الذكرى الأولى للزعيم الإريتري أحمد محمد ناصر
26-Mar-2015
عدوليس ـ ملبورن ـ ( خاص)
في مثل هذه الايام من العالم الماضي ترجل الفارس الزعيم والقائد أحمد محمد ناصر ، دون أوانه وعلى حين غفلة من الجميع .. غادر ناصر بعد ان أدى دوره كاملا غير منقوص . ناضل من أجل تحرير وطنه من الإحتلال العسكري الإثيوبي ، ثم غادر وهو يخوض معركة العدالة والديمقراطية والسلام .الأحاديث تبدو سمجة والمفردات متقاصرة أمام شخصية هذا القائد الوطني الكبير .. فقط ليعرق الجميع ان احمد ناصر كشخص وكمناضل إرتبطه بأهم مرحلة من مراحل الثورة الإريترية ورأس رمحها جبهة التحرير الإريترية ولا يستطيع كائن من كان فصل تاريخ الرجل عن تاريج رجال عظماء ونساء باسلات حفروا وحفرن بعيدا في وجدان الأجيال .يسر عدوليس ان تتزين بمقال الأستاذ نقاش عثمان الذي رافق القائد في سنوات نضاله الأخيرة ، وسننشر قصيدة رثاء الشاعر محمد محمود الشيخ مدني للقائد الشهيد ومقالات أخري إستعادية .
ماضون على دربك يا “أبا بردى” !! بقلم / نجاش عثمان إبراهيم مضى عام على رحيل الزعيم الخالد أحمد محمد ناصر، مخلفًا وراءه فراغًا كبيرا على كافة المستويات.كان أبو بردى بالنسبة لي أخا كبيرًا منذ أن شاءت الأقدار وأتعرف عليه في مدينة كسلا في بيت شقيقه الكبير المرحوم عمر محمد ناصر في نهاية 1977. ثم توالت لقاءاتنا بعد انتقالي إلى سوريا للدراسة. وكان كل مرة ألتقيه يكبر في نظري … ليس لأنه يقود أكبر تنظيم وطني حينها، بل بتواضعه الجم، وثقافته العالية، والإنصات إلى محدثه مهما كان شأنه… فضلاً عن اهتمامه الكبير بالتحصيل العلمي، والذي كنت ألحظه في مناقشاته معي أو مع أي طالب كان يقابله. ويعود ذلك في رأيي إلى أنه كان من الطلبة المتفوقين الذي يشار لهم بالبنان، إن كان في إرتريا، في كل مراحله الدراسية حتى أكمل دراسته في ثانوية الامبراطور هيلي سلاسي بأسمرا، أو أثناء دراسته في الأكاديمية العسكرية في العراق. مهما قلتُ في هذا الزعيم العملاق، رحمه الله، سوف لن أوفيه حقه… فمن تتاح له فرصة مجالسته، يعتبر وكأنه دخل مدرسة يستقي منها شيئا مفيدًا من كل جوانب المعرفة… كتب عنه الكثيرون عند استشهاده، والكل أجمع تقريبًا على سمو أخلاقه ووطنيته الخالصة، وكانوا محقين في ذلك. كان الشهيد يتألم أيما ألم، عندما يتناهى إلى سمعه أو يرى أي شيء يمس نسيج الوحدة الوطنية الإرترية. وكثيرًا ما كنا نتناول بالنقاش بعض المقالات التي تكتب بهذا الخصوص، أو بعض التجمعات القبلية أو الإقليمية التي تنشط هنا وهناك … وكان يشاركنا النقاش غالبا صديق عمر الشهيد وأستاذي خليفة عثمان، أمد الله في عمره. وجئته يوما متذمرًا من ظاهرة التكتلات القبلية التي تحدث في السويد، وكيف أن الغالبية العظمى من الإرتريين باتوا يتجهون نحو هذا النشاط، وينزوون عن العمل الوطني العام. وبهدوئه المعتاد وحكمته البالغة هدأ من انفعالي، وقال لي باختصار ، هذه الظواهر ستظل موجودة في مجتمع مثل مجتمعنا، والحكمة تقتضي أن نتعامل معها بهدوء، ودون انفعال، ونسعى لإيجاد معالجات موضوعية لها. وأضاف قائلاً : ” في وقت الأزمات دائما ما تظهر مثل هذه الظواهر، ولكن مع مرور الوقت تتلاشى وتأخذ حجمها الطبيعي، إلا أن هذا يفرض على كل من يفكر بشكل وطني ونال قسطًا من التعليم في مجال الدراسات الاجتماعية، أن يحاول دراسة مثل هذه الظواهر واقتراح حلول علمية لها”. في أول مؤتمر لجبهة التحرير الإرترية – المجلس الثوري أشارك فيه في 2001 والذي عقد في مدينة “جوندر” بإثيوبيا، رأى بعض الإخوة ترشيحي للقيادة، وأنا كنت متهيبا لتحمل مثل هذه المسؤولية… ولم يكن أمامي سوى الذهاب إلى الشهيد أحمد لأستشيره في الموضوع …. أشفق علي كثيرًا، وأخبرني بأن عددًا من زملائه في القيادة طرحوا عليه هذه الفكرة، وقال لي حرفيًّا: ” لا بأس أن تخوض التجربة، ولكن خوفي من ألا تحترق بسرعة”… المهم قبلت الترشيح، وقيض لي أن أكون بجانبه وغيره من القيادات التاريخية لجبهة التحرير الإرترية. ثم توالت الأحداث وترسخت لدي قناعة بأن هذا العملاق الذي يحمل قلبًا كبيرًا يسع الإرتريين بكافة مشاربهم السياسية والتنظيمية، خُلق للقيام بمهمات أكبر من التي نقوم بها في الساحة السياسية الإرترية. كنت انتفض على بعض التصرفات المسيئة للنضال والمناضلين وانفعل… وعندما تتاح لي اللقاء به منفردًا، يعاتبني بروح أبوية رقيقة، ويحاول توجيهي بشكل غير مباشر… وأنه كان يردد دائما أمامي، ” يا نجاش: يجب أن تعلم بأنك ستواجه مشاكل شتى وتقابل تصرفات غريبة لا تتوقعها…. دائمًا أرجو أن تتعامل معها بهدوء ودون انفعال، وإلا لن تجد لها حلاًّ، والأمور لا تعالج بالمواجهات والصدامات بل بالصبر وإظهار قدرٍ كبير من طول البال”… كانت الشهيد أبًا روحيًّا لي، تعلمت منه الصبر والجلد والإخلاص في العمل، دون إنتظار شكر وعرفان من أحد… وكان يقول لي “أهم شيء أن يكون ضميرك مرتاحًا”…. لم يحدثني قط عن القبيلة، على الرغم من أننا ننتمي لقبيلة واحدة، إلا بما يخص تعريفي بالمكونات الاجتماعية وقبائلنا الإرترية العديدة وعاداتها الغنية… وباعتباري عشت طفولتي في المدينة، ولم تتح لي فرصة كافية للتعرف على أهلنا وطبائعهم في القرى، كنت أستمتع كثيرًا عندما يحكي لي عنهم وعن قيمهم السامية وبطولاتهم … والأشعار التي كانوا يرددونها في الأحداث التي مرت عليهم. يا الله، كم كنت جميلاً ورائعًا يا أبا بردى… وكنت أمني نفسي أن أجد متسعا من الوقت لأجلس معه وقتا أطول…. وخاصة بعد أن تنازل عن العمل القيادي اليومي بمحض إرادته…. ولكن انشغاله في الشهور الأخيرة من عمره لإعداد كتابه لم تتح لنا فرصة كبيرة للأسف الشديد للتواصل المستمر… كما أنه، وعلى الرغم من ابتعاده عن قيادة التنظيم، إلا أن الأزمة التي ألمت بالتنظيم خلال السنتين الماضيتين دفعتنا إلى إزعاجه بشكل مستمر بطلب الاستشارة وأخذ رأيه في قضايا كثيرة… ساهمنا، دون أن ندري، في إرهاق قلبه الكبير الذي تحمل أكثر من خمسين عاما الآلام والآمال بصمت، ولكن توقف فجأة عندما طفح الكيل !!! لم أكن أعلم أن اللحظة التي نفارقه فيها ستأتي بغتة ، كما لم أعتقد أن القدر آت بهذه السرعة. وكانت ثمة قضايا عامة وخاصة أحب أن أناقشها معه… ولكن شاءت إرادة الله أن يفارقنا دون سابق إنذار… إلا أنه بالتأكيد، سيظل باقيًا بيننا كمجرى الدم في العروق. لن نبكيك يا أغلى الناس، ولن ننكسر،.. وسنظل على العهد أوفياء…. تعلمت مبادئ الانتماء إلى الوطن والحفاظ على وحدة الشعب بكافة مكوناته الاجتماعية على يدك يا أبا بردى… واليوم جاء الوقت الذي أعاهدك فيه مجددًا بأنني سأظل أعمل بنصائحك القيمة دائمًا، مهما واجهتني من صعاب، وسأبتعد عن أي تكتل قبلي مهما كانت المبررات والتفنن في الإخراج…. سيظل كلامك لي وصية أنفذها، ودليل عمل لي حتى ألحق بك إن شاء الله رافع الرأس كما كنت تريد. إنني أنحني اليوم احترامًا لسيرتك العطرة ومواقفك الوطنية الشامخة، وأؤكد لك بأن الكثيرين من الذين تتلمذوا على يدك لن يحيدوا عن الدرب، وسيظلون أوفياء للعهد، وحتمًا سنحقق حلمك في رؤية إرتريا الواحدة الموحدة والتي سينعم شعبنا، بكل فئاته، في ظلها بالعدالة والديمقراطية. خياراتك كانت خيارات كل الوطنيين الأحرار، لم تفكر يوما بتحقيق مآرب شخصية لك، أو لأسرتك الصغيرة أو الكبيرة…. ولذلك ودعك الإرتريون في كل مكان بما يليق بمقامك السامي. كنت زوجا رائعا، وأبا حنونا وأخا صادقا…. وأبنائي الذي كنت قريبا منهم، أصيبوا بصدمة بالغة برحيلك المبكر… ودائما ما يتذكرون مناقشاتك معهم ومعاملتك لهم وكأنهم كبار. يقولون بعربيتهم الركيكة: “بابا” سامحنا، عمي أحمد ما في زيو”… كانوا يعتقدون بأنني يمكن أن أغضب بإطرائهم المبالغ بالشهيد… ولكن أؤكد لهم دائمًا: “لذلك أبوكم أحبه ولا يزال يحبه بجنون”…. صديقك الوفي المناضل خليفة عثمان يتذكر بإعجاب بالغ كيف أنك كنت دائما تجالس الأطفال وتتناقش معهم في أمور عامة وتسألهم عن دراستهم وطموحاتهم… وكانهم كبار. أيها الغالي .. نتذكرك دائما مع أبنائي ونترحم عليك، ونبتهل إلى الله أن يجزيك عنا وعن الشعب الإرتري خير جزاء. رغم رحيلك عنا في وقت كنا أحوج إليك من أي وقت مضى، ولكن هذه مشيئة الله، قدر الله وما شاء فعل. ولكن وإن رحلت عنا بجسدك، أبو بردى، فسيظل إرثك الوطني محفوظا في القلوب والعقول. ولن يهدأ لنا بالٌ حتى ننقل رفاتك ورفات كل المناضلين من أجل إرتريا إلى ثرى إرتريا الحبيبة التي حرمكم منها الديكتاتور. أملي كبير في أن ننشأ مركزًا فكريا ننشر من خلاله فكرك الوطني الرائع وتاريخك وتاريخ زملائك المناضلين وعطاءك الرائد منذ نشأتك في بيت الزعيم الوطني الكبير جدك ناصر باشا أبو بكر حتى وفاتك في أقصى شمال الكرة الأرضية… نم قرير العين يا أبا بردى فالمناضلون الذين رافقوك وتعلموا منك الكثير لن ينسوك أبدًا، وستظل، وأنت ترقد في قبرك باستكهولم مشعل نور، وفكر، وثوره مستمرة حتى ننتصر على الديكتاتورية ونبني دولة العدالة والديمقراطية التي أفنيت عمرك في سبيلها… ولو قدر لي أن أعيش تلك اللحظة فسأروي للأجيال معدنك الثمين أيها البطل المغوار … إلى جنات الخلد يا أغلى الناس !!