الراحل المقيم عبي عبد الله ساهم في تشكيل وجدان الكثيرين منا. بقلم/ زين العابدين شوكاي
24-Feb-2018
عدوليس ـ ملبورن
تربطني بالفنان الراحل عبي عبد الله عمار صلات ووشائج أسرية قوية، لذلك لم يكن هذا الرجل مجرد إنسان مر في حياتنا ذات مرة وانتهت العلاقة به هناك. فهو بجدارة أحد أهم مكونات البيئة الاجتماعية والأسرية لي ولأشقائي وشقيقاتي. لن أتحدث عن الجانب الشخصي للاحتفاظ به لنفسي، بل سأركز فيما يشكله عبي في وجداننا الجمعي كرمز من رموزنا الوطنية الذي فرض حضوره الثقافي في ساحتنا الغنائية والتراثية. بالطبع الفهم العميق لعبي كظاهرة يحتاج إلى التجذر في ثقافة المجتمعات الناطقة بالتجرايت، وعبي هو أحد أبنائها
النجباء بامتياز، لكن تأثير عبي، وتأثره بثقافة الناطقين بالبلين والتجرينية منحته البعد الوطني، لتعدد ثقافته وفضوله هو كشخص منذ طفولته، بالإضافة إلى مساهمة البيئات التي تنقل بينها وتفاعل معها في تشكيله، فصنعت منه هذا الإنسان الفريد، حاضر البديهة، صاحب نكتة، فنان يرسم لوحاته بالكلمات، وتحمل كلماته وعيًا سياسيًّا واجتماعيًّا، يعبر عنه عبي بكلمات بسيطة تدخل القلب، وتبهر العقل بعمقها وذكائها.
أحسن الكاتب الشاب حامد الناظر في وصفه لظاهرة مثل ظاهرة عبي عبد الله التي تأخذ بعدها الإنساني من محليتها المتجذرة في ثقافة أمة تمتد من مصوع حتى حلايب، ومن عمق القاش بركة وحتى تخوم شواطئ الساحل الشمالي، وبالتالي امتداد ثقافة التجرايت التاريخي أعطاها هذا الزخم والتنوع الذي تذخر به، لكن ولأنها ثقافة شفاهية آخذة في الانحسار بصورة مخيفة. عبي هو ابن هذه الثقافة المترامية الأطراف بجدارة. تحركاته، كما سبق وأشرت منذ طفولته وفِي شبابه بين “حقات” و”كرن” و”قندع” و”مصوع”، بل وحتى أديس أبابا منحته سعة النظر، التي دعمت مواهبه الفطرية، التي لولاها لما كان عبي كما نعرفه. دراسة ظاهرة مثل ظاهرة عبي عبدالله تتجاوز حدود علم بعينه، ويمكن أن تتقاطع فيها علوم كثيرة، من لغة وأنثربولوجيا، وفيلولوجيا وغيرها. نحن أمة وتاريخ مجهول لأصحابه ناهيك عن الآخرين. وبحكم التركيبة المناطقية والقبلية المتعددة والمتنوعة للناطقين بالتجرايت نجد أن الجزئي يطغى على الكلي، وتختفي القواسم المشتركة الغنية والمتنوعة لأصحاب هذه الثقافة، لتظهر خلافاتنا واختلافاتنا أكثر من مشتركاتنا. لو تصدى أحد منا لمهمة جمع الإرث الغني والمسجل والمشتت الذي تركه الفنان وصاحب النكتة عبي عبدالله لوجد فيه مادة تستحق إجراء بحث موضوعي، تظهر من خلاله جوانب اجتماعية وثقافية متنوعة وكثيرة.
الذي يربطني بهذه الشخصية المتفردة شخصيًّا كثير، والكل في إطار أسرتنا الصغيرة والكبيرة له ذكريات ومواقف عايشها في شخصية عبي ومعه. لذا أجد عقلي مزدحمًا بالكثير من المعلومات والمواقف التي يصعب فرزها. ما يميز عبي، رغم تواضع مستواه التعليمي، حسب قيم السلم التعليمي الرسمي، هي ثقافته الشعبية وتجذره فيها بعمق وأصالة، ومن الصعب تصنيف هذه العلوم والمعارف التي تمتلكها شخصيات مثل شخصية عبي، ويستعصي على النظم التعليمية المغلقة والمعيارية أن تقوم بتقييم مثل هذه المعارف. الكل يعترف بوجودها وأهميتها في سائر المجتمعات، لكن تقييمها عسير. غالبًا ما يقال إن موت شخص مسن في مثل هذه المجتمعات التقليدية هو موت لمعارف ومعلومات كثيرة، تدفن معهم في أغلب الأحوال تحت التراب، وبالتالي إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الاندثار تعتبر مهمة الدارسين والمهتمين.
عندما أستمع إلى المواد المسجلة بشتى الصور مما تركه عبي أو ود جعيف أو حامد عبدالله أطال الله في عمره، وغيرهم كثر من شعراء وفانانين، أجد أنه من الأهمية بمكان وجود مشروع ثقافي كبير يفترض أن تكون ضمنه وجود مكتبة تسع المواد المسموعة، والمرئية، والمقروءة، ليتم الاحتفاظ بها لأجيال المستقبل. وظروف الاستقرار الأكثر أمنًا ورخاءً في إرتريا المستقبل ستدفع الأجيال القادمة للتنقيب عن ماضيها وتراثها، وجمع هذا التراث في مكتبات رقمية هو أحد الضمانات للحفاظ عليها، وأمانة ستقدرها الأجيال القادمة لهذا الجيل لو قام بها.
* الصورة للتشكيلي الإريتري سليمان بخيت.