السجن في ارتريا وكسر الإرادة بقلم / فتحي عثمان
7-Aug-2014
عدوليس ـ ملبورن ـ
عرفت الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا ولاحقا الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة السجن منذ بداياتها وحتى بعد قيادتها لمركبة الثورة نحو الاستقلال. منذ منتصف السبعينات وبداية اشتداد عودها، سجنت الجبهة الشعبية وكبتت الصوت المعارض داخلها، وكان بعض من رموز حركة المنكع الذين نجوا من الإعدام مصيرهم السجن.دخلت الجبهة الشعبية العاصمة اسمرا في ظهيرة يوم 24 مايو 1991 وفي جيب قادتها قوائم معدة سلفا لأشخاص يجب اعتقالهم. يفترض المرء لأول وهلة بأن القائمة يجب أن تكون من المتعاونين مع العدو، خاصة من سكان المدن الذين لم تستطع جهاز أمن الثورة من الوصول إليهم. ولكن كانت المفاجأة بأن أغلب من طاردتهم الجبهة الشعبية واعتقلتهم ورمت بهم في غياهب السجون كانوا من أساتذة ومعلمي اللغة العربية والدين في المعاهد الإسلامية في أنحاء البلاد، وأيضا زمرة من قدامى المقاتلين في صفوف جبهة التحرير الارترية.
وكانت ولا زالت السمات المميزة للاعتقال داخل الجبهة الشعبية أنه اعتقال تسعفي دون مسوغ قانوني، لا تبرره سوى حجج أجهزة الأمن وآلياتها التي لا تعرف القضاء أو إتباع الإجراءات القضائية في الاعتقال. واتسمت بقدر لا يوصف من القسوة كالاعتقال في أماكن تفتقد الشروط الإنسانية للحبس، وعدم التقديم إلى المحاكمة والسجن لمدد غير محددة قد تطول إلى ما يزيد عن العشر سنوات ويزيد إلى معاناة الاعتقال حرمان المعتقلين من زيارات الأهل والأقارب أو المحاميين أو من يقوم مقامهم. هذه الممارسة الهمجية، والتي لم تشهد ارتريا نظيرا لها في عهد هيلاسيلاسى أو منغستو هيلي مريام الأعداء التاريخيين للشعب الارتري وطموحاته تتعرض يوميا لانتقاد متزايد من هيئات دولية مختصة بحقوق الإنسان عالميا وإقليميا.
قوائم المعتقلين تشمل مقاتلين ورموزا في النضال، وشيوخ أجلاء ومعلمين وصحفيين ونساء مناضلات، ورجال دين مسيحيين وأتباع لمذاهب دينية مختلفة وشباب لا جريرة لهم سوى محاولة الفكاك من إسار الخدمة الإجبارية ، أي بمختصر العبارة طالت الاعتقالات كل فئات الشعب الارتري.
الهدف من هذا الاعتقال ليس هو فقط كسر الروح المعنوية للمعتقل وتعذيبه، بل وضع الشعب الارتري وراء قضبان حبس معنوي آخر: أي يمكن القول بأن الشعب الارتري وقع تحت أسر القبضة الحديدية للاستبداد، وهذا ليس تشبيها مجازيا بل حقيقة ملموسة.
فعندما يقوم النظام باعتقال شيوخ في نهاية العقد السادس من العمر، وأطفال لم يصلوا بعد مرحلة النضج القانوني، فإنه لا يكسر قواعد السلوك التي توجب احترام كبار السن وتوقيرهم والرأفة بالصغار ورعايتهم، هنا وعندما يتواطأ الشعب بالصمت يكون الكل قد دخل وراء القضبان. بالأمس القريب تم اعتقال المناضل محمد على عمارو، ويمثل اعتقاله ما أقوله تماما، وينطبق عليه المثل العربي القديم: أكلت يوم أكل الثور الأبيض. المناضل محمد على عمارو ذو تاريخ طويل في الثورة الارترية وأمتد هذا التاريخ حتى بعد استقلال البلاد حتى يوم اعتقاله، نفس الاعتقال الذي سبق اعتقال رفاقه القدامى. لست هنا بصدد توجيه انتقاد لتجربة المناضل عمارو، ولكن ضمن ممارسات القمع التي مارسها النظام لم يكن له صوت معارض مجاهر ضد اعتقال الرفاق القدامى على الأقل، سكوته الظاهر على الأمر جعله الضحية التالية، وصمت المجتمع على اعتقاله يجعلنا نحن الضحية التي تليه، وضمن هذا الفهم يتم سجن الأفراد والشعب بنفس القدر.
لو حاولنا افتراضيا عيش نفس الحالة التي يعيشها معتقل ارتري واحد مضى على حبسه عشر سنوات، وهم كثر، فإننا سوف نعجز عن تصور وتخيل المعاناة والعذاب النفسي الذي يمر به أحد هؤلاء. لنفترض أن أحد هؤلاء هو من قال لا ضد ممارسات المستبد، مناديا بالحرية لشعبه وانتهي مصيره إلى زنزانة وحيدة كئيبة السواد، وقام المجتمع بنسيانه وراء القضبان، فكيف يكون حاله؟ لا يكون حاله إلا كحال من ظلم من ذويي القربى وظلم ذوي القربى أشد وقعا كطعن السيوف أو أمضى.
قيل قديما بأن الأمام أحمد سلطان اليمن إبتعث مجموعة من الشباب اليمني إلى الكلية العسكرية العراقية للعلم بغرض تحديث جيشه القديم فعاد أحد الضباط من العراق هو يحمل فكر حزب البعث العربي الاشتراكي، وحاول الانقلاب عليه، ولكن المحاولة فشلت وألقى القبض عليه وحكم عليه بالإعدام. وفي يوم الإعدام جمع الإمام مجموعة من الناس والغوغاء وقام يعدد أفضاله على الضابط المنقلب وفي الأخير صاح السلطان بالجموع سائلا: ما جزاء من قدمت له كل ذلك وكافأ النعمة بالجحود؟ فأجابت الجموع في نفس واحد وبصوت عال: الإعدام. فتمتم الضابط، وأسمه الثلايا هامسا: لعنة الله على شعب أردت له الحياة فأراد لي الموت.
كم من سجين وراء قضبان الاستبداد في ارتريا يلعن صمت وتواطؤ الشعب إزاء مأساته؟لقد أصبحنا جميعا في الداخل والخارج أسرى في زنازين رغم وجودنا خارجها.مؤخرا بدأت المعركة القانونية ضد ممارسات النظام تأخذ شكلا أكثر انسجاما وقوة وتنسيقا مقابل العمل السياسي المعارض والأعرج، فكان أن ظهر قرار مجلس حقوق الإنسان القاضي بتكوين مفوضية تحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان في ارتريا. وثانيها قيام مجموعة من المحاميين السويديين بفتح بلاغ جنائي ضد اسياس أفورقي وبعض المسئولين في الحكومة، وأخيرا تلميح السلطات السويدية بإمكانية القبض على المسئولين الارتريين المشاركين في مهرجان اسكندنافيا السنوي، مما أجفل المسئولين فلم يحضروه.يعود الفضل في التقدم على الصعيد القانوني إلى جهود متضافرة ومتعددة خاصة لناشطي حقوق الإنسان الارتريين وأقرانهم الأجانب والنتيجة كما نرى. ولن تكتمل صورة هذه الانجازات ما لم يقم الجميع بتوثيق أحوال المعتقلين في ارتريا، خاصة وأن المعتقلين هم أخوة وزملاء ورفاق لنا. هذا هو المخرج حتى لا نكون الثيران التالية التي تهيأ للذبح.