في ذكرى رحيل القائد أحمد محمّد ناصر (أبو بردى) بقلم:عبدالفتّاح ودّ الخليفة 30 مارس 2017
30-Mar-2017
عدوليس ـ ملبورن
كتب هذا المقال فى أيام رحيل القائد (أحمد محمد ناصر ) وحينها بحثت عن مجلة الثورة التى إختفظت بها سنينا طوال وكان على غلافها صورة للشهيد وهو يخطب ويحيى سكان مدينة (حقات ) الذين إستقبلوه بالحب والحفاوة حين جاء يرأس وفد (جبهة تحرير إرتريا ) للتفاوض مع قيادة الجبهة الشعبية … ولكن تعثر بحثى ولم أجد لهذه الصحيفة أثرا فى مخابئ قراطيسى القديمة فأرسلت المقال إلى المواقع بلا صورة ولكن قبل شهرين عثرت على الصحيفة فراق لى نشر المقال مرة ثانية معدلا وبمناسبة مرور ثلاثة أعوام على إستشهاد القائد …
صبيحة يوم الأربعاء السّادس والعشرون من شهر مارس 2014 إنتقل إلى الخلد بطل من أبطال حرب التّحرير الإرترية هو المناضل والقائد أحمد محمّد ناصر أبوبكر باشا رحمه الله …
فى اللحظات الأولى من سماع الخبر لجمت المفاجئة فمى وفكرى وقلبى وقلمى فتبعثر كلّ شيئ وأبت حروفى حتّى البكاء على صفحات الإسفير… حاولت أن أقنع نفسى بأنّ الموت حقّ و هو الحقيقة الوحيدة والمحتومة لكلّ شيئ حىّ.. وحينها مثل أمامى كلّ الحال وكلّ المآل وكلّ من رحل بلا إستئذان فى ميداين القتال…. منهم (إدريس رمضان) و(دبروم طلّوق) و(حديش ولدى قرقيس) و(عبدالقادر رمضان) و(محمود قدوى) و(أحمد أسمرا) و(شمبل قيّح) و (محمود شكّينى ) و(عبدو محموداى ) و (قمحد إدريس ) و (أحمد وللو ) و(حسن باشميل) و(يحي جابر) و(جعفر جابر) و(أبراهام تخلى ) و (سعيد حسين ) وكلّ الذين مضوا ليبقى هذا الوطن شامخا صامدا باقيا بإسمه وعنوانه حتّى يرث الله الأرض ومن عليها …. مثل أمامى كلّ جحافل الشهداء الّذين وريت أجسادهم وديان إرتريا وروابيها بلا صلاة ولا كفن… ولكنهم نثروا عظامهم فى الأرض التى من أجلها حاربوا وقاتلوا ، لتحكى لكلّ الأجيال وكلّ الأزمان أسطورة الحرب والسلام فى إرتريا من أجل صناعة وطن آمن وسالم من الكسور والفجور……ومثل أمام عينى كلّ الذين رحلوا غدرا و رفات عظامهم فى طوابير الإنتظار على أمل العودة إلى مدافن الشّهداء فى ربوع الوطن وزاد العبئ والأسى حين أضيف إليهم فى يوم الأربعاء الحزين قائدا ومقاتلا ومعارضا حتّى آخر رمق هو المناضل (أحمد محمّد ناصر أبوبكر باشا ناصر) …
الطفل (أحمد محمّد ناصر ) ولد فى إحدى مرافئ الثورة والثّوّار قديما وحديثا قرى (ديعوت ) وجاء وهو يحمل إلهام المكان إلى (عدّى قيّح ) وفيها ليكمل عمر الصّبا و ليدرس الإبتدائيّة والمتوسّطة ودروس فى علوم الوطن والمواطنة من متخصّص هو جدّه ( ناصر أبوبكر باشا) فجاء ممتلئا حبّا ووطنيّة إلى (قزابرهانو- أسمرا) وإنتسب فيها إلى (ثانوية الملك) فى بداية الستّينيات فكانت المحطّة المفصل و الخيار المصيرى وبتوفيق من الخالق إختار الصّواب وأهدى نفسه وشبابه لوطن الصّمود الذّى صنعه الجدود فى إحدى زوايا ومراتع صباه وميلاده ……
وفى (أسمرا)_ (ثانويّة الأمير) و(ثانوية الملك)_ هاج وماج الحراك الطّلابى فأنجب رجالا أصبح بعضهم نجوما وآخرون فؤوسا على رؤوس المستعمر ، وبجهده وجهد رفاقه غابت شمس الإستعمار وأشرق فجر الحريّة الّذى أثقل المهام المتبقية على كاهل أحمد ناصر ورفاق أحمد ناصر… ،و كلّ رفاق الفصول يذكرون الشّاب الفاضل (أحمد ناصر) بحسن الخلق وطيب المعشر وشيمة الوفاء للنّاس والوطن، يذكره (قرزقهير تولدى) و (عبدالله حسن ) و(ولديسوس عمّار ) بكلّ ما هو طيّب ليس هؤلاء فقط بل كلّ من سبق ومن لحق بركب الوطن والثورة إلاّ من شذّ وإختلف…. فكان أحمد ناصر نموزج للتفانى وخير خلف للآباء والجدود صنّاع الوطن….
لا أدرى من بقى من هؤلاء رفاق النّبل ومقاعد الدّراسة فى الحكم أو فى اللجوء والمنافى بعيدا فى عواصم الشّتات يحلمون بيوما تشرق فيه شمس الإنعتاق بعد رّحلة البحث المضنية عن الحريّة وإزاحة الكابوس الوطنى الذى جسم على صدر البلاد…..
رحمك الله يا (أبوبردى) فجيلك جيل التضحيات وجيل البطولات لم يهنأ يوما بالأمان، من مطاردة أمن (تدلا عقبيت ) فى السّتينيات ، ثمّ مطاردات أمن السّودان فى السّبعينيات ، وفى ثمانينيات القرن الماضى وحتّى التحرير الكامل مطاردات بعضا من رفاق الفصول وثانويتى أسمرا، وجهازهم المخابراتى الغدّار و الجرّارا كان همّه تغييبك ورفاقاك كما فعلوا بـ (مكئيل قابر) وشهيد (حىّ السجانة (هيلى قرزا إسحاق) وشّهيد (كسلا) العصىّ على الموت (سعيد صالح)و (عثمان عجيب) والقائد (سبّرى _ ولدى داويت تمسقن) وخبير حرب العصابات القائد (إدريس هنقلا) وقائد قوات العرمرم (محمود حسب ) ( والمناضل الوطنى النّطيف قبرى هيوت والمشهور بـ “قبّار ) والمناضل (قرى طادق ودّى باشاى ) والمناضل (ولدى ماريام بهلبّى ) والمناضل (إبراهيم على ) فمن يجهر إذن بأحقيّة الإنتماء لهذا الوطن المفجوع مثلكم ومن يستحقّه غيركم!!!!!!!
الشّهيد أحمد ناصر أمّا عن خلقك وتواضعك فأتركه للذين عاشروك من أبناء شعبك الوفى فى كلّ بقاع إرتريا وروابيها ورفاقك فى لجنة تطوير التّنظيم و رفاقك فى المجلس الثورى الأول والعام 1971 ثم رفاقك الآخرين فى المجلس الثورى واللجنة التنفيذية بعد المؤتمر الوطنى الثانى فى العام 1975 و رفاقك الذين حملوا معك راية تصحيح الدولة وإحقاق الحقّ وإبطال الباطل حتّى يوم رحيلك عنّا فى صبيحة يوم 26 من شهر (تقوروبا) شهر إنتصارات وبطولات (جيش التّحرير الإرترى) الذى أنت أحد صناديده وأبطاله. نم هانئا غرير العين فقد غرصتَ جذوة لا تنطفئ وإرثا لا يفنى وراية لا تسقط أبدا،سوف يحملها عنك الجيل الصّاعد جيل التّحديات الكبرى على مصير الوطن المنكوب ، فقد أوصلتها وسلّمتها بصدق وتفانى وأمانة ولم تغفل عنها يوما واحدا أبدا……
الشّهيد (أحمد ناصر) كانت الفرص كلّها تطير من أمامى وأنا أريد أن أسمع منك أخبار رحلة (موسكو) و(برلين) ورحلاتك الماكوكية فى طلب الوحدة فى (الخرطوم ) و (هواشايت) و(حقّات) و (كرن) ورحلتك إلى السّاحل فى الثمانينيات …
مرّة كنت عائدا من (أب حاشيلا) إلى (ساوى) وأنت وجهتك (فورتو القاش) – مربض الأسد عواتى- ومقرّك الرّئاسى وقفت طالبا أحد القياديين كان معنا فى الناقلة لم يهبط ليستقبلك بل هبطت أنت لتواضعك وبساطتك …والفرصة الثانية لملاقاتك كانت يوم (أتيت إلى مدينة (حقّات) فى العام 1978 فى أيّام وسنين هرولة البحث عن الوحدة لأنّ الحال كان قاب قوسين أو أدنى من الإنتصار.. جِئْتَ هناك لملاقات رفاقك القدامى من ثانويات (أسمرا) فى التنظيم الآخر علّهم ينحنوا لمطالب شعبهم ويطردوا وساويس الشّيطان، أضربت مدينة (حقّات) عن العمل وأقفلت الحوانيت وكلّ المرافق إحتفاءا بك، كنتُ هناك وسمعت هدير الجموع تصرخ و تهتف:
واصل واصل يا أحمد ناصر
واصل واصل يا أحمد ناصر
يا منقستو يا جبان أحمد ناصر فى الميدان
هرعتُ إلى مكان الجموع الهائجة لم أستطع الوصول إليك ولا التبرّك بقدومك إلى عاصمة منطقة ميلادى لأنّ أبناء شعبك والمقاتلون أصحاب السّواعد الميمونة كانوا قد أحاطوا بك بالألوف ومن كلّ صوب حبّا فيك ولتأريخ مشرّف وناصع جاء إليهم بقدميه يمشى هنيئا لهم….. ووفد الحوار الآخر والنّد المنافس كان فى الجزء الشّرقى من المدينة تحرسه قوات مدجّجة بالسّلاح والمدرّعات ينتظر الإشارة للقاء ولا يأنسه أحد فى المدينة لأن الحبّ والقبول إن أرغمته لا يأتى ، وإن طبْت نفسا يأتيك مهرولا…..
الشّهيد أحمد ناصر لا زالت صورتك عالقة فى ذهنى وأنت تحادث القوم وتخطب فيهم وعليهم من على (سيّارة لاندروفر) فى وسط الطّريق العام وعندما أكملتَ كلمتك لم يتركوك لتمضى حيث شئت إلى مقرّ الإجتماع خلف السّوق، ولكنّك غادرتهم وهم لا يزالون يهتفون.. واصل واصل يا أحمد ناصر… فقد كان حبّهم لك وللجبهة سرمديّا وعفويّا وإحدى محطّات رومانسيّة الثورة المجيدة…..
الشّهيد (أبو بردى) كنت أريد أن أقول لك ،لا زال قائد (سرّية الحراسة) فى ذالك اليوم الأغرّ فى مدينة (حقّات ) المناضل (أبوبكر إدريس {فانا}) (1) يحتفظ بالصورة التى نشرت لك إلى كلّ بقاع العالم وعلى غلاف مجلّة (الثورة) وهو معك بمدفعه الرّشّاش يحميك ويحرسك، وكلّ يوم يأتى فيه الحديث عن الثورة يخرج مجلة الثورة من حقيبة ملابسه القديمة ليقول لسمّاره ،”أنظروا لقد حرست يوما قائد الثورة وإحتفظت بالصّورة لتكون لى شهادة وبيّنة إن جاء يوم الإنكار أو نكران جمائل (جبهة تحرير إرتريا) حالى مثل جنود الطليان الذين فقدوا هوياتهم وأوراق ثبوتياتهم فى الإحتراب فنكرهم الطليان لأنّهم لم يجدوا ما يثبتوا به خدمتهم للطّليان إلاّ قصاصات بواقى ورق قديم أو كروت تموين…… وحتّى لا يتكرّر ذالك معى إحتفظت بالصورة فى حقيبتى والموقف فى ذاكرتى، وعندما أعود من اللجوء من معسكرات (بادوب-السّودان ) إلى بلدى ستكون تلك شهادتى وقرينة نضالى….عندما إلتقينا فى مهرجان الجبهة فى (كاسل) كنت أودّ أن أحكى لك كلّ ذالك وكثير غيره، لكن كان محبّيك الكثر إستهلكوا كلّ وقتك وشاء القدر أن لا نتحدّث…
عاشرت كثير من مناضلين عرفوك فى الميدان حكى لى أحدهم عن مدى صبرك وجلدك مع المقاتلين الذين خالفوا القيادة فى كثير من كتائب الجبهة فى العام 1977 فى (تكرريت) و(كيرو) وغيرها من مواقع جيش التحرير الإرترى البطل كنت تحاورهم ليعودوا إلى الصّواب وإلى التنظيم وهم يرفضون ويقدحون، أمّا صبرك على الجنود فى الثورة الكبرى والتمرّد فى (كركون) و(تهداى) فقد حظانى ربّى لأكون شاهدا على جزء منها ، فقد تعلّمت حينها كثير من أمثال التقرنية وأهازيجها تذمّك وقيادة الجبهة وأنت كما أنت تحاور وتشاور وتقنع .. كان يغْضبُ البعض لصبرك وتحمّلك والبعض الآخر كان ينتشى معتقدا أنّه قارع قيادة الجبهة وأنت كما أنت صابرا قادرا على تحمّل كلّ ذالك من فعل ذالك غيرك…..
رحمك الله فقد حزن لرحيلك كلّ إرترى حرّ وتوحدّ الكل فى يوم رحيلك ورثوك شعرا ونثرا فى أىّ موقع يوجد فيه إرترى خارج أرضه إلاّ (مسكرّم) ، سوف يظلّ حزنى وحزن كثيرين غيرى عميقا باقيا حتّى ينقل رفاتكم أنت وكلّ عظماء الوطن إلى مدافن الشهداء والعظماء والأوفياء فى إرتريا الحبية بإذن الله، رحمك الله بقدر حبّ شعب إرتريا لك وبقدر جهدك ووفاءك ونضالك لهذا الوطن المفجوع إرتريا ، أعزّى أسرتك الصغيرة وأم (بردى) المناضلة وأعزّى أسرتك الكبيرة (أسرة جبهة تحرير إرتريا) فى كلّ الشّتات و أعزّى كلّ الشّعب الإرترى الأبىّ بمناسبة هذا الفقد العظيم وإنّا لله وإنّا إليه راجعون….
هامش
1- المقاتل قائد سريّة الحراسة لقيادة (جبهة تحرير إرتريا ) ا فى يوم جلسة الحوار حول الوحدة مع قيادة (الجبهة الشعبية ) (أبوبكر إدريس حامد-فانا) يظهر فى الصورة وجهه فقط تجت العلم مباشرة.