تقرير مفوضية التحقيق حول ارتريا…… الدلالات والمآلات بقلم / فتحي عثمان
10-Jun-2015
عدوليس ـ ملبورن ـ ( خاص )
صدر في يوم الاثنين الثامن من يونيو الجاري التقرير الخاص بمفوضية التحقيقات حول انتهاكات حقوق الانسان في ارتريا. التقرير يعتبر نقطة تحول مهمة في مسألة التحقيقات حول انتهاكات حقوق الانسان التي ترتكبها الحكومة الارترية عبر مؤسساتها المختلفة، وأصبحت أهم ظواهر هذه الانتهاكات هي الهجرة بأي ثمن هربا من جحيم تعيشه البلاد. فما هي دلالات ومآلات هذا التقرير المهم؟
أعتمد التقرير على 550 جلسة استماع سرية لشهود مرتبطين بشكل أو بآخر بمسألة الانتهاكات ابتداء من الضحايا أنفسهم انتهاء ببعض مسئولي الحكومة الارترية ” البعثة الارترية لدى الأمم المتحدة”، إضافة إلى 160 شهادة مكتوبة. وأشار التقرير إلى أن الإدلاء بالشهادة على أي نحو كان يعرض الشاهد لخطر تعقب الأجهزة الأمنية أو تعرض ذوي الشاهد أو أقربائه في ارتريا للخطر. وهذا يفسر شح الشهادات أمام حجم الانتهاكات من ناحية، ويفسر قوة أجهزة الأمن في تعقب الشهود في الداخل والخارج من ناحية أخرى. رغم ذلك جاء التقرير في 484 صفحة وكان جريئا وواضحا ولا لبس فيه. وقال بالحرف ” وجدت اللجنة انتهاكات منهجية واسعة وواسعة النطاق ارتكبت ولا تزال ترتكب بإفلات من العقاب في ارتريا تحت سلطة الحكومة، نادرا ما نري نطاق ومدى الانتهاكات التي نراها في ارتريا اليوم وليس مفاجئا أن نجد أن عددا كبيرا من الأفراد الذين يعبرون البحر وطرقا أخرى للوصول إلى أوروبا من الارتريين، أنهم يفرون من بلد يحكمها الخوف لا القانون.”
الدلالة القانونية لهذا التصريح بعيدة الأغوار، ويترتب عليها مسائل قانونية؛ فعندما نقول أن الانتهاكات منهجية فهذا يشير إلى مفهومي التخطيط والتنفيذ أي سبق الإصرار في الجرم. ثانيا عندما نقول واسعة فإن الإشارة هي إلى أنه ليس هناك ملجأ في البلاد يكون في منأى عن الانتهاك ويشمل ذلك المكان والمؤسسات؛ أي أنه لا توجد أماكن معصومة عن الانتهاكات أو مؤسسات يمكن أن تحمي ضدها. وهذه الانتهاكات ارتكبت ولا تزال ترتكب أي أن هناك تمادي في الجرم، والإشارة الضمنية والمصرح بها هي إلى مسالة إطلاق النار الحي على الهاربين وهو الأمر الذي أنكرته الحكومة الارترية، ولكن التقرير يشير إلى تواصل استمراره حتى سنة 2014. وأن الجرائم ترتكب بإفلات من العقاب، أي أنه ليس هناك حتى الآن جهة قانونية تحاسب الجهات المرتكبة للانتهاكات عليها، وهذا ما يشار إليه ب آمبيونتي. وهو المفهوم الذي يشير إلى حالية الوضع أو راهنية الوضع القانوني للانتهاكات وما يتوجب القيام به إزاءها وسوف يترتب على هذا إجراءات دبلوماسية وقانونية من سلطات أممية عليا. أي أن الانتهاكات تمر دون عقاب وهو ما يجب فعل شيء إزاءه. وتشير الجملة أعلاها قانونا إلى ما ترتب عن الانتهاكات وهي مسألة التهجير القسري وهو انتهاك خطير لحقوق الانسان، ويترتب عليه النظر إلى أوضاع الارتريين الهاربين ضمن هذا الفهم. التصريح الأخطر في التقرير هو بيان أن بعض هذه الجرائم قد يرقى إلى جرائم ضد الانسانية؛ والجرائم ضد الانسانية تقتضي أن يكون الاختصاص القانوني عاما وعاجلا: أي يحق لأي دولة معاقبة مرتكب الجريمة ضد الانسانية.
في الجانب القانوني هناك إشارة لا تقل أهمية من التصريح السابق، وهي تأكيد التقرير إلى أن الرئيس الارتري شخصيا ومكتبه ووكالة الأمن القومي والشرطة والجيش ووزارتي الإعلام والعدل والجبهة الشعبية ضالعة في هذه الانتهاكات. أي تم تحديد الانتهاكات والقائمين بها في تحديد لا لبس فيه. ففي حال ثبوت الاتهام تصبح الجهة المنتهكة للحق تحت طائلة القانون دون غموض قانوني.على الصعيد القانوني هناك مكسب ترتب على هذا التقرير وهو التصريح بوضوح حول أوضاع اللاجئين الارتريين ومناشدة المجتمع الدولي تقديم الحماية لهم، وهذا ينسف جهود ” من الناحية القانونية” فقط الحكومة النرويجية في محاولة إعادة الارتريين الذين رفضت طلبات لجؤهم إلى بلادهم، ونفس المقدار ينطبق على السياسة التي تبنتها الحكومة البريطانية بخصوص اللاجئين الارتريين من الشباب. خاصة عدم الإقرار بمشكلة الخدمة الإجبارية كسبب لقبول طلب اللجوء، وهو الأمر الذي تضمنه التقرير باعتبار أن الخدمة الإجبارية هي التي تتم بواسطتها أعظم الانتهاكات.
دبلوماسيا:
يمكن النظر إلى هذا التقرير بأنه أهم تحول قانوني فيما يتعلق بانتهاكات حقوق الانسان في ارتريا لأنه يفتح الباب أمام خطوات دبلوماسية خطيرة لا يمكن للحكومة في اسمرا غض النظر عنها على الإطلاق. التقرير سوف يقدم لجلسة مجلس حقوق الإنسان في الثالث والعشرين من الشهر. وللمجلس ثلاث جلسات في السنة: واحدة في مارس والثانية في يونيو والأخيرة فهي في سبتمبر المقبل وتتزامن مع دورة الانعقاد السنوي العادي للجمعية العامة للأمم المتحدة. يمكن لهذا التقرير أن يصعد من مجلس حقوق الإنسان إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة ويمكن للجمعية العامة أن تقوم بدورها في حال تأكدها بأن الانتهاكات تمثل تهديدا للسلم والأمن الدوليين بإحالة الملف إلى مجلس الأمن، والذي يستطيع أن يحيل الملف بدوره أيضا إلى محكمة الجنايات الدولية، وعند هذا المنعطف يمكن وضع مؤسسات وأشخاص تحت طائلة المساءلة القانونية. قد تكون هذه الخطوات طويلة لحين مناقشة التقارير في اللجان والاجتماعات وصولا إلى مجلس الأمن، ولكن إشارة الخطر الحمراء أصبحت واضحة أمام عين الحكومة الارترية، والتي ترفض التعاون مع المقررة الخاصة لحقوق الانسان من ناحية ومع المفوضية التي هي عضو بها. سوف تكيل الحكومة في ارتريا الاتهامات للمجتمع الدولي ومؤسساته باستهدافها وسوف تلعب دور الضحية كما جاء في خطاب الرئيس الدرامي في مايو الماضي. وبالإضافة إلى ذلك فهناك الجوانب التي تترافق مع الدبلوماسية وهي مسألة الإرادة الدولية وهذه ترتبط بمصالح أطراف المسألة والمجتمع الدولي عامة؛ لذلك أي نجاح بهذا الخصوص يستلزم دورا رائدا من قبل الارتريين أفرادا ومؤسسات لكي يصلوا إلى إقناع المؤسسات والمجتمع الدولي بأن التقرير الحالي يمثل حجر الأساس في إطلاق عملية قانونية واسعة ضد الحكومة الارترية تنطلق في الثالث والعشرين من الشهر الجاري وتتواصل لحين انعقاد اجتماع الدورة العادية للجمعية العامة. التهاون والتراجع في هذا المطلب الحيوي والمهم سوف يدحرج الكرة إلى المربع الأول وفي غير صالح الضحايا وقضيتهم.
سوف تقوم الحكومة الارترية في خطوات محمومة بالتصدي لهذا النشاط الدبلوماسي الأممي ومن المؤكد أنها سوف تطرق أبواب موسكو وبكين والقاهرة. ففي العاصمة الأولي وجدت اسمرا آذانا صاغية، خاصة وأنها وافقت على الخطوات التي قامت بها روسيا في أوكرانيا، الأمر الذي أغضب الحكومة الأوكرانية. ثانيا سوف تسعى اسمرا إلى القاهرة والتي كسبت مودتها عبر تأييد الانقلاب ضد الرئيس المنتخب، وهنا سوف تقدم التنازلات الاقليمية اللازمة، وكما كانت القاهرة مدخل اسمرا إلى الرياض فسوف تحاول أن تخصص لها جهدا في مقاومة تيار المد القانوني الذي سوف ينفتح ضدها. وأخيرا هناك بكين والتي تجمعها مع اسمرا مصالح اقتصادية مهمة. فالصين دولة لا ترهن سياستها الخارجية إلى أجندة حقوق الإنسان، وهو الأمر الذي أدى بها إلى كسب رضا الحكام الأفارقة القساة، لأنها ببساطة لا تتدخل في ممارساتهم ضد شعوبهم من ناحية، وتعدهم بأنها سوف تدافع عنهم في مجلس الأمن من ناحية أخرى، وهذا كل ما تحلم به أسمرا من بكين وموسكو في حال تصعيد ملف الانتهاكات إلى مراتب أعلى.
ردهات الدبلوماسية والسياسة الدولية لا يمكن التفاؤل بخصوصها، الأغرار هم من يخاطرون بذلك، لأن أي تنازل سياسي مهم من قبل اسمرا يمكن يؤدي في لمح البصر إلى إغراق ملف التحقيقات بكامله في البحر الأبيض المتوسط أسوة بالضحايا الذين سبقوه. لكن رغم كل شيء يجب أن يضاعف هذا التطور من التزام الارتريين تجاه قضاياهم المصيرية خلال الأيام المقبلة.