دنقير وأغردات وعبدالفتاح .. وعطاء لن ينضب للحركة الطلابية الإريترية المناضلة..!
18-Sep-2013
عدوليس
أبوبكر سليمان إدريس – في البدء كل التحية والتقدير والتجلة، للمؤرخ الإريتري الأبرز، الأستاذ المناضل عبد الفتاح ود الخليفة. هذا الإريتري الذي ينضح مداد قلمه بكل ما هو وطني وثوري، في مفردة الكلمة الإريترية، وهو يقوم بدورمراكز دراسية وبحثية في تاريخ الثورة الإريترية.
هذا الفتى المثال الحي لتواصل عطاء الحركة الطلابية الإريترية، جناح الثورة الفكري والنضالي العملي، خاصة في جبهة التحرير الإريترية ( الأم)، والتي كانت خلف مبادرة التأسيس في قاهرة عبدالناصر، ومنهلها في التزود بالكادر المتعلم والمثقف ، حيث جعل عبد الفتاح ود الخليفة من صباه وشبابه ذاكرة تسجيل للتاريخ النضالي للثورة، وفي أزمنة إنتشار أطياف سموم الطمس والتذويب، يفيض يراعه بمضاداته الحيوية، ليشفي الذاكرة والواقع في آن .. فلله درك من فتى! قضيت العمر كله في خدمة الوطن المرتجى، والقضية التي لا تكل فصولها عن التجدد..كل صباح ..! فمن أولى منك اليوم بالثناء يافتى الثورة والقضية ..!؟
طالعت مقاله التوثيقي الأخير (ﺷﮭﯿﺪ (دﺑّﺖ ﺳﻜّﺮ) دﻧﻘﯿﺮ ود ﺷـﺎﻛﺮ) ليعود بي لأزمنة النشأة والتّكون، وذاكرة الصبا والطفولة .. بعد أن فعل الزمن فيها أفاعيله.. حقا كانت ليلة بانورامية التشكيل، بعد ظلام دامس..! بين قرقعة البنادق وفرقعة القنابل ورنين الطلقات وأوضوائها..!
كان معسكر العدو يقع جنوب المدينة ومنزلنا الكائن بحلة (أوتيت – مقبرة أغردات الكبرى). ومنذ اللحظات التي مرت بها المجموعة التي دخلت من الناحية الغربية للمدينة، شرع الوالد – رحمه الله – في إنهاضنا من النوم ، وأدخلت الأسرة في ( القطاطي). وظل في الفناء مترقبا. وبدأت المعركة . كانت تلك اللحظات مبهمة لي، ما الذي يحدث ..!؟ وردت الوالدة ..أصمت .. ولاد يوم آتيام هلو..!!؟ (الشباب اليوم داخلين ) فعرفت من هم بالرجوع للهمهمات المسائية بين الوالدين والعم حامد عبدالله قبر .. وإنصرفت إلى التمتع بمرآ الطلاقات وهي تشتعل ضوءا .. ويلاحق سمعي طنين أزيزها..!!
في صبيحة اليوم التالي، كانت والدتي – أمد الله في عمرها- متوترة مع الوالد، وبعيدين عنا،في نقاش حاد مكتوم. وبعد خروجه عند الضحى، أخرجت غياري ، وأمرتني أن أستحم. فعرفت أني سأكون في صحبتها إلى أقاربنا في( حلة جبر) بشرق المدينة، ومررنا حكما بالقرب من معسكر البوليس، وخلف منازل عد شفراي ، فأمام (فربيت- محطة القطار) ، وما أن لاحظت حركة الناس من وإلى أمام معسكر جيش العدو( طير سراويت) حتى شدتني بقوة من يدي وتجاوزنا خطوط السكة حديد، وإتجهنا صوب الشجرة الوحيدة الباقية في تلك الساحة..!! كان منظرا رهيبا ومهيبا ..!! عملاق متمدد ويمينه طوليا ثلاثة آخرون ..!! وجميع أوجههم شاخصة للسماء الزرقاء..!! وثلاثة من جيش العدو واقفون يراقبون أعين الناس ..!! يبحثون فيها عن ملمح ما.. وإقتربنا أكثر .. وتفرست الوالدة في الأوجه بعمق وتركيز.. بينما إنصرفت للعملاق من أخمص قدميه إلى قمة الرأس .. يا للمهابة .. كان عريسا حقيقيا .. جنديا لا تنمحي ملامحه ما دمت حيا.. يقارب المترين طولا .. عملاقا ، وليس بدينا، مفتول العضلات، وإضافة لشاربه الضخم المستدل إلى الأسفل في شكل حدوة حصان.. حليق الذقن .. يرتدي قميصا و( ردا- بنطال قصير يكشف الفخذين) عسكريين من قماش الكاكي ( الأغبش) حديثي التفصيل وحذاء قماشي ( كبك ..أطول قليلا من الباتا) حديث أيضا .. حقا كان مهيبا ومؤثرا وقائدا .. والغريب في الأمر أن لا أحد من الواقفين بدت عليه ملمح حزن أو خوف أو شعور بالفقد الكبير، بقدر ما كانت النظرات تشي بالإعجاب والإنبهار، سوى من الجنود الثلاثة، الذين كانوا أكثر بهاتة أمام المشهد. وكان واضحا أنهم أصيبوا في صدورهم ، لآن تحتهم كانت تسيل خيوطا من بقايا دماء ..! ووجوههم كانت صامتة .. برزانة ووقار ..! ولآ أحسب أن أحدا تطوع بتحسين مرآها ..!!
المكان الذي إستشهد فيه دنقيرورفيقيه، كان الزاوية الجنوبية الغربية لـ (سوق نواي- سوق الماشية )- الذي إنطلقت إليه بعد خروجي من بين عمي محمد إدريس شاكوكي، رحمه الله، حيث يعمل والدي قبل الظهر من كل يوم- لملاحظتي وجود الدماء فيه، وكمية هائلة من ظروف طلقات( البرين الإنجليزي –مدفع رشاش آلي متوسط الحجم، وكثيرالعطب)، بينما سقط الشهيد الرابع في داخل المعسكر. وكان واضحا أن دنقير ورفيقيه كانوا يغطون إنسحاب رفاقهما عبر (دبت طيارت – ساحة الطيران) ، وليس ( دبت سكر- ساحة السكّر)، وهو حي بعيد عن موقع المعركة نسبيا ، وربما كان وجهة الإنسحاب. حيث كثر الحديث يومها أن عربة مدرعة، وبعد إنسحاب مقتحمي المعسكر، وأطلقت النار على موقع البرين، الذي عادة ما يبدأ المعركة ويختمها بتغطية الإنسحاب، بحسب الروايات التي كنا نسمعها من الثوار في وقت لاحق.
ومعركة أغردات حققت اهدافها بنجاح، حيث تمكنت أحدى المجموعات من إقتحام المعسكر. وروى لي الزميل الشهيد المناضل همد علي همد(أبوكيتو وآمنا- هو أبوك يا آمنة) رحمه الله – وما يثير الأسى ،أن هذا البطل الهمام إستشهد في ظروف غامضة، في النصف الأخير من ثمانينات القرن الماضي، في زمن التخثر النضالي الإريتري.. أتمنى أن يكون ترك خلفة له، مع سيرته النضالية العطرة أصلا..! – أنه كان منجوس الفصيلة يومها ( شبل الفصيلة)، وضمن تلك المجموعة المقتحمة، حيث أمطروا غرف المعسكر بوابل نيرنهم عبر نوافذها العريضة، وتقاتلوامع صفوة جيش العدو وقتها، وجها لوجه..!! وانسحبوا أثناء التغطية التي قام بها دنقير ورفيقيه، ومعهم كثير من الجرحى. في ظهيرة اليوم قدمت طائرة نقل عملاقة ، وحطت في مطار كوكن العسكري القديم بجنوب شرق المدينة، وخرجت شاحنات عسكرية عديدة مغطات بالكامل، وهي تسير بهدوء تام إلى حيث إستقرت الطائرة. وغادرت المدينة.
وللحقيقة أن دنقير وصحبه الكرام هم الشهداء الوحيدون الذين لم يصلبوا في أغردات .. ولم يكن ذلك مكرمة من العدو.. ولكن لأنهم لم يفيقوا من هول صدمة معركة الإقتحام الجريئ .. كان يوم ذهول تام .. لجيش كان ..أم نافخي كير..! من عملاء وجواسيس .. عصر ذاك اليوم ضمتهم (أوتيت) فاردة مساحة .. لحفرة قبر جماعي قام عمال البلدية بحفرها، ووقف بجانبهم سكان الحي والمارين أمام المقبرة..!! ووريوا الثرى بذات لباسهم وهيئتهم .. ودون صلاة..!!
في المساء، وأمام والدي وعمي حامد عبدالله قبر، رحمهما الله، كانت الوالدة تهمس بقصيدة تمجد فيها الشهداء الأربعة وبطولتهم، وتعبر عن أسى أمهاتهم، وهي التي كانت تتفرس في وجوههم صباحا، بحثا عن إبنها بينهم، وهي تسقيهم قهوة كل مساء ..!
رحم الله جميع شهداء الثورة الإريترية من أولهم ..إلى يوم تحقق الجلاء .. والمجد والخلود لكل من يناضل ويستشهد، في فصول تجدد النضال والقضية .. والتحية للكاتب المؤرخ الذي يثبت أن الحركة الطلابية الإريترية التاريخية كانت وما تزال ملتزمة بقضيتها ، مهما تعددت الوسائل ، ومهما تباعدت المسافات بين أفرادها. وتحية خاصة للزميل عبدالفتاح ود الخليفة الذي ينهض ، وحيدا، بقلمه وجهده في توثيق التاريخ ، في زمن التزوير والتذويب والتهميش، وليت جمع من أصحاب الأقلام ساروا على هداه..! ليت ..!