قراءة في كتاب سيرة المناضل محمد نور أحمد(6)
قراءة عبدالفتّاح ودّ الخليفة

الحلقة السادسة: الثورة المسلّحة – تمرّد حامد عواتي على الحكومة العميلة
أخذنا الأستاذ محمد نور في هذا الجزء من كتابه (من الصفحات 41 إلى 45) إلى الحديث عن خروج القائد حامد إدريس عواتي لقيادة الكفاح المسلّح.
ويبدو للمتتبّع أنّ خروج القائد العملاق “عواتي” والظروف التي سبقت خروجه، فيها اختلاف في التفاصيل.
وهنا نورد القليل مما قيل وحُكي عن الوضع قبل الخروج:
بعد توقيع حامد إدريس عواتي اتفاق السلام مع قائد الشرطة البريطاني “مستر كرانكلر” عام 1951، استقرّ عواتي في قرية قرست جنوب مدينة تسني، ووجد الموافقة من الحكومة الفدرالية ليعمل على حماية الرعاة الإرتريين في بركا والقاش.
وعندما كثرت اعتداءات الشفتا من تقراي والوالقايت والرشايدة، طلب عواتي إضافة مسلحين إلى مجموعته، فرفضت الحكومة الفدرالية طلبه.
بل كان كل ما يهمّ العقيد تدلا عقبيت وممثل الإمبراطور إندلاكاشو ماساي ونائبه بتودد أسفها ولدي مكئيل أن يُسلم عواتي ما بحوزته من سلاح ويستمرّ في دوره الإداري كـ”شيخ خط” في منطقة قلوج قرست.
تواصلوا معه فقط ليخضعوه، وليلقي سلاحه، لوأد فكرة المقاومة المنظّمة والمسلّحة في مهدها، لأنّ دور القائد عواتي كان قد تجاوز حماية الرعاة الإرتريين من الشفتا إلى حماية إرتريا الوطن من الابتلاع الإثيوبي.
أرادوا أن يفعلوا مع عواتي ما فعلوه مع بطل المقاومة في المرتفعات عام 1958، عثمان حجي ناصرو في أكلوقوزاي، الذي كان من أبرز المسلحين المدافعين عن الحق الإرتري والرافضين للتدخلات الإثيوبية في الشأن الإرتري.
أقنعوه بوضع السلاح جانبًا ليعيش حرًا، لكن بعد أن جُرّد من سلاحه، قتلوه أثناء ترحيله إلى أسمرا بأمر من حكومة أسفها ولدي مكئيل.
قُتل المناضل عثمان حجي ناصرو بسلاح الشرطة العميلة، ونفس الطريقة أرادوا تطبيقها مع القائد عواتي، لكنهم وجدوه مقاتلًا واعيًا، حذرًا، صعب المراس.
ولتنفيذ مخطّطهم الخبيث، حاوره وجادله للاستسلام قائد الشرطة في تسني الرائد حينها قري كدان تسفاي، وتواصل معه عبر ممثل الملك “أبي أبيبي” (1959–1961) لإغرائه بالمال، فلم يستجب.
ثم أرسل له تدلا عقبيت، قائد الشرطة في أغردات، المقدّم آنذاك قويتؤوم عقبازقي، ثم تلاه النقيب صالح جمع (شامبل صالح)، وبعده النقيب عبدالقادر محمد علي، وكلهم حاولوا إقناعه بالاستسلام دون جدوى.
وفي بدايات أغسطس 1961، فتح النقيب عبدالقادر محمد علي حوارًا مع عواتي في قرست بينما كانت القرية محاصرة.
انسحب بعد ذلك مع جنوده مانحًا عواتي مهلة، إن لم يستسلم خلالها فستهاجمه الشرطة.
كان لعواتي حينها رجاله الذين يقومون بالمهام الأمنية ويقفون إلى جانبه عند الحاجة، فخرج من قرست في منتصف أغسطس، على الأرجح بين يومي 15 و20، حسب روايات سليمان دارشح، ألم سقّد تسفاي، سليمان آدم سليمان، وهيلي سلاسي ولدو.
ويذكر الأستاذ محمد نور أنّ ليلة حصار القائد كانت ليلة الأول من سبتمبر 1961، غير أن روايات أخرى تخالف هذا التحديد.

عواتي وإعلان الكفاح المسلّح وأول معركة في جبل أدال
هنا أيضًا يظهر التباين في سرد وقائع فترة الاستعداد للخروج ويوم الخروج نفسه، فهناك فرق أسبوعين تقريبًا في تحديد يوم الخروج.
لكن هناك تطابقًا بين ما ذكره المناضل عثمان دندن والمناضل الكاتب هيلي سلاسي ولدو بشأن أول معركة للقائد عواتي مع الشرطة العميلة لإثيوبيا.
وقد أورد ولدو كثيرًا من القرائن والمقابلات التي أجراها مع 63 شخصًا من المشاركين في تلك الأحداث، إضافة إلى بعض أفراد أسرة عواتي، ومنهم من كان حلقة وصل بينه وبين الحكومة الفدرالية.
كما قابل الرائد عبدالقادر محمد علي في معسكر الشقراب، والعقيد قويتؤوم عقبازقي قبل وفاته في الولايات المتحدة.
يذكر عثمان دندن في كتابه معركة إرتريا أن عواتي خرج لإعلان الثورة في الأول من سبتمبر 1961، وهو اليوم نفسه الذي أعلنت فيه جبهة التحرير الإرترية الكفاح المسلح.
ويقول الكاتب إن أول مواجهة عسكرية كانت يوم 29 سبتمبر 1961، وكان مع عواتي 18 مقاتلًا، 8 منهم مسلحون بالسيوف.
قُتل في المعركة 3 جنود إثيوبيين وجرح 5 آخرون، وأُسر من الثوار يومها بيرق حمد.
ويبدو أن هذا هو الخبر الذي نشرته صحيفة زمن في أسمرا في التاريخ نفسه، لكن المعركة الأولى كانت قبل ذلك بثلاثة أيام.
روايات أخرى حول يوم الخروج
في كتاب عواتي… حياته وبطولاته للأستاذ سليمان فايد دارشح (ص 128–138)، وتحت عنوان البطل يطلق شرارة التحرير، كتب ما مضمونه:
بعد فشل خطة سلطات الاحتلال الإثيوبي لاعتقال عواتي، اتضح له أن الظرف لا يحتمل التأجيل، فجمع رفاقه في مساء 15 أغسطس 1961 استعدادًا للخروج.
وكانوا ثلاثة عشر مقاتلًا مسلحين بخمسة بنادق قديمة إيطالية الصنع “أبو خمسة”، وبندقية تركية ذات طلقة واحدة، وبندقية عواتي “أبو عشرة”، إضافة إلى السيوف والخناجر.
ويضيف دارشح أن الحكومة جهّزت قوة من “الفيلد فورس” قوامها 300 رجل، فاشتبكت مع الثوار في معركة حامية صباح الأول من سبتمبر 1961 في منطقة كتاي أدال إلى الغرب من أغردات، فوقع المناضل بيرق نوراي آدم أسيرًا وحُكم عليه بالسجن المؤبد.
مقارنة الروايات
إذا قارنا الروايات، نجد أن رواية الخروج متقاربة بين الأستاذين سليمان دارشح وهيلي سلاسي ولدو، حيث ذكرا أن عواتي تحرك في 17 أغسطس 1961 لإطلاق الشرارة الأولى للكفاح المسلح، وانضمت إليه مجموعة جاهزة حوله، منهم:
- شنقراي عمار بخيت – يحمل بندقية “أبو خمسة”.
- صالح قرجاي – يحمل بندقية “أبو ستة”.
- وهمّد دوحين.
ثم أرسل رسالة للشرطة قال فيها: “خرجت لأنني لا أستطيع انتظاركم جالسًا، ومن يريدني فليتبعني.”
ويواصل هيلي سلاسي السرد قائلًا إن عواتي دخل منطقة كرمداد في ضواحي هيكوتا، واحتمى من الأمطار في مزرعة يملكها أعضاء في البرلمان، لكن أحد العمال تعرف عليه فرفض المبيت هناك.
انتشر الخبر في أنحاء إرتريا، فأصدرت الشرطة بيانًا بتاريخ 26 سبتمبر 1961 نُشر في صحيفة زمن بعنوان أمن البلاد، جاء فيه أن “حامد عواتي” يحمل بندقية رقم (303) ومعه 22 رجلًا بعضهم بلا سلاح، وأن الشرطة تلاحقهم في منطقة كيرو.
ثم تحركت القوات لاعتقاله في مناطق تلئيت، نقيب قاف يمانية، عد قسب، وأنكورتو، حتى وقعت معركة أدال يوم 26 سبتمبر 1961.
معركة أدال
يورد الكاتب هيلي سلاسي ولدو شهادة المناضل كرار آدم حزوت الذي قال إنه في 25 سبتمبر 1961 كان عواتي في مقراييب بمنطقة أتهاي حين علم بأن النقيب يسين بشير يقود قوة في طريقها إليه، فانسحب نحو جبل أدال.
وفي صباح 26 سبتمبر، تحركت مجموعته نحو الشرق، فسمعوا أصوات الشرطة تصيح: “يا حامد، سلّم نفسك!”.
أمر عواتي مجموعة بقيادة شنقراي عامر بخيت بالتمركز غرب الجبل، فواجهت الشرطة وجهًا لوجه، فقتل شنقراي أحد أفرادها وانسحب.
أما عواتي ومجموعته فانسحبوا إلى الغرب، فيما انسحبت مجموعة عبدو محمد فايد إلى الشمال.
وخلال الانسحاب، سقط آدم عثمان بيرق نوراي أسيرًا لأنه كان مريضًا، فكان أول أسير في الثورة الإرترية.
ثم انسحب عواتي إلى جبل كونتوري، فكمَن هناك للشرطة وقتل أحد أفرادها، قبل أن يلتقي رفاقه وينسحبوا إلى عد سقو ثم إلى مراويت تحات، وقد انقلبت نعالهم من كثرة المسير.
يبدو أن الثورة كانت تتابع ما تنشره الصحف الأسمراوية حينها، مثل صحيفة زمن، إذ نجد تطابقًا كبيرًا بين ما ورد في تلك الأخبار وبين ما جاء في كتابي معركة إرتريا وهيلي سلاسي ولدو.
ومن تتبع التقارير والمقابلات، يظهر أن حصار القائد عواتي في قرست لم يكن في سبتمبر كما يُروى، وأن معركة جبل أدال لم تكن في الأول من سبتمبر 1961.
ويختم الكاتب بقوله إن غرضه من عرض هذه الفقرات من كتابات المناضلين دندن، وهيلي، ودارشح هو إثراء ما كتبه الأستاذ القامة محمد نور أحمد، لما فيها من تفاصيل مهمة قد توضح المشهد وتفتح آفاقًا جديدة للبحث والتدقيق.
أما عن موقف حركة تحرير إرتريا من خروج عواتي، فيذكر الأستاذ في الصفحات 43 و46 المساعي التي بذلتها الحركة لإخراج عواتي من إرتريا إلى السودان ثم إلى مصر ليعيش هناك لاجئًا سياسيًا ويتلقى تعليمًا عسكريًا حتى تنضج الظروف للقيام بانقلاب على الحكومة الإرترية المتآمرة مع الإمبراطور.
وحسب رواية المناضل طاهر فدّاب سكرتير الحركة، طلب من الأستاذ ترتيب لقاء مع القائد عواتي عبر فرع الحركة في أم حجر، لكن الفرع رفض لأن ذلك سيكون إجهاضًا للثورة.
ويقول الكاتب إنه دهش عند قراءة تلك السطور بقلم الأستاذ الذي كان الوسيط للقاء، عبر أخوي عواتي إبراهيم وهارون إدريس عواتي اللذين كانا يقيمان في الجانب الإثيوبي من نهر سيتيت.
كما أشار إلى أنه أثار الموضوع مع القائد الكبير محمد سعيد ناود في أسمرا بعد التحرير، فنفى ناود القصة من أساسها، رغم ورودها نصًا في كتاب المناضل طاهر فدّاب.
ويختتم الكاتب بقوله:
“كنت أتمنى لو حاول بعض مؤرخينا الكبار إلقاء المزيد من الأضواء على هذا الموضوع، فقط لفهم تاريخنا كما كان، وكما يجب أن يكون.”

يتبع في الحلقة السابعة…