لماذا أعارض التوريط الارتري في تيغراي؟
بقلم / فتحي عثمان
تماما وكما كان تأثير حرب بادمي تأثيرا مدمرا على ارتريا وشعبها؛ فإن التوريط العسكري الراهن في تيغراي سيكون له تأثيرا أكثر تدميرا على الأجيال الارترية المقبلة. الجراح الغائرة للحرب القديمة لم تندمل بعد، فجاءت هذه الحرب الأخيرة لتنكأها وتبعث سخام الكراهية من جديد. في حرب بادمي تعامل دكتاتور اسمرا مع قيادة الوياني وزعيمها ملس زيناوي وكأن ارتريا اقطاعية خاصة به يديرها كيف يشاء. فالمراسلات بينه وبين ملس زيناوي تكشف ذلك، حيث كان افورقي يكتب له حول المناطق المتنازع عليها في ورق عادي، غير رسمي، وبخط اليد، ولكأنه يتحدث إلى صديق حميم عن مشكلة بسيطة حول سور زريبة أو سياج مزرعة. تغييب كامل للدولة: لا مؤسسات، لا مشاورات، ولا توثيق. هذه المراسلات متاحة على صفحات الصحف الارترية من تلك الفترة خاصة سنوات 1997 و1998. الوياني قبل وأثناء وبعد الحرب انقسموا إلى قسمين: الصقور الذين يريدون إزالة ارتريا واسمها من الخارطة بعمل عسكري شامل، والآخرين الذين رأوا في أن التضييق على ارتريا سوف يؤدي في الأخير إلى إركاعها بدون إراقة نقطة دم واحدة. كل هذا تاريخ قريب يسهل نبشه وتأمل تفاصيله المخجلة والمريعة في آن واحد. اليوم أمراض وأعراض وأحقاد هذا التاريخ القريب تتجدد في التوريط الارتري في تيغراي. أطماع الوياني في ارتريا ليست خافية، وأسفرت عنها حرب بادمي وسياسات اثيوبيا في العشرين سنة التي حكمت فيها الوياني البلاد، وهي سياسة لا محمودة العاقبة ولا مشكورة السعي؛ ولكن هذه السياسات ورغم أبعادها الكارثية لا تبرر التوريط الارتري الأخير في تيغراي لما يلي من أسباب. أولا: أن حرب أبي احمد على قيادة الوياني وعلى شعب تيغراي هي حرب اثيوبية خالصة: سياسيا وقانونيا. ولا يبرر طلب الثأر التدخل الارتري فيها. ثانيا: كان لقيادة الوياني وشعبها طموحهم القديم والمتجدد في تكوين دولتهم الخاصة وذلك عبر اقتطاع أراضي الآخرين، وتأسيس بنية الدولة في اقليمهم وبناء تحالفاتهم الدولية المطلوبة، وكان هذا حقا مشروعا ضمن الدستور الذي صاغوه لكل اثيوبيا، حسب ما خططوا له ورسموه، لقد كان مطلب الدولة الخاصة لتيغراي يخبو ثم يظهر حسب الظروف.
واليوم من حقنا أن نتساءل: ما الذي سيقنع أبناء تيغراي وقيادتهم بالبقاء ضمن إطار اثيوبيا التي حملت عليهم السلاح واستعانت بالأجنبي الغريب، أي الجيش الارتري، عليهم في قتلهم ومطاردتهم؟ وحتى لو لم تقم دولة تيغراي مستقبلا فإن لبنات الحقد والكراهية سيتم جمعها لبناء أحقاد المستقبل ابتداء من اليوم، وانطلاق هذه الأحقاد من عقالها لن يحضره لا افورقي ولا أبي احمد: بل ستدفع أثمانه الأجيال القادمة لارتريا. وكما لم تسلم تيغراي من التدخل الارتري اليوم؛ فإن ارتريا لن تسلم من التدخل التيغراوي غدا. من ينفخون في نار الحرب بحجة “الحرب الاستباقية” وحماية السيادة الوطنية يفعلون ذلك في جهل بدروس التاريخ من ناحية وفي عمى عن استحقاقات المستقبل. وتبرير التوريط الارتري بمفهوم الحرب الاستباقية والوقائية لن يمنع كوارث الغد، بل يزينها ليتم تلقفها دون عناء فكري من السماع. كما ذكرت في أكثر من مرة أن الجيش الارتري كان يكفيه استعادة كل أراضيه وحمايتها من أي عدوان مستقبلي، ومن ثم التفرج على أبي أحمد وقواته ترتكب الفظائع في تيغراي دونما تدخل: في هذه الحالة هل سيلام الجيش الارتري على وقوفه متفرجا أثناء القضاء على أعدائه التقليديين؟ قطعا لا. لكن دكتاتور اسمرا اختار اشباع “احقاد اللحظة” وترك للأجيال المقبلة تحمل وبال قراره وذلك كله باسم الوطن وحماية وحدة اثيوبيا كما قال مؤخرا. ثم لماذا “أصبحت” وحدة اثيوبيا وتماسكها من اهتمامات اسياس الجيوسياسية اليوم؟ وهو الذي طلبت منه المبادرة الامريكية الرواندية في عام 1998 تقديم تنازلات لإثيوبيا لأنها دولة متعددة الأعراق والاتجاهات وإن دخولها في الحرب قد يؤدي إلى تفككها وأن ارتريا دولة مركزية موحدة الشعب والقيادة ويمكن أن عبر التنازلات أن تحفظ وحدة اثيوبيا وتتجنب الحرب وويلاتها، فكان رده مشبعا بالصلف والغرور: “عندما بدأ قادة اثيوبيا الحرب ألم يكونوا يعرفون وضع بلادهم “الهش”؟ هم الذين بدأوا الحرب وهم الذين يجب أن يتحملوا تبعاتها، فلتذهب وحدة اثيوبيا إلى الجحيم.” واليوم يريق السفاح الدم الارتري من أجل وحدة اثيوبيا: فما الذي استجد عنده؟ هذا التحول سببه أن الديكتاتور أدخل ارتريا عنوة ضمن استراتيجية وتفاعلات سياسات اثيوبيا الداخلية، ويبقى السؤال: لماذا؟ أترك لكم الإجابة. للحروب منطق مشترك رغم اختلاف ظروفها؛ والوضع المشابه يذكرني موقف المثقف الملتزم ضد حكومات بلاده عندما تختار الموت على الحياة: لشعبها وللآخرين. ففي سياق حرب مشابه وصف نعوم تشومسكي كتاب “فيتنام: منطق الانسحاب” للمؤرخ الشهير هوارد زن الذي ولد سنة 1922 وتوفي في 2010 بأنه أهم كتبه، رغم أن هوارد زن اشتهر في الولايات المتحدة وعالميا بكتابه ذائع الصيت: “تاريخ شعب الولايات المتحدة” والذي كتبه سنة 1980 والذي مثل تطورا في كتابة التاريخ الأمريكي من القاعدة إلى القمة، والذي قدرت صحيفة نيويورك تايمز ريفيو أوف بوكس بأنه يطبع 100 ألف نسخة سنويا. ففي رثاء ذلك المؤرخ مدح تشومسكي كتاب زن عن فيتنام قائلا عن مؤلفه: “إنه من أول الأشخاص الذين قالوا بصوت عال، وأمام الملأ، وبطرقة مقنعة: أن هذه الحرب “حرب فيتنام” يجب أن تتوقف؛ علينا الخروج من هناك. نقطة، لا شروط. نحن ليس لدينا الحق بأن نكون هناك: إن ذلك عدوان فانسحبوا الآن.” كرر هوارد زن موقفه الشجاع والجريء ضد حرب بلاده ضد العراق في سنة 2003 ووقف ضدها بكل ما أوتي من قوة وحجة ومنطق.
إن التبرير القبيح والمنطق الكسيح هما اللذان تقوم عليهما الحرب أي كان دافعها، غالبا دون تفكر في ديونها ومستحقاتها المستقبلية. ومثلما كان ديكتاتور اسمرا يخاطب الآخرين عن قضايا الأمة برسائل تكتب بخط اليد وفي معزل عن شعبه وحكومته وجنرالاته، فإنه يخوض هذه الحرب تحقيقا لرغبات الثأر وليس لهدف وطني مستقبلي، وفهم أننا يجب أن “نتغدى بتيغراي قبل أن يتعشوا بنا” هو منطق أخذ زمام المبادرة بسبب الخوف والرمي بالنفس في المهالك بدل مقارعة الخطر بالشجاعة والحصافة، ولكأن صدى بيت طرفة بن العبد يتردد هنا: فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي….. فدعني أبادرها بما ملكت يدي. إن الشعوب هي التي تدافع عن أوطانها، والجيوش ليست سوى سيوف حق أو باطل. وكما تغنى الأيقونة إدريس محمد على “أبو خالد”: “شيكناهو لكري إت مدرنا … إساتوم إسات غسنا.” وترجمته ” من يطأ تراب أرضنا فإن سعير نارنا سيطفئ لهيب عدوانه.” أبو خالد كان يغني وهو يضع يده على يد شعبه ويتكئ على جدار مانع من تاريخ وبطولات أمته في صد العدوان. خلال جولات حرب بادمي كانت نقطة الضعف القاتلة هي مناعة البلاد الضعيفة بسبب فيروس الاستبداد، والذي تنبهت له مجموعة الخمس عشر الإصلاحية ولم تضع له، للأسف، العلاج الحاسم. إن ارتريا قوية سليمة المناعة هي الضمان ضد كل عدوان في الحاضر أو المستقبل، وليس هناك حاجة لدفن الآخرين أحياء بسبب مخاوف على سيادة البلاد وهي ترقد مشلولة على فراش المرض بسبب داء الاستبداد. علمنا تاريخ منطقتنا القريب والبعيد أن حروب اليوم هي ديون الغد، والواجب الأوجب هو تسليم البلاد للأجيال القادمة مبرأة من أدواء الداخل وأعداء الخارج. أول ذلك هو محاربة الوجود الارتري في اثيوبيا، التفرغ لدك أعمدة الاستبداد.