الوزير براخي قبرسلاسي والثمن الغالي لمواقف التنوير !.
24-Apr-2017
عدوليس ـ ملبورن
ونحن نُعد ما يشبه البروفايل للوزير والمناضل المُغيب براخي قبرسلاسي ، اختارت زوجته المناضلة محرت ايوب طريقة قاسية للأحتجاج ..مرة أخيرة قالتها ثم توارت في الغياب الأبدي … مرة لا تتكرر قالتها في 13 من إبريل 2017م ثم إختارت طريقة لرحيلها .ستظل الأسئلة مفتوحة حول طريقة رحيلها .. و ستظل شكل من أشكال الإحتجاج الصامت الذي يلف الحياة في بلاد الخوف والرعب .. إتقف الناس حولها أم لم يتفقوا .. لا مجال لأخذ موقف أخلاقي من طريقتها هنا سوى ان نترحم عليها ونتضامن مع أنجالها في محنتهم الكبرى.. فقط يمكن القول ان الألم تفتق وكبر ولم تحتمل السيدة النبيلة .وان الموقف من قضية الإنسان ستظل متقده ولا مجال للحياد أو الأحاديث الميته للسياسة البائسة ، وان الذين تسببوا في الرحيل المفجع للسيدة ايوب لن يفلتوا دون عقاب.
ولد السفير والوزير والمناضل التنويري برخي قبرسلاسي بمدينة اسمرا في مطلع الخمسينيات القرن الماضي. درس كل المراحل التعليمية في اسمرا ، تخرج من معهد إعداد المعلمين (T T I ) ، وعمل في التدريس في المدارس الثانوية ، إتاحة له تلك الفترة زمالة الكثيرين من المعلمين الوطنين وأصبح جزء من تشكيلات جبهة التحرير الإريترية في الداخل . إلتحق بالجناج الذي سُمي بالاول أو مجموعة عالا بقوات التحرير الشعبية في بداية العام 1970 م.
المعلم الهاديء والدقيق الملامح تحولت حياته سريعا ليمسك بالبندقية بدلا عن الطباشيرة ،وانخرط في العمل العسكري مباشرة ، ليتدرج في مختلف درجات المسؤولية الى أن اصبح قائدا للواء (70) ، وعضوا في اول لجنة مركزية لتنظيم الجبهة الشعبية من المؤتمر التنظيمي الاول الذي انعقد في العام 1977 م.
ظهرت موهبته العسكرية في اللواء 70 وكان نتئجها تحرير مدن ( سقنيتي ، قندع، دقمحري ، واجزاء من مدينة مصوع ).
في مرحلة الانسحاب من المدن وفي العام 1979 اوكلت لللقائد براخي مهمة ادارة مدرسة الثورة ( وكانت وقتها في منطقة دبعت ، التي أطلق عليها لاحقا لاحقا إسم ” زيرو” ، وكانت حتى وقتها تدرس بلغة التقرايت فقط ، وفق المناهج المأخوذة من تجربة مدرسة “قلب / منسع ” والتي كان يديرها المناضل سابقا والعقيد حاليا حامد يوسف نفع.
كانت المدرسة تمهيد اعودة المعلم براخي لإدارة جهاز التعليم.
هذا الجهاز الحساس كان البداية في الصدام بين أسياس افورقي الممسك بتلابيب الحياة اليومية للجبهة الشعبية ثم الحكومة الإريترية وبين المعلم السابق براخي قبرسلاسي الذي حدثت تطور هائل في تفكيره وفكره وقد إنتهى الصدام بتغييب الوزير مع رفاقه وإنتصار مؤقت للزعيم.
إستعاده براخي الإمساك بالطباشيرة وبرزت موهبة أخرى تمثلت في التدرج والهدوء في تنفيذ سياسته التعليمية فقد توسيع العمل التعليمي خلال عشر سنوات شهدت إدخال لمناهج التدريس بمختلف اللغات ( التجرنية ، العربية ، الانجليزية ) وبدأت جهود مضنية بعيدا عن مختبرات السياسة العرجاء لوضع مناهج للتدريس باللغات المحلية الاخرى المكتوبة بالرسم اللاتيني ، وافتتحت مدارس جديدة في اريتريا والسودان ، بالتركيز على المدرسة النموذجية التي انتقلت الى منطقة “عريرب” في الساحل الشمالي . هذا التوسع في المدارس النموذجية عجل بالخلاف بين براخي وعدد من القيادات المتنفذة حينها تزعمها اسياس افورقي الأمين العام المساعد شكلا والأمين العام فعلا.
الرجل الذي المتمكن من أدواته والمسلح بالتجارب كان يحاور من خط ما يجب عليه ان يكون الامر ضد الرؤى الماركسية الفطيرة في شكلها النظري والمتعصبة في مقاصدها السرية، فقد كان يرى اللجوء لخيارات الناس قبل تضمين فقرة التعليم باللغة الأم في الدستور بعد التحرير، كما كان يدعو صراحة لتحديد اللغات الرسمية.
وحسب شهود عاصروا تلك المرحلة ان الوقت كان مبكرا لمثل هطذا طرح الذي أعتبر بأنه ( محض فلسفة ) أو سفسطة من مثقف لا داعي لها، ولا تصمد أمام طويلا!!.
تجدد الخلاف فيما بعد ليخرج من الإطار الخاص في المجالس العامة وخاصة بين أروقة المؤتمر التنظيمي الثاني والتوحيدي حسب التسمية مع فصيل جبهة التحرير الإريترية – القيادة المركزية – (ساقم)،بخصوص المقترح الذي تقدم به قسم الدراسات والبحوث بجهاز التعليم ، والخاص بكتابة التقرنية بالرسم اللاتيني ، واجازة ذلك المقترح في جهاز التعليم لمرجحات بينها صعوبة إستخدام الحرف الجئزي لانه يضم اكثر من (360) حركة ، بحيث يتطلب ثلاث سنوات دراسية كاملة لتدريس الحروف فقط بشكل يضمن الاستيعاب اللازم والمران الكافي للتلاميذ ، بالاضافة الى صعوبة مواكبة تطورات التقنية وإدخال الحرف الجئزي في الحوسبة ، والنواحي الاخرى المتعلقة بسهولة التعاطي مع اللغات الحية الاخرى المكتوبة بالحرف اللاتيني ( الانجليزية ، الفرنسية ، الايطالية ، الخ …) ، لذا اوكل جهاز التعليم للخبير الدكتور الشهيد لاحقا تسفا نكئيل برهي استاذ علم الالسنيات ، مهمة الاشراف على وضع منهج تدريسي للتجرنية مكتوب بالرسم اللاتيني . لكن حسم ذلك الخلاف ، وسحب مشروع القرار من أجندة المؤتمر بعد لقاء أجراه الشيخ ولداّب ولد ماريام ، مع اسياس افورقي ، أعرب فيه عن عن رفضه المسبق للمقترح ، وقال ولد اّب بالنص :
( أن كنتم تريدون الكتابة بالحرف اللاتيني ، غيروا رسم الكتاب المقدس اولا ! ). حسب الموثقين لتلك المرحية التي تُوصف بالمهمة في تاريخ التطور الفكري والسياسي داخل الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا.
وكانت تلك إشارة لها مدلولها ، حيث اشار ولد اّب الي إمكانية حشده لرأي عام معارض لذلك القرار ! ، عموما وجد الأمر هوى لدي مجموعة إسياس وسحب المشروع ، رغم احتجاجات مجموعة الاستاذ / براخي التي كانت تصر على أنه يجب أن يتم البت في القرار عبر المؤتمرين جميعا . بعد تولي إسياس افورقي لموقع الامين العام للجبهة الشعبية ، وفي اول اجتماع للجنة المركزية المنتخبة قام بالغاء موقع مساعد الامين العام الذي شغله هو شخصيا لعشر سنوات سابقة ، وعندما تسأل الاستاذ براخي عن الأسباب ، جاء رد أفورقي متهكما وكعادته في تمرير قرارته الفردية :
( لا ضرورة لذلك الآن ، لكن انت يا استاذ براخي ستساعد رمضان محمد نور في جهاز القضاء ).
وبذا عرف الجميع أن رمضان لن يكون نائبا لرئيس التنظيم ، كما ان براخي لن يستمر كرئيس لجهاز التعليم ، الذي اعلن تولية الاستاذ عثمان صالح وزير الخارجية الحالي رئيسا له ! . عقب سيطرة الجيش الشعبي على اسمرا في 24 مايو 1991، شُكلت حكومة تسيرية عبر إجتماع طارئ للجنة المركزية ، تولى فيها براخي قبر سلاسي فيها وزارة التعليم ، ووجد فرصة اوسع لطرح (الاراء القديمة ) والمتجددة ،وشهدت فترة توليه لوزارة التعليم إنشاء حوالي (250) مدرسة تدرس بالمنهاج العربي – تقلصت الان الى 8 مدارس فقط – !!.
بعد الاستفتاء و المؤتمر التنظيمي الاخير والذي عقد في نقفة عام 1994م والتأسيسي للهحزب الوحيد بالبلاد والمعروف إختصار وبالأحرف الأولى من التجرنية ( هقدف ) ، أوكلت اللجنة المركزية مهمة تشكيل الحكومة التي ظلت مؤقته حتى ذلك الوقت ، فسارع الرئيس بتعيين عثمان صالح وزارا للتعليم العام ، و براخي قبرسلاسي وزارا الإعلام ، واتخذ قرارات اخرى مماثلة في وزارات اخرى ، جعلت التشكيل الوزاري يأتي على غير توقعات الجميع.
مرة اخرى كان اداء الوزير براخي في وزارة الاعلام غير مرضي عنه من قبل الرئيس ، وكان ذلك متوقع جدا ، ونشبت خلافات من نوع اخر ، حول رفض الرئيس لمطالب وزارة الاعلام ومقترحاتها ، وحول الخطة البرامجية وزمن فترات البث الاذاعي والتلفزي ، وحول قانون الصحافة والمطبوعات ، وشروط منح تصريح مزاولة العمل الصحفي لمراسلي الوكالات الاعلامية الاجنبية ، وتدخل الرئيس في معظم قرارات الوزير ، وفرض مسؤولين في فروع الاعلام دون موافقة الوزير ، ثم أنتهى الامر بتنحية الوزير الغير مريح وإبعاده سفيرا لأسمرا بألمانيا ، في خطوة فسرت وقتها بأنها إبعاد ناعما للاستاذ براخي .
مرة ثالثة اصبح تعاطي الرئيس اسياس مع القضايا الداخلية وطريقة تعامله مع المنظمات الدولية ، ووفود وممثلي الدول سببا لإختلاف بينه والسفير براخي ، وتفاقم الخلاف اكثر عندما أنتقد السفير براخي قبر سلاسي ، وزميله السفير عند مكئيل كحساي ، سفير اريتريا في إيطاليا ، الطريقة التي استقبل بها الامين العام للامم المتحدة كوفي عنان ، عند زيارته لإريتريا ، كما انتقدوا اسلوب التعاطي مع الدول الغربية والعربية على حد السوء ، فكان الرد بان تم إيقاف السفير الراحل عند مكئيل كحساي عن ممارسة مهامه ، ثم لقى حتفه في حادث سقوط من سُلم منزله واُشيع انه حادث إنتحار ! بل تم لاحقا طرد اسرته من المنزل الذي كانت تقيم به !.
عند استعار الخلاف بين اعضاء اللجنة المركزية والرئيس ، حول القضايا المنشورة والمعروفة التي شكلت رؤية ومطالب ما عرف لاحقا بـ ( مجموعة الـ 15 ) ، أو المجموعة الإصلاحية كان للسفير براخي موقفا واضحا ضمن تلك المجموعة ،وتأسيسا على تلك المواقف تم إعتقاله فجر يوم 18 سبتمبر 2001 ، ولايعرف حتى الان مكان إعتقال المجموعة ولا الظروف التي يعيشون فيها.هذه محاولة لرسم صورة هذا المناضل الهاديء الطبع القوي الشكيمة دفع ثمن مواقف ستضعه في مصاف المناضليين التنوريين والأبطال .. دفع ثمنها تغيبا في غياهب المعتقلات السرية ودفعت ولا زالت اسرته ثمنها بهذا الرحيل المؤلم لزوجته المناضلة الباسلة.