عن تقرير أمنستي.. الانتهاكات الحقوقية في تيغراي وواجبنا الأخلاقي والسياسي 1/2 بقلم / عبد القادر محمد علي
11-Mar-2021
عدوليس
المنظمات الحقوقية جزء من منظومة حقوق الإنسان الدولية التي تعمل على رصد وتوثيق حالة حقوق الإنسان في العالم ومراقبة تطبيق الحكومات لالتزاماتها الدولية فيما يتعلق بحقوق الإنسان وكشف الانتهاكات لهذه الحقوق وتوثيقها وتقديم يد العون والمساعدة لضحايا الانتهاكات.بالنسبة للسياق الإرتري تكتسي هذه المنظمات الدولية أهمية فائقة بالنظر إلى حقيقة أننا كمجتمع إرتري وكدولة لا نملك أي وسائل مراقبة أو محاسبة للنظام الموجود في البلاد، لا برلمان ولا إعلام حر ولا نقابات ولا مؤسسات مجتمع مدني ولا قضاء، ولذلك فهذه المنظمات تبقى من المنافذ القليلة المتبقية بين أيدينا لتشكيل نوع من الرقابة على تجاوزات وانتهاكات النظام، ولنجعلها معبراً إلى فضاءات أوسع نتيجة حضور المؤسسات ذات المصداقية والسمعة الطيبة كهيومان رايتس ووتشوامينسي وغيرها فالتقارير الحقوقية الصادرة عن هذه المنظمات تأخذ طريقها إلى المؤسسات والشخصيات صانعة القرار كما أنها تلقى اهتماماً كبيراً من المؤسسات الإعلامية المختلفة ما يعطينا كإرتريين منبراً نتحدث من خلاله.
بالطبع أمنستي كان لها موقف واضح من تجاوزات النظام وأصدرت العديد من التقارير خلال سنوات طويلة الأضاع المزرية في إرتريا، وهو ما يساهم في الضغط إعلامياً على النظام الإرتري، كما ان تقاريرها كانت من المصادر التي اعتمدتها اللجنة المعنية بمراقبة حقوق الإنسان في إرتريا في تقريرها عام 2015 و2016 الذي يعد أشمل رصد لانتهكات وجرائم النظام الإرتري، وفي هذا الاختيارمن لجنة أممية مشكلة بقرار مجلس حقوق الإنسان ومن أفراد من دول مختلفة إشارة لا تخفى إلى مصداقية تقارير المنظمة.
لماذا اعتبرت أن هذا التقرير هام ويجب أن يؤخذ بجدية؟
1- بالطبع هذا التقرير هام وهذا ما يشهد به تعامل كبريات المؤسسات الإعلامية معه وتصدره في مواقعها الإلكترونية،
2- من جهة أخرى أهمية هذا التقرير تنبع بالنسبة لنا كإرتريين من أن هذه أول مرة تخرج فيها مؤسسات النظام العسكرية والأمنية خارج مظلة الحماية داخل حدود إرتريا لتقع تحت مجهر الرقابة الدولية، بمعنى آخر هذه المؤسسات خرجت إلى ملعب جديد بقواعد مختلفة هي القواعد المتبعة في كثير من دول العالم من حيث وجود الإعلام وشبكات التواصل والإنترنت بما تتحيه من فضاءات لفضح وتعرية الانتهاكات، ولذا فهذا التقرير وما قد يتيحه من فتح أبواب التحقيق ومحاسبة المتورطين في الجيش والمؤسسات الأمنية التي اعتادت على الإفلات من العقاب سوف يشعرها أن هناك جهة ما، إن لم تكن محلية فجهة دولية، قادرة على مراقبتها ومحاسبتها ومعاقبتها على جرائمها في تيغراي، لأنه إن لم يحدث هذا فعلينا أن نستعد إن كان هناك أي تحرك شعبي في إرتريا لتكرار تراجيديا تيغراي على أهالينا وأحبائنا.
3- وهذا التقرير مهم لأنه على ما يبدو سيكون مقدمة لتقارير حقوقية تدين النظام بارتكاب جرائم في إثيوبيا ولذلك فالنظام يحاول من خلال حملته المضادة تقويض مصداقية التقرير والمنظمة في ضربة استباقية للتشكيك فيما سيأتي لاحقاً أيضاً.
مطاعن حول التقرير:
لكن التقرير أثير حوله من النقاش واللغط الكثير، وفي رأيي أننا أولاً يجب أن نضع التقرير وما سيليه في إطاره الواقعي وهو كونه تقريراً حقوقياً استقصائياً اعتمد على شهادات شهود من السودان وإثيوبيا، وليس قضائياً يطلق أحكاماً نهائية ويسوق مجرمين إلى الإعدام أو السجن، ولذلك فالتقرير نفسه يدعو إلى تشكيل لجنة حقوقية تتابع الملف وتحدد الضحية والجاني وهو ما أراه مطلباً بديهياً في مثل هذه الحالات.
أعتقد أن التعامل مع التقارير الدولية الحقوقية يجب أن يكون بجدية وحذر للعديد من الأسباب منها ما أوردته، وكذلك لأنه من الطبيعي أن تعمل الجهات المتضررة من التقرير على تشويهه وصرف الأنظار عن ما ورد فيه، ونحن هنا نتحدث عن دول بالطبع.
كذلك بالنسبة لنا كمعارضين إرتريين أرى أنه من المهم الانتباه إلى أن الاستسهال في الانسياق وراء محاولات تقويض التقرير بحجج أعتقد أنها واهية سيكون مردوده سلبياً علينا، لأن الإنجاز الوحيد الذي حققه المجتمع الإرتري في المنفى هو الإنجاز في الملف الحقوقي.. النظام محاصر أخلاقياً، وحين نعمد إلى التشكيك ومحاولة تقويض مصداقية التقرير والمنظمة بحجج واهية في تصوري، فنحن في النهاية نقدم خدمة جليلة للنظام الذي سيعمد مستقبلاً إلى محاولة وصم أي تقرير بعدم المهنية والموضوعية لحجج ضعيفة وعلينا أن نستعد لهذا، بل إنه سيعمد إلى اتهام كل التقارير السابقة بالفبركة اعتماداً على وقوع هذه المنظمة أو تلك في شباك الوياني، وأفضل حججه أن يقول إن المعارضة نفسها أقرت بهذا.
هل يعني هذا أن التقرير منزه وأننا يجب أن لا ننظر فيه بعين نقدية؟ بالطبع لا. ولكن علينا بالحذر وأن نتذكر أن التقرير نفسه هو تقرير استقصائي في النهاية.
بالنسبة إلى موضوع الشلوخ وذكر مجموعة معينة في التقرير من الطبيعي أن يثير حفيظة البعض ولا سيما عند النظر في سياق إقليمي يشمل السودان وإرتريا أيضاً، لكنني لا أجد نفسي منسجماً حتى الآن مع فكرة أنه موجه ضد البني عامر أو مسلمي إرتريا لأن الإحصاء البسيط يقول:
ورد تعبير “الجنود الإرتريون” 58 مرة
ورد تعبير “القوات الإرترية” 10 مرات
ورد تعبير “البني عامر” نصاً في شهادة واحدة من شهادات 41 شاهداًورد تعبير الناطقين بالتغري نصاً في شهادة واحدة من شهادات 41 شاهداًكلمة إسلام وما يتفرع منها (مسلم – مسلمون إلخ) لم ترد مطلقاً في التقرير
حاولت إحصاء عدد المشاهد المذكورة في التقريرفخرجت بنتيجة مدهشة بعد التعب، فمن صفحة 6 إلى صفحة 12 أحصيت أكثر من أربعين مشهداً لم يرد فيها “بني عامر” إلا مرة واحدة فقط، والتقرير من 25 صفحة
وقد ثار البعض من ذكر مجموعة البني عامر في سياق الاتهام، ورغم تفهمي الكامل لأسباب هذا الغضب فإنني أعتقد أنه لا يمكن التمييز بين أبناء المجموعات الإرترية في الجيش، وإنكار أن يعمد بعضهم إلى ارتكاب جرائم واتهام آخرين في المقابل، لأننا هنا نتحدث عن مؤسسة عسكرية بتراتبية معينة أول قواعدها تنفيذ الأوامر، ولأننا أمام جنود يتعرضون بشكل مستمر لبروباغندا النظام في غياب تام لأي معرفة بحقوق الإنسان وقوانين الحرب.. لكن في النهاية التحقيق النزيه والشفاف هو الحل لكل هذه الهواجس.. إن أثبت التحقيق مسؤولية البعض فليكن وليتحملوا نتيجة ما اقترفته أيديهم.
وفي سياق الانتقادات الموجهة إلى التقرير أود الحديث هنا أيضاً عن حجة أخرى شككت في التقرير، وهو أنه اعتمد على شهادة مترجم في بوسطن ادعى أنه قسيس ظهر في فيلم وزعم أنه شهد المجزرة في أكسوم، وقد ورد هذا المطعن حتى في بيان للخارجية الإثيوبية، ولكن قبل أيام التقت بي بي سي الأمهرية بالقائمين على الفيلم ووضحوا أنهم منذ البداية أعلنوا عن أن هذا هو فيلم تمثيلي يحاكي معاناة الضحايا، وأن هذا كان معلوماً بالدعاية التي أطلقوها قبل الفيلم، وكذلك أفاد مسؤول في أمنستي البي بي سي أنهم لم يعتمدوا على هذا الفيلم وأن تقريرهم لا علاقة له بكل الضجة المثارة حول الفيلم الذي لم يسمعوا عنه إلا من الضجة في وسائل التواصل.
التفاوت الهائل بين الضخ الذي صاحب التشكيك في التقرير بهذا المطعن وبين غياب توضيح تقرير البي بي سي عن التناول وتركيز الأضواء يكشف، في تقديري، عن أن الحقيقة ليست هي المطمح لكثير من الحملة المستهدفة للتقرير، وأن هناك جهات منظمة تقف وراءها.
بالطبع ليس هذا كل ما طُرح للتشكيك لكنني اخترت نموذجين فقط أحدهما مثل ردة فعل إرترية وآخر تورطت فيه مؤسسة رسمية بشكل مباشر، ووفق متابعتي كان هناك نهج خاطئ ومغرض ربما في تناول التقرير وهو التركيز على جزئيات وتفاصيل تشكك في مجمل التقرير وتصرف الأنظار عن الجوهر، قد يكون للبعض وأنا منهم ملاحظات على التقرير وهذا طبيعي، لكن هذا في النهاية لا ينبغي في تصوري أن يصرفنا عن نقطتين رئيستين يجب الاتفاق عليهما: الأولى أن هناك جرائم حرب وانتهاكات ارتكبت من قبل أطراف ما بغض النظر عن خلفيتها وهذا طبيعي ولم تخل منه حرب من الحروب، وأن المسار الطبيعي لمعالجة هذا يكمن في الدعوة إلى لجنة تحقيق نزيهة تنصف الضحايا وتشير بأصابع الاتهام إلى المجرمين.