الهجرة كمقاومة سياسية في اريتريا بقلم/ فتحي عثمان
29-Apr-2015
عدوليس ـ ملبورن ـ ( خاص )
يتمكن أي اريتري أو اريترية بعد دفع مبلغ 120 ألف نقفة ( حوالي ثلاثة ألاف دولار بسعر السوق الأسود) لأحد ضباط قوات الدفاع الاريترية من مغادرة البلاد من قلب العاصمة أسمرا وفي سيارة عسكرية محمية ودون توقف حتى الوصول إلى منطقة اللفة بالقرب من كسلا.يتم هذا الإجراء الروتيني بشكل بسيط وغير معقد ويكشف ما وصلت إليه الأمور في البلاد من حالة تفسخ قيمي كاملة. الأوضاع السياسية والاقتصادية تبرر هذا التفسخ الذي وصل إليه المجتمع في اريتريا. من الناحية السياسية هناك ما يمكن تسميته بغض النظر المتبادل؛ وهو أن
يغض الرئيس النظر عن فساد ضباط قواته حتى يحقق لهم كسبا اقتصاديا بينما يتمتع هو بغضهم النظر عن لا شرعيته في الحكم. أما من الناحية الاقتصادية فإن مرتب الضابط في الخدمة العسكرية أو السكرتير الأول في وزارة الخارجية لا يشتري أربعة كيلوغرامات من اللحم.ضمن هذا الواقع المتفسخ سياسيا واقتصاديا ينشا فساد تعارفي وتوافقي يجسد الدرك الذي آل إليه الوضع تحت حكم اسياس افورقي. وعند هذه النقطة يجيب توضيح أن الحكومة في اريتريا لا يمكن تسميتها بنظام إلا تجاوزا: فالنظام أما أن يكون برلمانيا، أو عسكريا أو ممثلا لطبقة اجتماعية محددة، وأي من هذه لا ينطبق على الحكومة في اريتريا: فالحكومة ليست حكومة حزب ( الجبهة الشعبية) لأن الأخيرة ماتت بموات مجلسها المركزي ومكتبها التنفيذي، وليست هي حكومة الجيش أو حكومة طبقة من المجتمع إلا زمرة أو عصابة بما يمكن تسميته ب ( عصابتوقراطية) على رأسها الرئيس ومعه أفراد لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد الواحدة. إذن نحن لا نتحدث عن نظام في اسمرا إلا من باب تسهيل التوصيف والتناول. تمثل ظاهرة الهجرة أو التهجير القسري الذي يعاني منه الشعب الاريتري أحد مكونات وضع الدولة ( مجازا: إذ حيث لا يوجد نظام ومؤسسات فلا توجد دولة أيضا) في حالة مواجهة أمام المجتمع. هناك حالة حرب غير معلنة بين الحكومة بين والمجتمع تقوم أساسا على أرضية الشرعية. يهرب الشعب الارتري زرافات ووحدانا في هجرة لا يعرف منتهاها. هذه الهجرة تمثل مقاومة سلبية ضد النظام: لأنها في تفسيرها الأخير هي رفض لسياسات الحكومة وبمعنى آخر هي حالة عدم اعتراف سلبي بشرعية النظام. الشاب الارتري أو الشابة الارترية عندما يقرران الهروب فأنهما بهذا الخيار يرفضان الامتثال لقرارات السلطة ممثلة في: المدرسة أو المعسكر التدريبي أو لجان الأحياء، وهو رفض للقيود التي تنتهك حقوق الإنسان الأساسية وهي حقوق المعتقد والحركة والتنقل والحقوق الاجتماعية المتمثلة في تكوين الأسرة أو ممارسة العمل. الكل يعرف بأن ارتريا تحولت إلى سجن كبير ( لا يسمح بخروج أي مواطن دون موافقة رسمية من عمر الثامنة حتى عمر السبعين ( كبار السن عليهم تأدية فترة تدريب في معسكرات ما يعرف بالجيش الشعبي قبل الحصول على إذن مغادرة من قبل سلطات الهجرة).الموت الجماعي واليومي هو خيار لمن لا خيار له في بلاد لو استطاعت أن تحبس الهواء عن المواطن لفعلت من أجل إخضاعه وكسر شوكته. ولكن هذا المواطن سواء كان طفلا في الثامنة ( مثل ما هو مشاهد في ليبيا) أو شابا راشدا كلهم وبخروجهم المغامر من البلاد يعلنون مقاومة سلبية وكراهية تامة لسياسات حكومة اسمرا.الحكومة من جانبها تبرر النزيف البشري الحادث في البلاد بأنه بسبب حملات استخباراتية معادية تستهدف الشباب الاريتري. لكن السؤال الذي لا تجب عليه الحكومة هو: أين الجانب الإستخباراتي في مهاجمة قرية نائية لا رابط لها مع العالم ومحاصرة شبابها وأطفالها واقتيادهم كالعبيد إلى معسكرات خدمة إجبارية يهربون منها حالما تتوفر لهم الفرصة؟ أين التدخل الخارجي في هذا الفعل القسري المنتهك لأبسط حقوق الإنسان؟لنحاول أن نجمل الانتهاكات التي ترتكبها الحكومة ضد الشعب الارتري فيما يسمي ببرامج الخدمة الإجبارية أو قوات الدفاع الشعبي:•انتهاك حق المعتقد: هناك مذاهب دينية لا تؤمن بأداء الخدمة العسكرية ( المسلمون يشترطون عدم تطبيقها على الإناث أو مراعاة أوضاع النساء بشكل خاص) أما أتباع شهود يهوه فهم يرفضونها مطلقا لتعارضها مع معتقداتهم.•انتهاك الحقوق الاجتماعية: لا يستطيع الشباب المغلولون بأغلال الخدمة أن يكونوا أو يعيلوا أسرا والأسرة نواة المجتمع الأولي. كما لا يستطيعوا أن يمارسوا العمل والذي هو حق تكفله كافة مواثيق حقوق الإنسان؛.•حق التنقل والحركة: لا يستطيع الشباب التحرك في البلاد دون أن يكون ضحية لحملات مداهمة أو كشات ( أحد الشباب على سبيل المثال كان يضع جبسا على قدمه لمدة ثلاثة أشهر دون أن يعاني من أي كسور كحيلة يهرب بها من سؤال الجنود؛) • انتهاك الخدمة للحقوق القانونية للشعب: فالمعلوم أن الخدمة المعنية هنا في ارتريا ليس لها قانون بل هي محكومة بموجب مرسوم منذ سنة 1994 وحتى اليوم. في الدول الأخرى هناك قانون شامل للخدمة الوطنية يحدد العمر والمدى الزمني والاستثناءات منها ( مثلا المرضى، ووحيد الأسرة والمتزوج والنساء ….. الخ) في ارتريا ليس هناك أي من هذا فهي عمل حاطب ليل؛•انتهاك الحرية والسلامة الشخصية: يرتبط هذا الانتهاك الفظيع بحالات الاغتصاب الشائعة في معسكرات الخدمة الإجبارية ( أحدى الطالبات والبالغة من العمر 16 سنة تعرضت لاغتصاب من أحد الضباط في سنة 1998 في معسكرا ساوا وحملت سفاحا وعند الكشف الطبي عليها أتضح بأنها أصيبت بعدوى فيروس الايدز)، إضافة إلى أطلاق النار الحي عند محاولة الهروب والتعذيب الجسدي ( ربطة الهليوكوبتر)، والحبس الانفرادي وسائر صنوف الانتهاكات التي يفضل الشباب أن يموت غرقا على المرور بها؛•أخيرا: هي نظام سخرة وعبودية ترفضه كل المواثيق الدولية ابتداء من مؤتمر فيينا 1885 حتى اتفاقية الأمم المتحدة للحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966.إجمالا إن مجمل هذه الانتهاكات وغيرها لم يتم سرده في هذا المقال القصير، تمثل مسوغات قانونية واجتماعية لمقاومة ضد شرعية الحكومة وممارستها غير الإنسانية وبذلك فإن الهجرة الحالية هي مقاومة سلبية ضد سياسات نظام العصابتوكراقطية الحاكمة. ضمن هذا الفهم يجب تحديد أطر التعامل مع الظاهرة على مستوى المعارضة ومنظمات المجتمع الدولي وأخيرا المجتمع الدولي: ولنبدأ بالأخير بأخذ موجهات وزارة الداخلية البريطانية فيما يتعلق بالخدمة الإجبارية في ارتريا؛ ففي توجبه صادر عن وزارة الداخلية البريطانية على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي ورد بأن سلطات الهجرة البريطانية سوف لن تقبل طلبات لجوء لارتريين يناء على حجج الخدمة الإجبارية وذلك للأسباب التالية:أولا: حصلت السلطات البريطانية وقبلها الدنمركية على وعود من الحكومة الارترية بأن تكون فترة الخدمة 18 شهرا؛ثانيا: ظروف الخدمة ليست بالقسوة المتصورة؛رابعا: أن الهاربين يمكنهم العودة إلى بلادهم بعد كتابة رسالة اعتذار ( فورم طعسا) وترجمته حرفيا عن التقرينية هو ( رسالة ندم)، ودفع ضريبة 2 في المائة للحكومة الاريترية. وبهذا تنصلت السلطات البريطانية من التزامها الإنساني تجاه الشباب الارتري وحصرت قبولها لحالات تتضح فيها المقاومة السياسية لطالب اللجوء السياسي الارتري.إن أقل ما يوصف به التوجيه البريطاني هو أنه معيب وشائن ولا يتناسب مع الإرث البريطاني في الديمقراطية وحقوق الإنسان.قبول السلطات البريطانية والأوروبية وعود الحكومة الارترية هو سذاجة سياسية مبعثها محاولة التنصل من الالتزامات الإنسانية تجاه الشباب الارتري الذي يموت بالمئات في مياه البحر المتوسط، و هو محاولة لتخفيف الثقل المالي وغيره المترتب على هذه الالتزامات. وهنا من الضروري أن نوضح للسلطات البريطانية وغيرها بأن هذه الوعود الارترية لو كانت صادقة لسرحت الحكومة الألوف المربوطين إلى أغلال الخدمة الإجبارية سيئة الصيت. ثم أن الانتهاكات التي أوردناها أعلاه لا تحدث بالضرورة في خدمة مفتوحة الأجل؛ بل تحدث أيضا ضمن الخدمة التي مداها 18 عشرا، بنفس المقدار، لأننا هنا نتحدث عن شروط الخدمة وليس عن مداها الزمني فقط. انتهاك حقوق الإنسان يمكن أن يحدث في ساعة أو 18 شهرا ، وهذا هو المعيار وليس معيار الزمن، وإن المدى الزمني غير المحدود للخدمة واحدا فقط من أوجههاٍ الكريهة ولكن المبدأ هو أنها انتهاك أساسي لحقوق الإنسان بصرف النظر عن الزمن الذي تحدث فيه.بخصوص القسوة أليس من القسوة حبس 48 شابا وشابة في حاوية شحن في درجة حرارة تصل إلى 40 دون توفر طاقة صغيرة لدخول الهواء. القسوة لا يمكن حصرها وذكرها بالتفاصيل يحي كل المواجع.أخيرا ألم يسأل مسئولو سلطات الهجرة البريطانية وغيرها : لماذا يكتب الارتري أو الارترية رسالة اعتذار لجلاده؟ لم يعتذر الاريتري أو الاريترية عن انتهاك آدميته؟ هذا منطق مغلوط يتركز على أن الضحية هو المخطئ وأن الجلاد هو الذي على حق. هذا منطق معيب ومشين يحتم الحس الخلقي القويم التراجع عنه دونما تردد.أخيرا لماذا يدفع المواطن الارتري ضريبة تستقل لدفع مرتبات جلاديه من ضباط ومخبرين وأعداء لا يمكن حصرهم. يجب على كل ارتري عدم تغذية هذه الحكومة بالمال لتنتهك حقوقه في وضح النهار وعلى المجتمع الدولي أن يتفهم هذه الحقيقة.ضمن سياق مشكلة الهجرة الارترية هناك أيضا قطاع كبير من الشباب الارتري ممن يعيشون في دول الخليج العربي؛ هؤلاء لهم كامل الحق في الحصول على أقامات في الدول الغربية كلها لأسباب إنسانية بحتة. فقوانين الهجرة في كل دول الخليج دون استثناء لا تسمح بتجنيس الأجانب، بل لا تعطيهم فرصة مواصلة التعليم بعد انتهاء المرحلة الثانوية وفرص العمل تضيق بانعدام المؤهلات المطلوبة، وببلوغ الشاب أو الشابة الارترية سن 18 عليه أن ينفصل عن أقامة والديه إما بأن يكون طالبا في المراحل العليا أو أن يجد وظيفة توفر له كفالة للإقامة في البلاد، وهذه للأسف لا يحصل عليها الجميع. الخيار المتبقي للسلطات هو إبعاد الشاب أو الشابة إلى ارتريا.وارتريا التي نتحدث عنها لا تصلح لهذه الشابة أو الشاب الذي عاش في ظروف اقتصادية مختلفة وله طموحات نابعة من وضع الانفتاح وثراء المجتمع الذي كان يعيش فيه. هذه الشابة أو الشاب عند أعادته إلى ارتريا تتلقفه الأجهزة القمعية وتزج به في دوامة الخدمة الإجبارية دون مراعاة لتكوينه النفسي، وتحوله مباشرة إلى مشروع غريق. حالة انسداد الأفق التي يعيشها الشاب الارتري في الخليج وبديل الخدمة الإجبارية يخولان هذا الشباب الحصول على فرص إقامة في الدول الغربية أسوة بالهاربين من جحيم الخدمة اللعينة. إن شروط انتهاكات حقوق الإنسان التي تتم ضمنها الخدمة، سواء كانت مدتها شهر أو 18 شهرا هي التي تدفع الشباب الارتري إلى الموت، وعلى المجتمع الدولي أن يحاول جادا أن يقوم العود بدلا من محاولة تقويم الظل: ففي الأخير لا يستقيم الظل والعود أعوج.أما فيما يتعلق بالمعارضة الاريترية ومكوناتها السياسية ومنظمات المجتمع المدني خاصة الناشطة في مجال حقوق الإنسان عليها أن تعمل بفهم أن الهجرة الحالية هي واحدة من المقاومة ضد شرعية الحكومة في اسمرا ، ويجب العمل على استثمارها حيث أن مجالات العمل بهذا الخصوص تتنوع بين النشاط السياسي والدفاع عن حقوق الإنسان في نفس الوقت. ثم أن هذه المنظمات مطلوب منها تصحيح الفهم الخاطئ الذي بدأ يشيع وبدأ يترتب عليه تخطيط سياسي؛ فالخدمة الإجبارية في اريتريا هي انتهاك أساسي لحقوق الإنسان الارتري بصرف النظر على المدى الزمني الذي تتم فيه الانتهاكات، وأخيرا ليس المطلوب من المواطن الاريتري الاعتذار وتقبيل جزمة جلاده ودفع المال له لكي يستمر في انتهاك إنسانيته.