السودان وأريتريا.. من تضارب المشاريع إلى ضرورة التطبيع :صديق محمد أحمد مضوي .. صحيفة الصحافة
30-May-2006
الصحافه
30/5/2006م
أخيراً.. وبعد إثني عشر عاماً من القطيعة بدأت خطوات تطبيع العلاقات بين السودان واريتريا تأخذ منحنى تصاعدياً متسارعاً.. وبدأت الحياة تدب في أوصال المخزون الوجداني الذي كاد يموت اكلينيكياً بسبب الطموحات السياسية غير المنطقية وغير المبررة..
وبدأت عمليات رتق ما انقطع من حبال الوصل بين البلدين اللذين يعتبر كلّ منهما امتداداً سكانياً وعمقاً استراتيجياً للآخر ولا غنى له عنه!!.. وترحيبنا الشديد بما تم من مبادرات وما سيتلوها من خطوات التطبيع لا يجعلنا نغض الطرف عن إجابة السؤال: لماذا الآن!؟ لأن إعادة بناء العلاقات على أسس سليمة وحمايتها مستقبلاً من أية هزات أخرى يحتاج إلى دراسة أسباب الصراع، وكذلك مبررات العودة ونظرة الطرفين لها.. هل هي تكتيكية أم استراتيجية؟!.أصل الصراع بين الدولتين كان يكمن في تضارب المشروعين السياسيين للنظامين، فكلا النظامين جاء بمشروع سياسي إقليمي أكبر من قدراته ولا تتحمله مناخات النظام العالمي الجديد الذي بدأ يسود العالم متزامناً مع مولد النظامين.. فثورة الإنقاذ الوطني جاءت بمشروع حضاري إسلامي يتطلب اندياحه إعادة ترتيب أوضاع منطقة القرن الأفريقي ذات الأغلبية المسلمة، ولذا اهتم السودان بدعم الثورة الأثيوبية وساعد على استقلال أريتريا، وبذل جهوداً كبيرة في بناء دولتها، وكذلك بذل جهوداً جادة لتحقيق المصالحة في الصومال وإعادة نظام الدولة فيه. وهذا المشروع الحضاري نفسه كان السبب المباشر في استعداء الجيران، وفي استجابتهم لمحاولة التأليب من قبل القوى الكبرى، مما أدى إلى حصار السودان إقليمياً.. والنظام الأريتري جاء بأحلام الزعامة الإقليمية وتطلعات أن تصبح أريتريا دولة محورية ووكيلاً للنظام العالمي الجديد في القرن الأفريقي.. هذا الطموح الذي يفوق القدرات أدخل النظام في صدامات مع كل جيرانه مما أدى إلى عزل أريتريا إقليمياً.تضارب المشروعين السياسيين جعل أريتريا تحتضن وتدعم كل أنواع المعارضات السودانية تقريباً، السياسية والمسلحة، المركزية والجنوبية والشرقية والغربية، وتشارك في كل محاولات حصار السودان العسكرية والسياسية.. وتعلن صراحة عن عزمها على إسقاط النظام في الخرطوم وتطلعها إلى رسم مستقبل السودان بالطريقة التي تخدم مشروع زعامتها الإقليمية.. والسودان من جانبه ورغم تجاوبه مع كل مبادرات الوساطة وفي مقدمتها القطرية والليبية، إلا أنه لم يألُ جهداً في شن حرب سياسية وإعلامية على النظام الأريتري أسهمت في تكريس عزلته الإقليمية.السنوات الأخيرة شهدت تغيراً في المشروع السوداني وتراجعاً في المشروع الأريتري.. فبالنسبة للسودان فقد حدث تغيير ملحوظ في نظرية تسويق المشروع الحضاري بعد المفاصلة الشهيرة التي أدت إلى انقسام النخبة الحاكمة وخروج الجناح الأكثر تطرفاً من السلطة. وبعد المفاصلة أبدى النظام مرونة عالية في علاقاته الخارجية من أجل التطبيع مع المجتمع الدولي، كما أبدى حماساً كبيراً لإكمال عمليات السلام وإطفاء الحرائق في الأطراف، وتم ذلك بتعاون وثيق مع المجتمع الدولي والمنظمات القارية والإقليمية «الإتحاد الأفريقي وإيقاد».. وبطبيعة الحال فإن التطبيع مع أريتريا وكل الجيران يعتبر أساسياً في توطين السلام وتأمين استدامته.أما بالنسبة لأريتريا فإن مشروعها الإقليمي الخيالي قد اصطدم بعقبات كبيرة جعلته يتهاوى، منها المواجهة العسكرية مع أثيوبيا التي منيت فيها بخسائر فادحة، بشرية ومادية ونفسية، ومنها الأزمة الاقتصادية وضغوط المعارضة الأريترية.. بل هناك أيضاً صدود المجتمع الدولي الذي تعاطف مع أثيوبيا أثناء الحرب وبعد التحكيم ونقل مركز مكافحة الإرهاب في المنطقة من أسمرا إلى أديس أبابا.. وحذَّر أريتريا من مغبة العبث بسير مفاوضات سلام السودان سواءً كان ذلك في نيفاشا أو القاهرة أو أبوجا، وهذه المتغيرات أدت إلى توتر العلاقات بين أريتريا والغرب وخاصة أميركا التي شنَّ عليها الرئيس أسياس أفورقي هجوماً شديداً في خطابه بمناسبة احتفالات بلاده بعيد الاستقلال، ولم يتبق لأريتريا غير شراكتها الاستراتيجية مع إسرائيل، وهي شراكة تفيد الأخيرة مخابراتياً ولا تكسب أريتريا من ورائها غير مزيد من العزلة الإقليمية.. ومن ناحية أخرى فإن المتغيرات التي ذكرناها أجبرت أريتريا على مراجعة سياساتها تجاه جيرانها، ومع السودان -تحديداً- كانت دوافع المراجعة أكبر.. لأن اتفاقيتي نيفاشا والقاهرة قد أفقدتاها أهم حلفائها السودانيين، وبالتالي كروت ضغطها المؤثرة ضد حكومة الخرطوم.. بل إن انضمام حلفائها لتركيبة حكومة الوحدة الوطنية أعطاها حافزاً ومبرراً للتطبيع الذي من المتوقع أن يخدمها في مجالات كثيرة اقتصادية وسياسية وأمنية.. فاقتصادياً فإن أريتريا في أمس الحاجة لإعادة تجارة الحدود مع السودان إلى سابق عهدها لتخفيف حدة الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها، كما إنها في حاجة إلى إمدادات الطاقة من السودان وإلى دعم السودان لها في مجال الخدمات كالطرق والصحة والتعليم والتدريب… الخ، وهذه كلها مساعدات كان السودان قد بدأ بذلها بسخاء للدولة الأريترية في بداية عهدها، ولكن هذه الأخيرة تشككت في أنها قد تكون مصحوبة بعمليات وبرامج تصدير للمشروع الحضاري وشكوكها لم تكن بعيدة عن الواقع!! وهي أيضاً تحتاج إلى الإفادة من العلاقات السودانية -الأثيوبية المتطورة، في وساطة سودانية تنهي توترات الحدود وأزمة مثلث باديمي التي تشكل للنظام الأريتري هاجساً وتشل من حركته.. وكذلك تحتاج إلى السودان في تحجيم المعارضة الأريترية والمساعدة على إيجاد تسويات سياسية معها، علماً أن نظام أسمرا ظل إلى وقت قريب ينكر وجود هذه المعارضة جملة وتفصيلاً!!..الأجواء أصبحت مهيأة للتطبيع، وشخصياً أصبحت لا أشك في أن نظام أسمرا سيبذل جهداً جاداً ومخلصاً لإنهاء مشكلة شرق السودان كـ «عربون» لمسائل كثيرة يحتاج فيها لمؤازرة السودان، وخيراً فعل الأستاذ علي عثمان محمد طه نائب الرئيس عندما أولى أريتريا ثقته في رعاية مفاوضات الشرق، ولكن يبقى السؤال: هل التوجهات الجديدة للسياسة الأريترية.. تكتيكية أم استراتيجية!؟ هذا ما يحتاج إلى متابعة ودراسة.