حلمٌ على حجرِ إسفين !! قصة قصيرة / منى محمد صالح
16-Nov-2013
عدوليس
الواحدة بعد منتصف الليل، الصمت والهدوء ينسابان ببطءٍ كفحيحِ أفعى عمياء ، فى أرجاءِ الغرفة الصغيرة ، التى تحف جدرانها البيضاء لوحات مائية عُلقت بإهمالٍ ، وعلى الجانب الآخر من الباب الموارب إمتدت أرفف خشبية عريضة إكتظت بالكتب ، وصندوق فارغ من ورق الكرتون القديم ، كان بجانب السرير الوحيد فى الغرفة ، وقد وُضعت بداخلة بعض الصور ورسائل قديمة ،
وثمة ضوء من لمبة النيون كان يتسرب من رواق الممر الطويل المؤدى إلى غرفة المعيشة . ولا شئ يتنفس حيّز المكان ، إلا من مجموعة متفرقة من السناجيب البرية ، تصدر أصواتاً متحشرجة بين الحين والآخر ، تأتى من غابة الصنوبر الكثيفة التى تبعد بضعة أمتار من حديقة المنزل الصغير المعزول على سفح جبلٍ عالٍ فىالساحل الغربى فى بلدة “ليون” النرويجية ، حيث برودة الشتاء تقتل حيتانها .
جلس ياسين على كرسىٍ هزاز قرب سياج المدفأة الحديدية المتقدة ، باسطاً قدمية فى تراخٍ فاتر يلتمس الدفء ،وينظر من زجاج النافذة العريضة فى عزلتة المنتقاة ، ولا نديماً غير هذى السهول الثلجية البيضاء بإتساعها اللانهائ ، تمتد أمامه على مدِ البصر ، وبقايا زجاجة قديمة يُعاقر مُرّها ، وغربة خشوعة الموحشة . تأرجح فى قعدته ، يراقب حركة الريح بالخارج وهى ترمى بأوراق الشجر اليابسة التى كانت تتساقط على أرضية الحديقة المُشذّبة بعنايةٍ مُمِلة ، وكأن نجاراً صقّل جيدها . كان ياسين مستعداً للمساومةِ بخيباتٍ اخرى من إرثِ الشيطان ، يخرج مارداً أحوص .. يرمّم الريح .. يغطى يُتم القصائد ، والإحتمالات المخفوقة بإرتداد الذات المضطربة.. تحفها يد المنون .. دون وداعٌ ندِىٌ.. أوعوسجةٌ تنبرى كعصا موسى.. تأتيهم من خلف البحر باليايسة عسى ولعلَّ …….
الصدأ لا يصدر صوتاً ، تمتم ياسين وهو يسوق كلماته سباباً يحاصر الأشباح.. خفافيش الظلام.. رُماة الحصى السهام .. الملوثين بوسمِ الفجيعةسوطاً … يرتفع بإعتدالٍ قاسٍ … على أشلاءِ حياة مؤجلة.. ومواسمٍ لن تأتى أبداً !!
كيف نخرج من لعنة إستوائية المكان المُحتقنة بالخرابِ ..؟ ويأس الهاربين من نبش الهواء طلقاً ، يحتضنون رمقهم الأخير فى ذهولٍ صامت ، يتبعهم ظلهم كأًخيلةٍ تبرز من هياكل العسس و المدن المقفرة ، إلى غربةِ الحِداد ..؟
كان الحزن يعاود صحوّة الطازج ، بخدرٍ يغيّب ملوحة وحدتة ، والبدايات الاُولى تتزاجم فى بزخٍ متألق كزهرِ الحقول الربيعية ، يرخى لقاؤهما الأخير ظلاً من الدُفلى .. ليتها الأن هنا نحقق مُعجزات الله فى الأرضِ .. كان شفق إلفتها البرنوزى يسرى كدفقٍ دافئ .. يسترخى على تخومِ روح أنهكتها مواسم النزوح المنزلق ، بحثاً عن محضِ مسافات أو زمناً يماثل فى ضيائِه لونُ الشمس من أولِ البحر إلى آخرِ الجبل ، فى بلادٍ يأسرها الفقد وإنكسار الروح ، وثنائية الوجع تتجمهر بين زمنين ، تراود الارواح ، تمحو من العين والقلب بهجة الحياة .
بينى وبينُكِ آلاف القصائد.. وأرخبيلات المدافن.. بيننا زمرة عسكر.. وحصار بلادٌ تُضمدُ جُرحها ليومٍ ياتى.. ولايأتى !! والليل هنا لا تومض أنجمه ، ونحن ندور فى فلكِ البقاء.. تطحننا الرغبات الهاربة من مسالخ الأجل المؤجل.. والبحر يزحف نحونا.. يملأ أعطافنا ماءٌ وطينٌ.. ولغةٌ تفرُّ من صهيلها.. وتدوّن قائمة الأسماء فى رتلِ المراثى ، ثم تهوى كجسدٍ فى لُجّةِ القاع .. يغطيها لزوجة الوحل الطحلبى.
أدرى أننى أسوق خيبتى بإنكسارٍ ينحدر مثلنا ، خطاً إستوائياً ، دون إلتفات حنون ، يكفّن أثر الغائبين فى سديمِالحصار ، وجلاداهم يصطفون شاهدين على وزِرهُم ، يراهنون على أحياءِ موتاهم ..!! وأنت تسكنين البحر دونى.. مرقداً مخملياً.. يغطيك وشاحك المزركش الليلكى ، لا جدوى من المحاولة الأن ، الوخز هنا يتصاعد بإنبثاقٍ سافر للجرحِ.. دعينى أغادر سجود مقلتيك … وأطلق على سمائكِ.. الحمامات النوارس.. وفى القلبِ تنام اُغنيتى ..
يإمراةً تشفُّ شغاف الوهن فىّ.. تغوص فى سُرّةِ الجسد … كنواةٍ تنفلقُ إلى زُنبقتينِ مُختلفتين.. وتلتقيان فى نزقٍ إلاهىٌ.. لينمو كل هذا الجلالُ فى قلبى..!! ليت على الجدرانِ الأن ظِلكُ ، يقينى من لسعة هذا الجنون الآيل للسقوطِ ، وضجيج السكون داخلى ، وهذى الوخزات الخارجة من الجسد ، وكأن المسامات فيها تغيّردورة فرزها إلى ماءِ الملحُ.. دمٌ …..!!
وأهتفُ بإسمُكِ.. مريم.. من لى غيرُكِ لأحبُ.. وأعشقُ حُلماً إنفلت عقيقة فى ذاكرةِ لقاؤنا الحلو الأخير..؟ حاملاً طعم رائحة الحقول البعيدة هناك.. وطمى التراب على ضفاف نهر عنسبا . أعيدى لدمى بذور الساحل والسهل.. لأنمو نبياً أخضراً فى هدبِ عينيكِ .. كيف أنبتنا الشوك بتولا.. مجدلية الندى.. فرحاً خُرافياً ، وإمتطينا فرس الحلم، ثم تركناه هناك غريباً وحيداً.. يلدْ أنجماً لا تليق أن تنطفئ . أحس ياسين بقلبه ينسلخ من مكانه كقطنٍ مندوف ، وتأكد أنه تأخر كثيراً فى وداعها الذى حملته الأمواج بعيداً معها ، لتبدأ الأشياء وتنتهى فى مساحةِ زمنٍ واحد .
إلتقيا دون تخطيط مسبق ، كانت الفكرة تنمو كعدوىٍ محمومةِ السريان ، تنتقل بسرعة إلى عُزلةِ الرؤوس المُطحنة بالشقاءِ ، دون أن يدرى أحد بأمر الآخر ، أو بما يدور بخلدِه . الهروب من معسكرات الخدمة الإلزامية ، السخّرة المطلية بالنكلِ العالق ، كنقّارِالخشب فى عقرِ الجحيم ، وعبودية التجنيد اللحَد ، التى تسحق إنسانيتهم ، وتحصد دنوَّ العمر على مهلٍ ، وأحلامهم ، وفرح الصبا ، والخوف الذى يسبر أغوار القبور ، ويقرع دابر الحياة إلى حوافِها المُسنّنة . لا أحد يأمن ظله هناك ، الموت له شكلٌ واحد ، وتتعدد روائحة ، فإختارا موتاً أرحم ، مسكوناً بالغياب ، ومرهوناً بالموتِ وعطاياه ، فى رحيلٍ أحادى دون إياب .
وتدور كرنفالات الريح ، وكأنها موسومة بالقدرِ ، وجدا نفسيهما فى حافلةٍ صغيرة ، مكدّسة بالأجسادِ البشرية ، المتراصة فى تلاصقٍ محموم ، والإعياءُ البادى على سيماءِ الوجوه الصغيرة ، ينطق بالقهرِ وفواصله المُوجعة ، وخواءِ الصمت العاوى فى ضجة الرؤوس المثقلة ، يهوى كوتدِ إسفين بين الحُلم وإحتضار اللحظة الآتية .
تقاربت المسافة بينهما منذ الوهلةِ الاُولى ، كانا يقفان معاً على عتبةِ اُفقٍ ، يبدو بعيداً بينهما ، يبحثان عبثاً عن نهايته ، حيث إلتقيا فى مركز الإحتجاز المؤقت ، فى مدينة “طبرق” ، إلى حين ترحيلهم من جديد إلى سجن “أجدابيا” على مشارف الحدود الصحراوية ، بعد أن تمّ إصطيادهم فى رحلةِ بحثهم اليائسة عن سفينة نوح ، ليلحقو بركبها من كل زوجين إثنين ، تعبر بهم مياه البحر المتوسط ، لتنقلهم حيث جنة الله الموعودة بغربة الروح فى غيبوبةِ تمَامِها ..!!
وسّع لها مكاناً بجانبه ، والأجساد تتدافع بتعبٍ واضح مع حركة الحافلة وهى تشق سكون الطريق الساحلى الليبى المقفر فى طريقها إلى سجن “أجدابيا” . ألقى عليها نظرة حانية ، مرحباً بها فى حسرةٍ لم يفلح فى إخفائها ، وراعه هول اليأس الذى يلفُّ ملامحها الوديعة متسائلاً: مالذى أتى بها إلى هذا المكان اللعين ؟ وإبتلع مرارته ، وكأنه يشفق على نفسه .
إحتضنت عيناها الزهريتان إبتسامته الصغيرة التى إرتسمت على وجهه الأسمر النحيل ، رغم مرارة المشهد .
مرحبا.. إسمى مريم .
ردت عليه بصوت منخفض ، وأضاءت عينيها من جديد ، وهى تعدّل من وضع وشاحها المزركش الليلكى على خصلاتِ شعرها الناعم ، ونبضٌ رفيفُ علق بين الأنفاس المُتصاعدة بالقلقِ والخوفِ . جلست بقربه والشبح يغادر ظله بينهما ، وإستوائية المكان تحفر أخاديداً تخفف وطأها مثل نسيمٌ رطبٌ ، يفلت نبض اللغة الصامتة حدّ الإحتواء ، ليبقيا معاً فى حضرة غربتهما الموعودة بدلافين الختام .إستبد بهما اليأس فى رحلة المتاهات المسيجة بحصادٍ يتتالى عليهم بالتقسيط ، وغيمٌ حزينٌ يطارد سرب فراشات المساء .
لو كان لنا أجنحةً..!! وتابعت مريم التحديق فى سماءِ العدم ، بعينين دامعتين ، لن يحس بهما إلا الإنسان المهدود داخلها ، والإنكسار يرخى أسداله السوداء عليها ،وليس لها سوى الريح تحمل صدى صوتها الحزين فى إرتدادٍ مقهور ، وقبل أن تكمل دورة حزنها تجاسرت بالسؤال :
مالذى يجبرهم على هذا العمل البائس..؟ وأضافت فى تحدٍ جميل ، إن إصطيادنا بهذا الإمتهان المرهون بالقنص سوف يزيد بؤسهم شواهقاً من الإثم ، ويُوحّد اُسطورة الجُرح الأصيل .
تجرع ياسين ما تبقى من زجاجته الفارغة دفعةً واحدة ، ومسح بطرفِ كمِ قميصة شفتيه الجافتين ، ودفء مريم الآسر يعمه ، والوجع المتبّل ، يتبعثر داخله دون ترتيب ، وهو يتابع بحلقته من زجاج النافذة العريضة ، والريح تكنس آخر ما تبقى من أوراق الشجر المصفرّة اليابسة على أرضية الحديقة المسفّلتة ، لتبدو أكثر لمعاناً وبؤساً من ذى قبل . وسفينة نوح تنوء بثقلها ، تحتطب بالأسماءِ العابرة من تحت التراب ، ولا دخانٌ سوى ظلام العالم الطافى من حولهما .
وكأنى أسمعُ مطراً بالخارجِ يهطلُ ، صوتُكِ الشجّىُ ، يأتينى حُنُوّاً عارياً.. لا تفلتنى ……. ، يستنهضُ بُعداً مفقوداً ، يشبه نُطفة الذكريات الغارقة فى حميميتها كثيراً ، وأنتِ تلوذين بى… أبعد من العينِ وأقرب إلى القلبِ..!!
كنا فى عزلةٍ تامه ، والماءُ يعلو نُواح الريح فى تصادمها مع الأجساد المتناثرة على حوافِ الشهيق الأخير ، ونحن نفتش عن أسماء من رحلوا ، جثثاً تواجه قاتليها ، وغربان السماء السوداء تحلق فوق رؤوسنا ، تنعق بشؤومها فى إنتظارِ اللحظة الحاسمة ، للرقصِ على إيقاعاتِ العُرس الجماعى . ترتادنى الأن..أسماء مُدنى الحزينة.. ثقوباً من الضؤءِ.. وتحاور عيناى صوراً من الذاكرة… تشبه إسمُكِ.. والراحلين إلى دمى.. يستعدون الأن للرقص بين موجةٍ واُخرى ..!!
بدأ ياسين مرهقاً فى إرتخاء الجسد المسجى داخله ، وصفير الريح بالخارجِ يعصف به من كل الإتجاهاتِ ، ولا بحرٌ يتنفس فلق الصباح ، أو طائرٌ اُسطورىٌ يرفرفُ ببيارقِ الأعلام البيضاء ، إيذاناً بعبور جنة الله الموعودة بغربة الروح . إحتضن جسدها المرتعش فى آخر وداعٍ لم يكتمل ، جرفته المياه بقوة ، فى محاولة يتيمة لإنقاذها ، والصعود معاً إلى خواءِالعالم المثقوب . كان هذا مثل كابوسٍ حىُّ ينوص فى غيمةٍ عمياء ، ويعود بمخارجِ الأرواح لتخترق السماء والأرض ، والبحر يكتسح اليابسة ليقبر الأخضر ، ولا أثر لعصا موسى !!
إرتفع صوت مريم مرفرفاً فى فضاءِ الغرفة الصامتة، وهذة المرة بتشابكٍ صافٍ نضر ، مثل عينيها الزهريتين ، وتلك الرؤى التى تبلورت داخله مُوحّدة وشاملة ، لتتكور بجلالها تحت نير الدهشة التى إعترته ، وبدأت أمامه أشجار الصنوبر من بعيد ، وكأنها تحمل لونٌ من ذهبِ الشمس ساطعاً يشق ظلام عُزلته . أحس ياسين بالنبضِ الرفيف يحبو إليه دافئاً ، وكأنها مريم.. تأتى والصباحُ فى يدها.. تذّكر ظل الأرض فى عينيها كما كان هناك ، ملوحة ضحكهمايجلجل بين أزقة الرمال والصدى،إلتماسها للدفئِ معاً ، وعصافيرٌ صغيرة تفرد جناحيها ، وتحلق فى عُلوِ سماءٍ زرقاء ، وقلب ينضح نبضاً جديداً يرشده إلى قبرِ شهيد ، وحلمٍ ينبت حبقاً على حجرِ إسفين ..!!
منى محمد صالح
12 / نوفمبر 2013
mona@arkokabay.com