المركزية واللامركزية : محمدنور أحمد
15-Oct-2006
المركز
تعني المركزية ادارة أمور الدولة من مركز أعلي يكون مقره عاصمة البلاد. وهذا المركز هو الذي يصدر كافة التشريعات ويأمر بتنفيذها أجهزة دولة موزعة في تسلسل هرمي في المواقع المختلفة التي تنقسم لها التكوينات الادارية وليس علي هذه التكوينات الادارية إلا تنفيذ مايصدر لها من تعليمات ورفع تقاريرها الي العاصمة.
كما أنها تخضع لرقابة وتفتيش للتأكد من حسن إدارتها ودقة التزامها بتعليمات المركز وتوجيهاته وهناك مشرفين يعينهم المركز للإشراف علي الموقع من خلال لوائح تنظم العلاقة بينهم وبين المركز وبينهم وبين مرؤوسيهم، نظام كهذا لايترك مساحة للإجتهاد للمستوي الأدني، للإجتهاد لحل ماقد يطرأ من قضايا ومشاكل أو أحتياجات، مما يعطل مصالح المواطنين خارج العاصمة. قد يكون هذا المركز نظاماً ملكيا مطلقاً أو نظاماً دكتاتورياً لايحكمه القانون. نشأ النظام المركزي في التأريخ الحديث مع ظهور الملكيات المطلقة في أروبا بعد إضعاف سلطة الاقطاع وأنتقل بعد ذلك الي المستعمرين اذ كانت علي السلطة الإستعمارية أن تتحكم في تصريف أمور مستعمرتها وضمان ولاء السكان والسيطرة عليهم، لكنها في بعض الأحيان كانت تترك مساحة من الصلاحيات لزعماء القبائل الذين حظوا بثقتها في تصريف أمور مناطقهم مما لايتعارض مع مصالح المستعمر ويخدمها بشكل أفضل، حدث ذلك في السودان وكان يطلق عليه نظام الإدارة الأهلية. كما حدث في أرتريا في عهد الإدارة الإيطالية اذ لم تقتصر مهمة زعماء القبائل “النظار” في المنخفضات ورؤساء المناطق في المرتفعات “المسلينا” علي جمع الضرائب وتجنيد للشباب لإستخدامهم في حروب المستعمر وفتوحاته فحسب بل ثبت لهم المستعمر ماكانوا يزاولونه قبل قدومه من الفصل في النزاعات وإستغلال الطاقات في الزراعة والرعي والحصول علي الهدايا والإيجار بها من قبل المحاسيب ان لم تأت تلقائياً وغيرها من أشكال الاستغلال التي كانت سائدة خاصةً في الساحل وسمهر وبركا. أما اللامركزية وتقوم علي تقسيم البلاد الي وحدات إدارية يحق لكل منها تصريف أمورها في إطار الدولة وفقاً لتفويض يمنح لها مما يعطي مرونة لتلك الوحدات للإجتهاد في إيجاد الحلول المناسبة للقضايا التي تطرح نفسها من حين لآخر دون الحاجة الي العودة للمركز، وللامركزية الإدارية شكلين، أحدهما بريطاني ـ أمريكي والأخر فرنسي وبينهما ثمة تباين حسب الموسوعة العالمية ص 371. ولكل منهما جذوره التأريخية وأسباب الموجبة للنشأة والتطور في بلد المنبت، لكن مايهمنا هو التجربة الأرترية في المركزية في نشأتها وتطورها وأفاقها المستقبلية. كما هو معروف لم تكن أرتريا كياناً موحداً ولهذا لم يكن لها اسم يجمع بين أجزائها المكونة لها اليوم ولم تحاول الأمبراطورية العثمانية التي أحتلت الشوطئ الأرترية في عام 1557 بعد إنتصارها علي الأسطول البرتقالي في عام 1521 ولا حتي ورثتها من بعدها محمد علي ومن بعده الخديوية المصرية حتي جاء الإيطاليون بدعوة من الأمبراطورية البريطانية لمحاصرة فرنسا المنافس الرئيسي لبريطانيا والتي حطت قدمها علي جيبوتي في الشاطئ الغربي لمدخل البحر الأحمر المقابل لعدن التي أحتلتها بريطانيا لتأمين خط ملاحتها نحو مستعمرتها الكبيرة الهند، هذا من ناحية ومن ناحية أخري كانت بريطانيا أيضاً في حاجة ماسة لدحر الثورة المهدية التي هددت الاستراتيجية البريطانية التي كانت تهدف الي الربط بين الأسكندرية ومدينة الكاب، فقد فشلت القوات المصرية التي كانت تتمركز في السودان من إيقاف مد الثورة المهدية لهذا أمرتها بتسليم معسكراتها الي القوات الايطالية وقد نجحت الأخيرة ليس في صد طلائع الثورة المهدية التي كانت قد وصلت الي مشارف مدينة كرن الحالية وإنما طاردتها حتي مدينة كسلا حيث وقعت قوات المهدي بين كماشتي القوات الإيطالية المطاردة والقوات البريطانية ـ المصرية التي أستقبلتها، بعد أن وضعت ايطاليا يدها علي كل الأقليم الذي يعرف اليوم بأرتريا أطلقت عليه الأسم ويعني البحر الأحمر ثم قامت بتقسيمه لتتمكن من إدارته الي محافظات هي حماسين وسرايي وأكلي قزاي والبحر الأحمر والمنخفضات الغربية والشمالية. لم يتم هذا التقسيم من فراغ بل كان موجوداً قبل وصول الإيطاليين، فقد كان لكل من حماسين وسرايي وأكلي قزاي حدودها وحكامها الرؤوس من ابناء المنطقة بغض النظر عن اصل تسمية الرأس، كما كان البلو يديرون منطقة سمهر والأسجدي منطقة الساحل الشمالي وكان النابتاب يحكمون منطقة بركا. في حين كان لكل من الكوناما والباريا ادارتهم الذاتية ومثلهم كان للساهو والعفر إدارتهم الخاصة، وكذلك قبائل البلين والماريا والمنسع. ماقامت به ايطاليا هو أنها أبقت البعض كما كان عليه في السابق بينما دمجت إدارة البعض الآخر في احدي الوحدات الإدارية حسب القرب الجغرافي، ثم جاءت بريطانيا بعد هزيمة إيطاليا لتحدث بعض التعديلات في التقسيم الاداري السابق بفصل المنطقة الواقعة بين نهري بركا وسيتيت وتجعل من أغوردات عاصمة لها بدلاً من كرن مركزاً لإدارتها وبعد الاتحاد الفيدرالي مع اثيوبيا أجرت الحكومة الأرترية تعديلاً جديداً بفصل الساحل عن مديرية كرن كما كان يطلق عليها ودنكاليا عن مصوع، وبعد دمج أرتريا قسراً في اثيوبيا عام 1963 فصلت الحكومة الأثيوبية المنطقة الواقعة بين القاش وسيتيت عن مديرية أغوردات. هكذا تدرج عدد المديريات وهو الاسم الذي كان يطلق علي تلك الوحدات الادارية من خمس في عهد الاحتلال الايطالي الي ستة في عهد الادارة البريطانية ليصبح ثماني في عهد الاتحاد الفيدرالي فتسع في عهد الاحتلال الأثيوبي، أما الحكومة الأرترية بعد الاستقلال فقد أعادت تقسيم البلاد الي سبعة أقاليم وألغت الأسماء القديمة وأستعاضت عنها بالإتجاهات الجغرافية أو ألأنهار أو البحر والأقاليم السبعة هي الأقليم الأوسط وعاصمته أسمرا والأقليم الجنوبي وعاصمته مندفرا وأقليم شمال البحر الأحمر وعاصمته مصوع وأقليم جنوب البحر الأحمر وعاصمته عصب وأقليم الساحل وعاصمته نقفا وأقليم عنسبا وعاصمته كرن وأقليم القاش سيتيت ويضم أيضا منطقة بركا وعاصمته بارنتو والأسباب التي كانت تتردد علي أفواه المسئولين هي للقضاء علي النزعة الأقليمية المترسخة في أذهان السكان ولا سيما في المرتفعات وهو سبب في الحقيقة تافه فالنزعة الأقليمية أو التعصب الأقليمي في المرتفعات ليس خطراً يهدد وحدة الأراضي الأرترية أو يعرقل عملية التنمية وذلك ان وجد بالدرجة التي يصورها المسؤولون. كانت الوحدات الادارية تنقسم في العهود المختلفة الي ثلاثة هي المديرية فالمركز ثم القسم بغض النظر عن اختلاف التسميات، كان علي رأس المحافظة محافظ أو مدير مديرية وعلي رأس المركز مفتش وعلي رأس القسم مأمور وكان المحافظ يتلقي تعليماته من الحاكم العام في عهود الإدارات الأجنبية والمفتش من مدير المديرية والمأمور من المفتش وعلي هذا الأساس تتدرج التقارير وبعد الاستقلال تولي ادارة الأقاليم وزير الحكومات المحلية.هكذا كانت وما زالت أرتريا تدار من المركز. فاللامركزية وأن كانت سمة عصرنا هذا لم تعرف طريقها الي البلاد وبالرغم من محاولات حكومة “هقدف” لإضفاء نوع من اللامركزية تحت مسمي المجالس الأقليمية إلا أن حاكم الأقليم هو الذي يتصرف في أمر الأقليم وهو مرتبط ارتباطاً تاماً بالمركز في العاصمة.أن هذا الأسلوب يحقق السيطرة الادارية التامة للعاصمة علي البلاد ولا يتيح أية فرصة لأن يكون للسكان أي من نسميها الأقاليم أو المديريات أو المحافظات أي دور للإسهام في ادارة شؤونهم بشكل من الأشكال ولا حتي بالرأي لعدم وجود آلية تتيح ذلك، فالمواطن هنا متلقي لاأكثر وعليه أن يقبل مايمنح له ويحمد الله علي ذلك والحكومة التي تفضلت به ولا يحق له ان يظهر أي تذمر علي مالايعجبه. أسلوب كهذا لايساعد بالتأكيد علي السير بالبلاد نحو التقدم وعلي تسريع عملية التنمية والتوزيع العادل للثروة والسلطة بين المواطنين وبالتالي لايؤمن الاستقرارالذي هو عماد التنمية، لهذا جاءت برامج المعارضة تحمل مفهوم اللامركزية لإدارة البلاد بعد اسقاط نظام اسياس، أما السؤال الذي يواجهنا أي لامركزية هي التي ستدار بها البلاد؟ حتي الآن يسود الساحة تيارين للامركزية أحدهما ينادي باللامركزية الادارية وتأخذ به بعض التنظيمات السياسية والثاني اللامركزية السياسية وهو ماينادي به فصيل الحركة الفدرالية وتنظيمي العفر والكوناما القوميين وظهر أخيراً تيار ثالث ينادي باللامركزية الدستورية وهو مصطلح جديد لأن دستور البلاد يجب أن ينص علي الطريقة التي تدار بها البلاد سواء كانت لامركزية ادارية أو لامركزية سياسية لأن في ذلك ضمان للشرعية الدستورية للنظام الاداري ولا يمكن ترك ذلك لاجتهادات رجال البرلمان وفي ذلك نتفق مع ماورد في مقال السيد/ عمر مسلم دون أن يكبل ذلك يد البرلمان وهو المخول بوضع القوانين أن يجتهد في الأسلوب الأمثل للتطبيق والبرلمان المنتخب علي أسس ديمقراطية سليمة وفي اطار التعددية السياسية يجب أن يتخذ قراراته وفقاً لرأي الأغلبية مهما كانت ضئيلة وقراراته ليست منزلة من السماء فهي قابلة لإعادة النظر فيها متي ثبت تعارضها مع مصلحة الوطن والمواطنين وهذه طبيعة الديمقراطية التي وضعها ونستون تشرشل بأنها نظام سيئ ولكن لايوجد حتي الآن أفضل منها ونحن أيضاً لانجد أفضل منها لتحكم به بلادنا بعد التخلص من النظام الدكتاتوري، والاختلاف بين اللامركزية السياسية واللامركزية الادارية هو في درجة التفويض للسلطات المخولة للقائمين علي ادارة الأقاليم والمجالس الشعبية التي يجب أن تكون منتخبة انتخاباً مباشراً من القاعدة أي سكان كل وحدة ادارية.في تقديري أن من بين مهام ملتقي الحوار الوطني الشامل أو المؤتمر الوطني الجامع ولا خلاف بين الاسمين في المضمون، الذي سيعقد خلال العام القادم سيكون وضع تصور ولو في خطوطه العريضة للطريقة التي ستدار بها البلاد مستقبلاً، ولكن عندما نفكر في كيفية ادارة البلاد بلا مركزية ادارية كما ينص برامج بعض التنظيمات أو لامركزية سياسية كما ينص برنامج الحركة الفيدرالية ويبدو أن قرارحركة الجهاد في مؤتمرها الأخير بغض النظر عن الشكل الذي أخذه يتفق معها، يجب أن نضع نصب أعيننا مسألة الوحدة الوطنية باعتبارها صمام الأمان لاستمرار كيان الدولة، دون ان يكون ذلك بالتأكيد علي حساب التوزيع العادل للسلطة والثروة علي مختلف مكونات المجتمع في الدولة الأرترية والآليات التي تؤمن ذلك. هناك الكثير من التجارب في العالم من حولنا مايمكن الاستفادة منه بما يتناسب مع واقعنا وتأتي قبل ذلك كله معرفة واقعنا بدقة حتي لانستورد بذوراً لاتنبت في تربتنا.