تظاهرة جنيف التاريخية وما هو آت. كتب/ فتحي عثمان من باريس
29-Jun-2015
عدوليس ـ ملبورن
التظاهرة التاريخية في السادس والعشرين من هذا الشهر في جنيف كانت حدثا غير عادي على الساحة الاريترية. ألوف المتظاهرين من عدة مدن عالمية اجتمعوا وهم يحملون لافتات مختلفة: هناك من حمل لافتة عليها صورة الأئمة والدعاة المعتقلين منذ 1994، وهناك من حمل صورة الأب انطونيوس وآخر حمل صورة مجموعة الخمسة عشر؛ تباينت الصور ولكن المغزى واحد: تقديم المسئولين عن انتهاكات حقوق الإنسان في اريتريا للعدالة. الحكومة في اسمرا ومن يلف لفها يستهزئ ويخون المشاركين في المظاهرة؛ ولا جديد في هذا الأمر، ولكن الجديد هو الإرادة الواحدة النابذة للظلم بكافة أشكاله. وصف هذه المظاهرات بالتاريخية ليس مبالغة نظرا للعدد الهائل الذي شارك فيها من ناحية؛ وللعزيمة والإصرار اللذين ترافقا معها
حيث كان هناك العشرات من الصائمين في نهار أوروبا الطويل وهم يقفون ويهتفون للمطالبة بحقوق شعب جثم الطغيان على صدره لسنين، وكانت المظاهرات صرخة داوية في الاتجاه الصحيح: المطالبة العنيدة بتطبيق القانون على الجناة في اريتريا ابتداء من الرئيس اسياس أس الداء حتى أصغر مسئول ملطخة يده بدم الأبرياء. أكتب هذا المقال وفي بالي أن ما تحقق ليس بالأمر الهين وأن التراجع عنه يمثل خسارة كبيرة مستقبلا، خاصة وأن الناس اجتمعت لتكون صوتا لمن لا صوت لهم في سجون الحكومة، وهذا انجاز كبير يتحقق على أرض الواقع، وهو يكسر حالة القنوط التي سادت جراء حالة التشرذم في العمل المقاوم للحكومة، الأمر الذي كرس قناعة بأن الارتريين غير قادرين على العمل معا في مقاومة النظام. مظاهرة جنيف كسرت هذا الفهم السلبي وأسست لأرضية بأن الاريتريين يمكنهم العمل معا لانتزاع مطالبهم ولإيصال صوتهم. ضمن هذا الفهم تأتي تاريخية هذه التظاهرة. جاء تقرير مفوضية التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان في اريتريا كالبلسم على جرح كل من تأذي من الطغمة الشريرة في اسمرا، أي كان حجم الضرر، وهو في الأساس ضرر ناتج عن قوة غاشمة ضد مدنيين أبرياء لا يجدون من يحميهم من جلادين بيدهم كل أنواع الأسلحة. التسعينات من القرن الماضي شهدت جرائم كبرى ضد الإنسانية كمذابح رواندا وبوروندي ومذابح سيربينشا في البوسنة والهرسك. مع هذه الجرائم وجرائم أخرى برز إلى الواجهة توجه في القانون الدولي لتقديم المسئولين عن الانتهاكات المروعة لحقوق الإنسان لمحاكم عادلة خاصة عندما تكون مرتكبة هذه الانتهاكات مؤسسات رسمية لا يجد المواطنين أي حماية منها مثل الحكومة والجيوش والشرطة والأجهزة الأمنية. هذا الاتجاه في القانون الدولي رأي أن مبدأ سيادة والحصانة لدى المسئولين الكبار في الدولة يجب أن لا يكون عائقا أمام تقديم المسئولين للعدالة. تضعضع مبدأ السيادة الوطنية الصلب والحصانة الدبلوماسية أمام القانون والعدالة الدولية وكان نتيجة ذلك توافق جزء كبير من المجتمع الدولي على توقيع ميثاق روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية. تم تقديم مسئولين عن جرائم كبرى إلى المحاكمة مثل الرئيس السابق تشارلز تايلور والصربي رادوفان كاراجيتش، وهناك قوائم أخرى تضم جناة آخرين. ساحة العلاقات الدولية لا زالت تخضع لمؤثرات السياسة أكثر من تأثير القانون، وهذه حقيقة لا تغيب عن ذهن المتابع لأن الجوانب القانونية الدولية لا تعمل في فراغ عن ضغوط السياسات بشكل عام. ضمن هذا التطور القانوني جاء تعيين المقررة الخاصة لحقوق الإنسان في ارتريا ثم تلاه تأسيس مفوضية التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان في يونيو من العام الماضي. فإلى أين تسير العملية القانونية التي يطالب بها الشعب الارتري ممثلا في أبناءه وبناته الذين رفعوا صوتهم بالمطالب في جنيف؟
تقرير المفوضية أشار إلى أن بعض انتهاكات حقوق الإنسان في ارتريا قد ترقي إلى جرائم ضد الإنسانية، وحدد المسئولين عن هذه الجرائم على العموم، ودون توجيه اتهام محدد. وأوصي التقرير بالتحقيق في هذه الجرائم. هذا التطور ألانبعاثي لا يجب التقليل من شأنه ابدأ. مجلس حقوق الإنسان سوف يناقش تقرير المفوضية وتوصياتها ويمكن التنبؤ بأن المجلس سوف يمدد صلاحية مفوضية التحقيقات لمدة سنة أخرى، وبواجب جديد وهو التحقيق وتوفير أدلة ملموسة يمكن أن تسهم في توجيه اتهام قانوني محدد لمرتكبي هذه الانتهاكات في ارتريا، وقد يكلف المجلس المفوضية بالعمل في هذا التكليف مع المقررة الخاصة، بالرغم من كونها عضوا في المفوضية الثلاثية الأعضاء، عند هذا المنعطف، قد يستمر عمل المفوضية الميداني بصورة مكثفة ولكن هذه المرة من أجل جمع الأدلة اللازمة لتجريم مرتكبي الجرائم. من هنا يبدأ العمل الحاسم لكل الارتريين في مساعدة المفوضية في جمع الأدلة اللازمة من أجل تطوير ملف المطالب القانونية، وإفادات الضحايا والمسئولين الذين انشقوا عن الحكومة الاريترية قد تكون حاسمة في بلورة الاتهام القانوني. كما ذكرت لا يمكن التقليل من تأثير السياسة على العملية القانونية، ففي أثناء مناقشة تقرير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ستقوم مجموعة دول ال77 أو مجموعة عدم الانحياز بمحاولة إضعاف التقرير وإيجاد طوق نجاة للحكومة الارترية وذلك تحت حجة مقاومة الامبريالية والاستعمار والتدخل في الشئون في الداخلية وازدواجية المعايير وكل الحجج التي سوف يراد بها باطلا في حالة ارتريا. ليس من الحكمة تعجل النتائج ولكن من الحكمة أيضا تدبر ما يمكن أن يحدث في دهاليز الدبلوماسية بحيث لا يختنق الجهد القانوني الساعي إلى تقديم الجناة إلى العدالة في اريتريا. الجمعية العامة هي الساحة التي تنشط فيها الدول الضعيفة لدعم بعضها بضعا سواء كان ذلك الدعم على حق أو على باطل، فالطغاة من الأفارقة وكما ساندوا البشير في جوهانسبرغ قد يشكلون درعا بشريا لحماية الرئيس الارتري مستقبلا، تحت نفس الحجج السابق ذكرها. خطاب مندوب الصين المائع أمام مجلس حقوق الإنسان في جنيف في الثالث والعشرين الماضي قد يكون مؤشرا على ذلك؛ وفي الجمعية العامة قد تظهر أصوات السودان وإيران وفنزويلا وزيمبابوي ودول أخري لتنافح عن ارتريا دونما علم بما يكتوي به الشعب الاريتري الظلم، وذلك تحت حجة التضامن الأممي. خروج الملف إلى مؤسسات هيئة الأمم المتحدة التنفيذية، أي مجلس الأمن قد يضمن تحققا كبيرا لمطالب المتظاهرين في جنيف ولكن هذا يحتاج عملا سياسيا وجماهيريا ودبلوماسية معارضة رائدة.
وعند هذه النقطة يمكن القول بأن كعب أخيل في العمل الجماهيري الذي أنجز تظاهرات جنيف هو للأسف الأحزاب والتكوينات الارترية السياسية والي تتصارع فيما بينها على ما يضر ولا ينفع، وفي غمرة انشغالها عن الحشد وراء تقرير المفوضية فإنها تضع مأسورة المسدس على رأسها وتفقد الأرضية المتغيرة من التأييد الجماهيري الشحيح أصلا. أخيرا مظاهرات جنيف رسالة ثلاثية الأبعاد وتمثلت في مخاطبة المجتمع الدولي: نحن بحاجة لحماية دولية ضد حكومة غاشمة ورئيس مأفون، وبالنسبة للحكومة الارترية : المطالب برؤوس الجناة لن تقف هنا وأخيرا الخطاب إلى تكوينات المعارضة : العمل ….. العمل الآن أو فلا، لأن القطار يفوت وغدا يصبح أمرا آخر.