير استمع ( نميرى ) الى علاقات الثورة الارترية الخارجية حيث قال التقرير: هذا الفصيل تابع لسوريا وذاك للعراق واخر للسعودية … الخ. والتفت ( نميرى ) الى رئيس جهاز الأمن وقال : وحقنا وين ؟؟ وللتاريخ فان جبهة التحرير لم تكن تابعة لاية دولة او جبهة خارجية ولكن كانت لها علاقات مع الجميع. ومرة ثانية وعندما كان وفد من الجبهة يجرى محادثات سرية مع وفد اثيوبى فى ايطاليا – وصل النبأ الى الحكومة السودانية بطريق غير رسمى واستدعى رئيس جهاز الامن اللواء ( عمر الطيب ) وممثل الجبهة فى الخرطوم وقال له السودان ليس ممرا او معبر لكم للاتصال بالعالم – لا نقبل تهميش دورنا …)!! 2/ عندما كانت الثورة فى حالة تقدم وهجوم على ضواحى ( اسمرا) اهتم العالم كثيرا خاصة الاتحاد السوفيتى حليف النظام الماركسى فى ( اديس ابابا). وفى محاولة للبحث عن حلول ( استدعى الرئيس الجزائرى الراحل ( هوارى بومدين ) قيادة جبهة التحرير وقال لها : طلب منى السوفيت ان اقترح عليكم حلا كونفدراليا لانهاء الصراع الارترى – الاثيوبى. وهى صيغة اكثر تقدم واغرب الى الاستقلال من الفدرالية . الوفد الارترى رده مباشرة : لا نقبل – سندخل الى ( اسمرا) على الدبابات. اجاب (بومدين) : اذا كنتم واثقين من ذلك فمن الخطاء القبول بالمقترح السوفيتى ولكنى اعلم بان الاستعدادات العسكرية وصلت زروتها وان السلاح الروسى يتدفق على اثيوبيا. بعدها باشهر شنت اثيوبيا حملتها الكبيرة واستعادت جميع المدن المحررة وتراجعت الثورة مرة اخرى الى الريف. القريب ان ( بومدين ) التقى بوفد الجبهة الشعبية وطرح عليه نفس الفكرة ولكن رد الوفد كان : لا بد ان نعود الى القيادة ونناقش الامر ثم نعطيكم راينا!! 3/ بعد مجئ النظام الماركسى فى (اديس ابابا) انقلب اليسار العالمى بصفة عامة و العربى بصفة خاصة على الثورة الارترية. بدأ اليسار يقول : ان مركز الثورة انتقل الى ( اديس ابابا) ولابد للثورة الارتريه من التقدم نحو ذلك المركز و عقد اتفاق تاريخى! وبدأت جهود حثيثة ومتواصلة من قبل اليسار العربى خاصة الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين – الحزب الشيوعى اللبنانى – الحزب الاشتراكى اليمنى وبعض المنظمات اليسارية لاقناع جبهة التحرير بتخاذ موقف جديد. وكان ان اصدرت الجبهة بيانها الشهير فى ( بيروت ) والذى تؤكد فيه ان الاتحاد السوفيتى حليف استراتيجى وان التغير الذى حدث فى اثيوبيا يعتبر صلتغيرا ثوريا لمصلحة الشعب الاثيوبى. دق ذلك البيان ناقوس الخطر امام الولايات المتحدة وحلفائها فى المنطقة – وبقية دول الخليج والسعودية . وبدا الاعداد لمحاصرة جبهة التحرير وتصفيتها اذا امكن وتشجيع ودعم الفصيل المنافس ( الجبهة الشعبية) والتى ادانت الاتحاد السوفيتى علنا! عندما حصلت جبهة التقراى على كمية كبيرة من الاسلحة من الخارج (وكانت مدعومة من امريكا وحلفائها ) طلبت الحكومة السودانية من جبهة التحرير المساعدة على تمرير تلك الاسلحة الى ( تقراى ) – ولاجراء لقاء بين القيادتين اقتراح تنظيم تقراى ان يكون اللقاء فى السودان فيما اصرت قيادة الجبهة ان يكون الل قاء فى الميدان ( المناطق المحررة ) وفشل اللقاء وكان ان تم الاتصال بالجبهة الشعبية والتى وجدت الفرصة المناسبة لانشاء تحالف مع جبهة تقراى تواصل واصبح راس الحربة فى الهجوم على جبهة التحرير. وفى الموتمر الوطنى الثانى جاء ( الشريك ) الغائب باعداد كبيرة – 1975- وساد شعور بالرضا والنجاح لدى قواعد وقيادات جبهة التحرير بان ما كانت تنتظره وتعمل من اجله قد تحقق ولو متاخر . ولكن ذلك الشريك جاء بمفهوم مغاير للسلطة . • المفاجئة الاولى كانت ان طلب هولاء المشاركة فى الموتمر ! والحال ان معظمهم لم يتم تسجيله فى اجهزة وموسسات الجبهة بعد بالاضافة الى ان شروط عضوية المؤتمر لم تنطبق عليهم. وتوقف الموتمرون لمناقشة تلك القضية التى ظهرة خلالها مدافعون ومحامون داخل المؤتمر يطالبون بتمثيل القادمين الجدد! تلك كانت اول مواجهة عكست صراع السلطة فى صورته العلنيه والتنظيمية تم الاتفاق اخيرا على تمثيلهم بنسبة % 7 ولكن النتجة كانت قيام تحالفات جديدة وتشكيل محاور تخطت وتجاوزت ما كان سائدا خاصة داخل حزب العمل المهنى على التنظيم – وكان الضحية الاولى والابرز ( حروى بايرو ) الذى سقط فى الانتخابات ووجد نفسه فى موقع المعارضة للتنظيم كان يشغل فيه منصب نائب رئيس. • المحاولة الثانية لاستلام السلطة كانت من خلال حركة ( الفالول) – لم تعجبهم نتائج المؤتمر ولم يقتنعوا بالقيادة التى تم انتخابها لذا بدا تمرد مسلح داخل جيش التحرير وكوادر من الاجهزة بل وحتى افراد امن القيادة ( المجلس الثورى ). ولكن ذلك التمرد تم قمعه وهرب من تبقى اما الى السودان او الى الجبهة الشعبية. • وبعد فشل المحاولات السابقة كانت المحوالة الاخيرة والتى تمثلت فى (الخروج الكبير ) الى السودان التنظيم بكامله- جيش واجهزة قيادات وقواعد وحتى الاسرى- والسبب المباشر والمعلن هو هجوم الجبهة الشعبية مع حليفتها ويانى تقراى ولكن بمجرد ان وصل التنظيم الى الحدود السودانية برز العرابون وقالوا : نريد موتمرا عسكريا وانتخاب قيادة جديدة!؟ ما لم يكن يعرفه هؤلاء وما كانت ايضا تجهله قيادة الجبهة ان هناك قوى اقليمية ودولية كانت تنتظر تلك الفرصة بفارق الصبر ولم تصدق ان الجبهة بكاملها اصبحت تحت يدها ! وصدر القرار السودانى بتجريد جيش جيش التحرير من سلاحة وانقسم التنظيم وتبعثرت قواه. تلك هى تجربة جبهة التحرير مع مفهوم الدولة – كانت تؤمن بالمشاركة ولكن الشريك طال انتظاره وعندما جاء كان يحمل فلسفة مختلفة لمفهوم السلطة. يقول احد الرموز القيادية من ابناء المرتفعات : ان المسلمين لا يعرفون معنى السلطة!؟ كلا يا صاحبى – المسلمون عرفوا السلطة ومارسوها قبل وصول الاوربيين من خلا ل تشكيلاتهم الاجتماعية وتقسيماتهم الجغرافية انشأو نظم ودواوين وادارات كانت هى التى اعتمدة عليها الاوربين واسسو عليها الدولة الحديثة. كان هناك ( دقلل – كنتيباى – شوم – نائب – ناظر – العمدة – الشيخ – مجلس شورى … الخ. ولكن تجربة الحركة السياسية الارترية لمتهم واقنعتهم بضرورة المشاركة لبناء دولة واحدة وخلق تعايش تساى فيه الجميع وما تمسكهم باللغة العربية الا دليلا على وعيهم وادراكهم باهمية هذا العامل ( اللغة ) فى توحيدهم وضمان حقهم ودورهم فى السلطة – وليس غريبا ان الذين يحرمون اللغة العربية يهدفون الى ابعاد المسلمين عن السلطة. اذا كان التاريخ والثقافة بالعيش المشترك هوالذى يمثل فلسفة المسلمين فى التعامل مع مفهوم السلطة – فان هناك ثقافة اخرى وتجربة مختلفة تنطلق مع مفهوم للسلطة يقول اتبع الاقوى وكن قويا يتبعك الاضعف !. تلك هى الفلسفة التى قامت عليها الجبهة الشعبية وذلك هو الفهم الذى قاد وانشأ دولة!. الى اللقاء فى الحلقة القادمة