مقالات
الصراع في إثيوبيا والمقاربة الأمريكية وتأثيراتها على إرتريا
عبد الرازق كرار
- ببيان الرئيس الأمريكي جو بايدن بتاريخ 26 مايو الجاري حول الحرب الأهلية في إثيوبيا والآثار الكارثية الإنسانية التي ترتبت عليها تكاد الضغوط الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي وبريطانيا بدرجة أقل، قد وصلت درجة غير مسبوقة وغير متوقعه وهو ما وضع الحكومة الإثيوبية في موقف حرج للغاية، وجعل تعاطيها مع هذه الضغوط المستمرة انفعالياً وغير متجانساً نتيجة لاختلاف وجهات النظر بين الأجنحة المكونة للحكومة الفيدرالية الإثيوبية.
- الضغوط الأمريكية والتي تركزت في مجملها حول ضرورة إيقاف العدائيات وانسحاب القوات الارترية ومليشيات الأمهرا من إقليم التغراى، وفتح الممرات للمساعدات الإنسانية واللجوء إلى حوار وطني شامل، لم تصدر فقط عن الجهاز التنفيذي الذي لديه صلاحيات واسعة في السياسة الخارجية، ولكنها جاءت متناغمة بين الجهازين التنفيذي والتشريعي (الكونغرس بغرفتيه) عبر لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس، وهى ذات المطالب التي تردد صداها عابرة للمحيط الأطلسي.
- لقد اختارت إدارة بايدن إرسال رسالة أولى من خلال فرض بعض العقوبات المتمثلة في تجميد بعض المساعدات المالية وفرض قيود على التأشيرات للمسئولين الإثيوبيين والإرتريين الذين تعتقد أمريكا أن لهم دوراً في الكارثة الإنسانية في إثيوبيا، وجاء توقيت الرسالة قبل أسبوع من عودة المبعوث الأمريكي السفير جيفري فليتمان إلى المنطقة غالباً متأبطاً بعض مقترحات الحلول للأزمة بكافة أبعادها السياسية والإنسانية ليس فيما يتعلق بالحرب في إقليم التغراى وحسب بل في عموم إثيوبيا والإقليم بما في ذلك القضايا المتداخلة مثل قضية سد النهضة والحدود السودانية الإثيوبية.
- الحكومتان الإثيوبية والارترية ومناصريهما يعتقدون أن المواقف الأمريكية منحازة للجبهة الشعبية لتحرير تغراى (الوياني)، ذلك أنها متأثرة بمجموعات الضغط (اللوبيات) التي استثمرت فيها (الوياني) عبر الأموال التي تراكمت لديها وهى في السلطة، والعلاقات التي أنشأتها إبان ما يقارب الثلاثة عقود من سيطرة الوياني على مفاصل السلطة والثروة في إثيوبيا، وهو الخطاب الذي يتماهى معه العديد من المحللين والناشطين خاصة في الوسط الإرتري المعارض.
- إن شبكة العلاقات التي بنتها الوياني، ومجموعات الضغط التي تعاقدت معها بالتأكيد لها تأثير في مواقف الإدارة الأمريكية والكونغرس، ولكن هذه بعض الحقيقة، ذلك أن واقع الحال يعكس صورة تحتاج إلى توضيح بشكل تفصيلي.
- إن القرارات الصادرة من البيت الأبيض أو الكونغرس إضافة للسياسات الكبرى الأمريكية (Grand Strategy) فإنها تتأثر بعاملين إضافيين وهما الثقل الانتخابي للمجموعات المتأثرة بالقرار، واللوبيات التي تملك من العلاقات ما يمكنها من الوصول إلى أعضاء الكونغرس وتستطيع إيصال رسالتها بشكل تستحوذ فيه على اهتمام عضو الكونغرس.
- واقع الحال يقول أن الثقل الانتخابي لمناصري الوياني في إثيوبيا ليس ذو قيمة مؤثرة مقارنة بالثقل الانتخابي للمجموعات الأخرى خاصة (الأمهرا) و(الأرومو) وبالتالي من الصعب اعتبار هذا العامل ذو تأثير كبير على مواقف الإدارة الأمريكية أو الكونغرس.
- جماعات الضغط (اللوبيات) في أمريكا وإن كان مسموح لها بالعمل وفق القانون، وهى جزء من آليات عملية صناعة القرار في النظام السياسي الأمريكي، لكن نفس القانون يلزم هذه الشبكات بإعلان تعاقداتها والجهة التي تمثلها، وبالتالي فإن الوصول إلى اللوبيات التي تدعم خط الوياني يمكن الوصول إلى بياناتها بسهولة، وكذلك أيضا اللوبيات المقابلة التي تدعم خط الحكومة الإثيوبية الفيدرالية، وأيضاً مواقف الحكومة الإرترية.
- بمراجعة هذه البيانات نجد أن استثمار الحكومة الفيدرالية في التعاقد مع اللوبيات يفوق عدداً وتمويلاً تلك التي تعاقدت معها جهات تعمل لصالح الوياني، فمثلاً نجد أن الحكومة الإثيوبية الفيدرالية قد تعاقدت مع مؤسسات وأفراد ذوي شبكات قوية وإمكانيات عالية في التأثير مثل (Barnes & Thornburg LLP.) و (Venable LLP) و (Holland & Knight) و (Ronald Oleynik) بينما تعاقدت مؤسسات تتبع للوياني مع كل من (Von Batten-Montague-York) وعضو الكونغرس المتقاعد الجمهوري (Connie Mack)، كما أن حجم الأموال المدفوعة من قبل الحكومة الفيدرالية هي أكثر من ضعف المبالغ من جهات تتبع أو تتعاطف مع الوياني.
- صحيح أن الوياني طوال فترة سيطرتهم على مجريات الحكم في إثيوبيا كانوا على علاقات جيّدة من الولايات المتحدة الأمريكية خاصة (الإدارات الديمقراطية) لكن التعمق في طبيعة هذه العلاقة نجدها قائمة على العلاقة الإستراتيجية في الجوانب الأمنية والرؤية الكلية لمنطقة القرن الأفريقي والدور الإثيوبي فيما عرف بالحرب على الإرهاب، ولكن بالمقابل كانت هنالك خلافات جوهرية في السياسات الاقتصادية التي انتهجها (ملس زيناوي) والتي لا تتسق مع السياسات الليبرالية أو النيو ليبرالية للولايات المتحدة، هذا فضلاً أن حجم التعامل الإثيوبي الضخم في كافة الجوانب مع الصين كان مصدر قلق أمريكي كبير، ونقطة تجاذب بين الطرفيين.
- بالمقابل فإن المؤشرات الأولى للحكومة الفيدرالية الإثيوبية بعد عهد الوياني (حكومة آبي احمد) أرسلت إشارات لا تخطئها العين في تقليل النفوذ الصيني في المنطقة، وأيضا تبنى التوجه الليبرالي والخصخصة للمؤسسات والقطاعات الحيوية مثل الاتصالات التي كانت الوياني ترفض خصخصتها، هذا غير التجاذب الكبير لملس زيناوي مع النظام المالي الذي يؤسس لسيطرة أمريكا نظام (Britton Woods) وهو ما فصله الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل جوزيف استيغلز في كتابة المشهور (العولمة ومنغصاتها-Globalization and Discontents).
- أمام هذه الحقائق المتمثلة في ضعف الثقل الانتخابي للوياني في أمريكا، وتواضع اللوبيات التي تعاقدوا معها، والكفة الراجحة لتوثيق العلاقة مع الحكومة الفيدرالية الحالية نتيجة لتجانس السياسات الاقتصادية وتقليل النفوذ الصيني، يبقى السؤال عن الدوافع الحقيقية خلف الموقف الأمريكي المتشدد تجاه الحكومة الفيدرالية الإثيوبية قضية تحتاج إلى تمحيص دقيق.
- دون التغاضي عن تأثير الثقل الانتخابي لقواعد التغراى على تواضعها، واللوبيات المساندة لهم على ضعف حيلتهم، فإن الدافع الحقيقي خلف الموقف الأمريكي والمواقف الأوربية المساندة هو الرؤية الأمريكية التي تتصور إثيوبيا دولة موحدة ذات تأثير مركزي في القرن الأفريقي وفي أفريقيا وحليف استراتيجي للولايات المتحدة.
- المفارقة هي أن كل من حكومة آبي أحمد، وأسياس أفورقي يحملان نفس المقاربة وهى أن تكون إثيوبيا دولة موحدة وذات تأثير كبير في إفريقيا ومنطقة البحر الأحمر، وهو ما فصله أسياس في حوار الساعتين في فبراير الماضي وكتبت عنه مفصلاً في مقالي (حوار الساعتين وتجليات الإستراتيجية البديلة، هل حانت لحظة أفورقي في التاريخ).
- لو صحت التسريبات عن اجتماع الأربع ساعات بين أفورقي والمبعوث الأمريكي جيفري فليتمان، فإن أفورقي والذي تحدث لثلاثة ساعات ونصف عن المواقف الأمريكية المخزية تجاه القضية الإرترية، أوضح لفليتمان أن ما يُبقي إثيوبيا متماسكة في هذه المرحلة هو وجود الجيش الإرتري في إثيوبيا، وأنه بدون الجيش الإرتري في إثيوبيا فلن تكون هنالك إثيوبيا، وهو تقييم يبدو أن الإدارة الأمريكية وإن اتفقت مع أفورقي في الهدف فلا تشاركه في ضرورة وجود الجيش الإرتري كضمان لتماسك إثيوبيا في هذه المرحلة.
- وعليه فإن الخلاف بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوربيين من جهة، وحكمة آبي أحمد وأسياس افورقي من جهة أخرى يتعلق بكيفية تحقيق هذا الهدف المركزي، وهو الاحتفاظ بإثيوبيا كدولة موحدة مستقرة تكون حليفاً استراتيجياً للغرب وذات تأثير سياسي في المنطقة. فبينما يرى أسياس وحليفه آبي احمد أن إثيوبيا لا يمكن أن تكون دولة موحدة وقوية إلا بزوال الوياني، فإن الإدارة الأمريكية مسنودة بما لديها من معلومات ترى أن زوال الوياني ليس أمراً يسيراً وفترة الستة أشهر الماضية منذ إعلان عملية إنفاذ القانون في 4 نوفمبر والتي يفترض أن تستغرق 3 أسابيع خير شاهد على ذلك، وبالتالي فإن الإدارة الأمريكية ترى الطريق للوصول إلى إثيوبيا موحدة هو عبر حوار ومعادلة تكون الوياني جزء منها، وإلا فإن استطالة أمد الحرب يجعل إثيوبيا أكثر قربا من التفتت وهو ما لا ترغب فيه الولايات المتحدة، ولهذا فإن المبعوث الأمريكي جيفري فليتمان عندما قال “إن الصراع في إثيوبيا ربما يجعل الصراع في سوريا يبدو وكأنه لعب أطفال) كان يدرك ما يقول.
- الإدارة الأمريكية المتواجدة بكثافة عبر أذرعها الرسمية وغير الرسمية في إثيوبيا وخاصة إقليم التغراى تدرك أكثر من غيرها أن وجود الجيش الإرتري في إثيوبيا وإن كان يساهم في حفظ الأمن وسيطرة القوات الفيدرالية على المدن، لكنه يضعف موقف آبي أحمد سياسياً، وليس هذا فحسب بل يرى أن تواجد القوات الإرترية أصبح في حد ذاته دافعاً لشعب التغراى (بغض النظر إن كان مؤيداً للوياني أم لا) للاصطفاف خلف الوياني في هذه المرحلة، وأصبح أمر المطالبة بانسحاب القوات الإرترية مطلباً موحدا لشعب التغراى بما في ذلك عضوية حزب الازدهار في اقليم تغراى وأعضاء وأجهزه الحكومة المؤقتة المعينة من قبل المركز لإدارة إقليم التغراى.
- هنالك شبه اتفاق بين المعنيين بالمنطقة أن الروح القومية داخل التغراى وصلت مراحل غير مسبوقة، وان استمرار التغراى ضمن الدولة الإثيوبية يتضاءل مع تطاول الأزمة في إثيوبيا، ومواقف نخب التغراى التي ترى نفسها ضمن الدولة الإثيوبية يضعف مع مرور كل يوم جديد لصالح النخب القومية في تغراى والتي يجد خطابها العاطفي المرتكز على أساس قومي صدىً كبيرا خاصة وسط الشباب في ظل تأثير وسائل التواصل الاجتماعي.
- شخصيات مؤثرة مثل قتاشو ردا (ربما يكون حفيد البلاتا هيلي ما ريام ردا – أحد قيادات وياني الأولي) والذي ظل يتبنى ويدافع عن حقوق التغراى في ظل إثيوبيا الموحدة، يصرح أنه يجد صعوبة في تبنى خطابه أو إقناع المحيطين به بجدوى هذه المقاربة، ويعلن أن فكرة العيش في إثيوبيا الموحدة تكاد تكون حلماً صعب التحقق نتيجة لما يحدث على الأرض.
- أمريكا أكثر من غيرها تدرك هذه الحقيقة البديهية، وأن استمرار الحرب في محصلتها النهائية هي إضعاف لفكرة إثيوبيا الموحدة، وانفصال التغراى وتكوين دولة قومية لهم وهو بداية النهاية لإثيوبيا ولن يتوقف الأمر على التغراى إذ سوف تتبعه بقية القوميات الأخرى، وتكون إثيوبيا يوغسلافيا القرن الحادي والعشرين.
- أن هذه الأحداث ذات تأثير كبير على واقع ومستقبل إرتريا بحكم عوامل الجغرافيا والتاريخ والسياسة، وإن الاعتقاد بأن هزيمة التغراى عسكرياً بشكل كامل يؤدى إلى استسلامهم مثل (الخمير الحمر في كمبوديا) هو احتمال ضئيل ولا تسنده الحقائق على الأرض، فالروح القومية في التغراى صعب محوها من الذاكرة الجمعية لشعب التغراى، وإن الذي يجري على الأرض وإن بدا هزيمة مؤقتة لكن استمراره على ما هو عليه على المديين المتوسط والبعيد يجعلنا أقرب إلى فكرة تحقق دولة التغراى.
- إن وجود دولة قومية للتغراى هو مهدد وجودي لدولة إرتريا بشكلها الحالي، ليس فقط بسبب الطموحات الزائدة لبعض نخب التغراى القومية، ولكن أيضاً لأن هذه الطموحات تجد صدىً لدى قطاعات من المجتمع الإرتري، خاصة من الجيل الذي ولد بعد التحرير ولا يدرك تحديداً المعاناة التي خاضها والتضحيات التي قدمها الشعب الإرتري للتخلص من الاستعمار، ويزيد ذلك الوجود خارج إرتريا حيث تتعمق قضايا الهوية، ويصبح الوطن فكرة تقوم على المتخيل من المشتركات في الثقافة والدين والإحساس بالتعرض للظلم الممنهج على أساس الهوية، بغض النظر ما إذا كان هذا الظلم حقيقياً أو متخيلا.
- إن تبنى بعض النخب الإرترية في مخاطبتها للمخاوف الحقيقية لطموحات بعض نخب التغراى لمقاربة أسياس أفورقي وآبي أحمد التي تستند بإمكانية القضاء على الوياني تنظيما، ومحو الفكرة من ذاكرة شعب التغراى الجمعية بالقوة، هو رؤية قاصرة، ولا أدل على ذلك من أنها نفس الرؤية التي اعتقدت أنها يمكن أن تحسم المعركة في ثلاثة أسابيع، وها هي الآن قد تجاوزت سبعة أشهر وحرفت حكومة آبي أحمد من كل الخطط الطموحة التي تفاءل بها العالم والإقليم في الأيام الأولى لحكمه، ليس هذا فحسب بل حشرت الحكومة الإثيوبية الفيدرالية في زاوية الدفاع أمام التقارير المتواترة عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي طالت كل من القوات الإثيوبية والإرترية.
- إن أقصر الطرق وأسلمها لتجنب طموحات النخب التغراوية هي أن تتم تسوية سياسية في إثيوبيا تشارك فيها الوياني ونخب التغراى ضمن الدولة الإثيوبية الموحدة، وهى المقاربة الأمريكية، والتي ليست معنية بإنقاذ الوياني كما يروج البعض ولكن بالحفاظ على إثيوبيا موحدة، وهو الخيار العقلاني أيضاً بالنسبة لنا كإرتريين في سعينا للحفاظ على سيادة واستقلال وسلامة إرتريا، وإيجاد حكومة تمثل كل مكونات الشعب الإرتري، وتعيش بسلام وتبادل للمنافع مع جيرانها بما فيهم إثيوبيا الموحدة، ولكن للأسف هذه المقاربة تتعارض مع طموحات أسياس أفورقي وهوسه الشخصي بالثأر من الوياني عن هزائمه السابقة، وهو مستعد لتسخير كل مقدرات إرتريا ورهن مستقبلها في سبيل إثيوبيا قوية موحدة بشرط أن يتم ذلك بعد القضاء على الوياني.
- في ظل هاتين المقاربتين اللتان تتفقان في الهدف وتختلفان في طريق الوصول إليه، سوف يعود جيفري فليتمان حاملاً مقترحاته، ويبقى السؤال إلى أي مدى تستطيع حكومة آبي أحمد التمسك بمقاربتها المدعومة من أسياس وتتحمل نتائج ذلك عزلة دولية وتشظي داخلي ربما تكون بداية النهاية لإثيوبيا بشكلها الحالي.