الواقعية السياسية والتغيير العمودي : عبدالرحمن سيد
28-Jun-2009
المركز
وانا أستعد لكتابة هذا المقال أطلعت على مقال للسيدة بريدجت كيندال – مراسلة الـ بي بي سي للشؤون الديبلوماسية – بعنوان: إيران والعبر من التأريخ – تناولت فيه الإصلاح السياسي ما بين الثورة الشعبية و التحول العمودي في هرم السلطة. يشير المقال الى أن المجتمعات الديكتاتورية التي لا يوجد بها هامش من الحريات، لا تؤتى الثورات الشعبية فيها أُكلها،
بل تكون عرضة للقمع كما حصل في بيجين (الصين) في عام 1989. وبالمقابل هناك أمثلة ناجحة للاصلاح والتغيير السياسي خاضها قادة لأحزاب وأنظمة ديكتاتورية، على سبيل المثال قاد الرئيس ميخائيل جورباتشوف الإصلاح والتغيير السياسي في الاتحاد السوفييتي عبر مشروعه المعروف “بالبروسترويكا”. وكان الرئيس دي-كلارك أحد العناصر الرئيسية التي لعبت دورا بارزا في تحول جمهورية جنوب أفريقيا من نظام الفصل العنصري (الأبرتايد) الى دولة ديمقراطية. كما استحضر هنا نضالات نيلسون مانديلا ورؤيته الواقعية والإستراتيجية للتغيير السياسي في بلاده مما أكسبه احترام العالم وتعاطفه. كان مانديلا يحصر مطالبه في العدالة والمساواة بين البيض والسود. كان بامكانه طرح تحرير جنوب أفريقيا من البيض لكنه أختار التعامل مع شؤون بلاده بواقعية واستقوى على خصمه بالمنطق والحجة القوية فتحقق له ما أراد وأصبح من عظماء العالم المعاصر. وحسب مقال السيدة كندال فأن أحد المدافعين عن فكرة الاصلاح من داخل النخب الحاكمة للأحزاب الشمولية هو البروفيسر أرشي براون – أستاذ العلوم السياسية في جامعة أوكسفورد – وله كتاب صدر حديثا بعنوان “نهضة و سقوط الشيوعية”. وبالعودة الى شأننا الارتري فأن المتتبع لساحة المعارضة الارترية يلاحظ جليا بأن هنالك رأيين في ما يتعلق بوسائل النضال من أجل التغيير السياسي. هذا التباين في الرأي والنهج ليست له علاقة بمبدأ “محاورة نظام الهقدف إن جنح لها”، وانما هو بين من يؤمن باسقاط الهقدف بالعنف و من يدعو لجعل الهقدف جزء من الحل وارغامهم على هذا السبيل بالوسائل السلمية.ماذا أعني “بالواقعية السياسية”؟أعني بـ “الواقعية السياسية” التعامل في الشأن العام في حدود الامكانات الذاتية والموضوعية. مثلا يأخذ الكثيرون على منظمة سدري بأنها ضد العنف السياسي وتطرح علناً الخروج من الأزمة السياسية في ارتريا عبر النضال السلمي والحوار والتفاوض مع الهقدف. أصحاب هذا المأخذ يرون أن نظام الهقدف لا يعرف الحوار ولا يعترف بمعارضة أو بأزمة وطنية تحتاج الى حل بأي وسيلة كانت الخ, وبالتالي يركنون الى مخاطبة النظام بوسائله كـ العنف السياسي والاقصاء. وبالرغم من تفهمي لمثل هذه المنطلقات والمرارات التي تدفع بالمرء للتفكير بهكذا سُبل, أرى في المآخذ البعد عن الواقعية لأسباب سأتناولها لاحقاً في هذا المقال. ولكن في البدء أريد أن أوضح أمر مهم وهو كما أن للجيش والتنظيمات العسكرية أو السياسية مهام متعارف عليها تتماشى مع طبيعة تكويناتها, فهنالك أيضاً مهام واضحة ومحددة لمنظمات المجتمع المدني.على سبيل المثال سدري كمنظمة مجتمع مدني لا يمكن أن تطرح نفسها كبديل لنظام الهقدف ولا يكون خطابها غير خطاب مطلبي تطالب النظام القائم في ارتريا (أمر واقع) بمطالب مشروعة, وفي سبيل هذا تناضل بالطرق السلمية في حدود مهام منظمات المجتمع المدني.فمن غير الواقعية أن يدعي أحد أنه ديمقراطي ومدني يناضل من أجل العدالة ثم يمارس ممارسات غير مدنية (كالعنف السياسي والصدام العسكري مثلا) وغير ديمقراطية كـ تخوين واقصاء من يخالفونه في الرأي والنهج وهو في كل الأحوال لا يملك لا أدوات التغيير العسكري ولا المدني. فالواقعية بالنسبة للفهم العملي هي أن تعمل في حدود الامكانات وعدم القفز عليها, ورحم الله أمرء عرف قدر نفسه.وبالمقابل لدى أصحاب الطرح المدني والنضال السلمي مآخذ ومخاوف مشروعة من وسائل العنف السياسي. ما هي المآخذ على العنف السياسي؟ أولا لابد من الاقرار بأن استخدام “العنف” دفاعا عن النفس أو رفعا للظلم هو مشروع في حالة توفرت له الشروط كـ مخاطر الابادة الجماعية وغيرها من المهددات للسلم والأمن الأهلي ووجود قوة وطنية تسطيع ضبط ممارساتها وضمان عدم خروج “العنف” المتبادل من السيطرة وأن لا يتم تبديل ديكتاتورية عسكرتارية بأخرى مثيلة لها. فالتباين هنا ليس في شرعية “العنف” كمبدء وانما في ما اذا كان انتهاج “العنف السياسي” في ارتريا اليوم يحقق العدالة والديمقراطية. وسائل العنف السياسي تؤدي الى مخاطر كبيرة للأسباب الآتية:-1. الحركات والجماعات التي تنتهج العنف السياسي في ارتريا غير موحدة و غير مجربة في ممارسة ادارة الدولة والديمقراطية، بمعنى آخر ليس كل معارض للهقدف أو كل من يدعي النضال من أجل العدالة والديمقراطية هو عادل وديمقراطي، 2. عناصر هذه الجماعات “المقاتلة” لا تتبع عقيدة قتالية وسياسية موحدة مما يجعل فرص التصادم بينها أكبر في حالة زوال كابوس الهقدف والفراغ في السلطة، 3. إن قوة الانظمة الديكتاتورية تكمن في العنف واستخدام السلاح. العنف السياسي هو السلاح الوحيد الذي يحسنون استغلاله وبالتالي مواجهتهم بنفس هذا السلاح يعطيهم المزيد من المبررات لإبقاء البلاد في حالة طوارئ مستديمة وممارسة مزيد من البطش والتهميش بالمواطنين، 4. العنف السياسي بين أبناء الوطن الواحد يترك أثار سلبية في النسيج السياسي والإجتماعي ويجعل التحول الى الديمقراطية أكثر صعوبة, لأن المعركة هنا ليست بين حاكم أجنبي وقوى تحرر وطني. آثار مثل هكذا اقتتال يصعب محوها وفي الغالب قد تؤدي الى ضعف وانهيار الدولة ما بعد زوال الدكتاتورية، 5. الثبات بالمباديء وطرح خيار سليم يبعد عن كاهل شعبنا شبح الحروب والإقتتال وهذا أفضل طريق نحو الديمقراطية والعدالة . بالإضافة الى أن حكام اليوم في طريقهم الى الشيخوخة وقد تجاوز أعمار الكثير منهم العقد السادس (مع إحترامي لكل المسنين). هذا يعني أن قوانين الطبيعة ستجعل من أقوياء اليوم ضعفاء الغد شاؤوا ذلك ام أبوا. 6. التغيير العمودي هو أفضل الخيارات لأنه يأتي من داخل قيادة الحزب الشمولي بعد أن يمر بضغط شعبي وسياسي واقتصادي ودبلوماسي. فهناك رأس النظام أو من هم في هرم السلطة قد يصلو الى قناعة مفادها ليس أمامهم سبيل الا التغيير فيبدأوا بمبادرات الاصلاح السياسي من الداخل كما ظهرت بوادره مع مجموعات الـ13 و15. وهنا المعارضة القوية بالتفاف الجماهير حولها وبرامج نضالها الاستراتيجي يمكن أن تدخل في تفاوض مباشر أو عبر وسيط مع النظام للوصول الى نتيجة لا غالب ولا مغلوب فيها ويكون النصر في مثل هذه الأحوال للجماهير والوطن وللمصالحة الوطنية وللأمن والإستقرار وللديمقراطية والازدهار وللسلم الأهلي والعدالة. 7. اذا اعتبرنا ان التجنيد الإجباري الممارس في ارتريا اليوم هو نوع من الاستعباد و جرم يرتكب بحق الشباب الارتري، فقتل أو “إصابة” هؤلإ المجندين بحجة التصادم مع الهقدف و”نشر الديمقراطية” لا يقل جرما. فالقتل في هذه الحالة يمارس مرتين: مرة بقتل المجند المسكين الذي ارتضى البزة العسكرية وحمل البندقية مرغماً أو زودا عن الوطن، وأخرى بزج الشباب خارج أسوار الهقدف الى معارك بدلا من الدفع بهم الى التعليم والبناء والتنمية أينما كانوا، وبالذات أن حاجة المهمشين الى كفاءات علمية واقتصادية حاجة ملحة اليوم أكثر من أي وقت مضى. فالأفضل والاحرى تشجيع وتوجيه الشباب نحو تلقي التعليم الأكاديمي والمهني ليكونوا نواة لمجتمع منتج وقادة لإرتريا ما بعد الديكتاتورية وليس الزج بهم الى أتون حرب غير محسوبة العواقب.في خلاصة القول أن نظام الهقدف وأسياس لا يعيران أي اهتمام للحوار ولا يمارسان الا لغة العنف ولكن التعاطي مع هكذا نظام يكون من خلال كسب المعركة الأخلاقية أولا بسحب بساط الوطنية والشرعية من تحت أقدامه ومحاصرته في زاوية ضيقة بالإستمرار في النهج السلمي والتصالحي ومخاطبة الهقدفيين وعناصر الأمن والجيش لكسبهم الى صف الشعب والوطن. كلما ازدادت ثقتنا بالطرح السلمي والتصالحي زادت امكانية تحقيق احدى النصريين: اما جنح النظام الى الحوار و تسليم السلطة الى الشعب واما الوقوع في مزيد من العزلة وفقدانه للشرعية، ان كانت بقت له أية شرعية بعد أن فقد الشرعية الثورية وشرعية الانتقال بالدولة من الحكم الأجنبي الى الحكم الوطني الديمقراطي. وفي كلا الحالين يبقى النصر حليفنا والتغيير الآمن سبيلنا الى دولة العدالة والدمقراطية الحقيقية. والله وليُّ التوفيق!Bohashem@Arkokabay.com