ماذا وراء استقالة رئيس الوزراء الاثيوبي؟ صالح م. تيدروس
22-Feb-2018
عدوليس ـ ملبورن
فوجئ الكثيرون باستقالة رئيس الوزراء الاثيوبي هيلي ماريام دسالنج من منصبه على خلفية الاحتجاجات الشعبية الي شهدتها العديد من المدن الاثيوبية وعلى رأسها العاصمة اديس ابابا. البعض اعتبرها ظاهرة صحية في إطار العملية الديموقراطية، قلما نجد نظيرا لها في القارة السمراء حيث يتمسك الزعماء بكرسي السلطة لسنوات طويلة جدا وهم مستعدون للبقاء في هذا الكرسي حتى الأنفاس الأخيرة من حياتهم بل هم مستعدون للقضاء على نصف سكان الدولة في سبيل البقاء على سدة الحكم سواء عبر القتل او السجن او التهجير والامثلة على ذلك كثيرة.
عنصر المفاجأة في حد ذاته – بالنسبة للذين لا يتابعون التطورات في اثيوبيا – دليل على غياب المعلومات حول طبيعة العملية الديموقراطية في اثيوبيا والتي تغنت بها مستشارة الخارجية الأميركية للشؤون الافريقية سابقا (سوزان رايس) في احدى المرات وهي تستقبل رئيس الوزراء الاثيوبي الراحل (ملس زيناوي) في البيت الأبيض. اما للذين يكتفون بالقشور فهي بالفعل ظاهرة جديدة على الأقل في اثيوبيا حيث لا يورثنا التاريخ أي سابقة في التداول السلمي لكرسي السلطة بدءا من (منليك الأول ) مؤسس دولة اثيوبيا الحديثة ووصولا الى (ملس زيناوي) الذي فاجأته المنية بعد ان كرر نفسه اربع مرات على كرسي السلطة.
بعيدا عن ذلك نستميح القارئ عذرا للعودة الى الخلف قليلا لنرى كيف تشكل النظام القائم الآن في اثيوبيا حيث ان معرفة الخلفية التاريخية مهم جدا في تفسير الكثير من الظواهر السياسية في هذه الدولة او تلك. وبحكم ان المعلومات التي نوردها هنا هي معروفة لمعظم الناس سنحاول بقدر الإمكان الايجاز واهمال التفاصيل المملة لان غايتنا هي ربط التطورات الحالية بالخلفيات التاريخية.
عندما تم اسقاط نظام الدرق في مايو من العام 1991 كانت الجبهة الثورية الديموقراطية لشعوب اثيوبيا المعروفة اختصارا بـ (الاهودق) هي القوة الرئيسية التي بسطت سيطرتها على الأوضاع في عموم اثيوبيا. كان تنظيم الوياني (تجراي) هو العمود الفقري لجبهة (الاهودق) رغم وجود جبهات أخرى مثل جبهة تحرير ارومو وتنظيم الامهرا (اهدن) بقيادة تامرات ليني وغيرها. ورغم كثرة القوى البشرية التي استطاعت جبهة الاهودق ان تؤطرها لاسقاط نظام منقستو هيلي ماريام الا انها كانت تفتقر الى القوات الميكانيكية الكفوءة التي تواجه بها ترسانة الأسلحة الفتاكة التي كان يمتلكها جيش الدرق مما جعلها تلجأ الى حليفها في الشمال الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا حيث أرسلت الأخيرة لواءا ميكانيكيا مجهزا ومدربا تدريبا جيدا وهو اللواء الميكانيكي 23 الذي سبق له وان اكتسب مهارات قتالية عالية في معارك تحرير مصوع بالإضافة الى مفارز هندسية ووحدات دعم أخرى لعبت دورا حاسما في هزيمة جيش الدرق والوصول الى اديس ابابا بكل سهولة. بعد سقوط نظام الدرق ظلت الوحدات الميكيانيكة التابعة للجبهة الشعبية مرابطة في ضواحي اديس ابابا ولم تفلح محاولات الوياني لإخفائها عن الأنظار وهذا موضوع اخر سنطرق اليه في مناسبة اخرى. المهم في الامر ان تنظيم الوياني وجد نفسه امام تحدي كبير لم يكن مستعدا له وهو إدارة شؤون هذا البلد المترامي الأطراف (اثيوبيا).
هنا برز دور ملس زيناوي الذي كان حينها رئيسا لتحالف الاهودق كشخصية سياسية استطاعت التكيّف مع المستجدات السياسية وإدارة الملفات المختلفة بحنكة ودهاء حيث تمكن في وقت وجيز من السيطرة على بؤر التوتر المحلية المحتملة خاصة في مناطق الامهرا الذين لم يتوقعوا يوما ان ينتقل الحكم في اثيوبيا الى مجموعة عرقية أخرى، كما استطاع ملس زيناوي ان يسوق نفسه على الساحة الإقليمية والدولية كقائد للتغيير الديموقراطي في اثيوبيا بجدارة واقتدار فحظي بدعم سياسي من دول الغرب والولايات المتحدة على وجه الخصوص حيث بدأت المساعدات الاقتصادية في التدفق الى اثيوبيا مما مكن تحالف الاهودق من تثبيت اقدامه في حكم اثيوبيا.
المبدأ الذي ارتكزت عليه جبهة تحرير تجراي (الوياني) للسيطرة على تحالف الاهودق هو نفس المبدأ الذي اعتمدته أيضا لحكم اثيوبيا وهو مبدأ Divide and Rule أي فرق تسد. في البداية كانت تخشى من المعارضة الامهرية التي قو تؤدي الي زعزعة الاستقرار خاصة وأن معظم كوادر الدولة وموظفي القطاع العام والنخبة السياسة والمدنية والأكاديمية هم من الامهرا حيث حرصت الاهودق على إرضاء الامهرا واسكات نغمة المعارضة المتزايدة من خلال تخصيص حيز كبير من السلطات لحليفها تنظيم الامهرا المعروف اختصارا بـ (اهدن) بزعامة تامرات لايني على حساب جبهة تحرير ارومو الحليف القوي الآخر التي اعتبرت هذا التهميش نكصا بالعهود المتفق عليها حيث أعلنت جبهة تحرير الارومو خروجها من تحالف الاهودق في وقت مبكر من التسعينيات.
ملس زيناوي ومن وراءه تنظيم الثورة الشعبية لتحرير تجراي استطاع ان يقنع بعض كوادر جبهة الارومو للبقاء ضمن التحالف واغراءهم بالمال والامتيازات حيث بدت المسألة وكأن هناك انشقاق في تنظيم الارومو. وفي سياق متصل وضمن السياسة الجديدة التي تبنتها الدولة الاثيوبية والتي تعترف بحق المجموعات العرقية المختلفة في انشاء أحزاب سياسية تمثلها شجع كوادر التجراي بل ومولوا المجموعات العرقية المختلفة مثل السيداما والبني شنقول والقامبيلا وشعوب الجنوب وهرر والعفر والصومال وغيرهم في انشاء تنظيمات وأحزاب خاصة بها تمثلها في الانتخابات القادمة. وبالفعل ظهر على الساحة السياسية الاثيوبية عدد كبير من الأحزاب والتنظيمات السياسية القائمة على أسس عرقية وجهوية ومناطقية شاركت جميعها في الانتخابات البرلمانية الأولى عام 1995 وتقاسمت المقاعد البرلمانية لكن نصيب الأسد كان لتحالف الاهودق (471 مقعدا من بين 547 جملة المقاعد) الذي تمكن عبر هذه السياسة (فرق تسد) من تثبيت اقدامه وتهدئة الساحة السياسية على مدي السنوات الخمسة القادمة. في تلك الفترة بدت الأوضاع وكأنها تحت السيطرة الكاملة لكن النار ظلت خامدة تحت الرماد.
العام 2000 كان أيضا محطة مفصلية في التطورات التي شهدتها اثيوبيا، ليس لأنه العام الذي جرت فيه الانتخابات البرلمانية الثانية او العام الذي انتهت فيه الحرب مع الجارة الشمالية والحليف السابق (ارتريا) فحسب بل لأنه أيضا العام الذي ظهر فيه أكبر انشقاق في تنظيم الثورة الشعبية لتحرير تجراي حيث أعلنت قيادات بارزة في التنظيم معارضتها لنهج رئيس الوزراء ملس زيناوي وهو التطور الذي تزامن مع بروز حركة إصلاحية معارضة لسياسات افورقي في ارتريا او ما عُرف حينها بـ (مجموعة الـ15). ومثلما تمكن افورقي من الانقضاض على المجموعة المعارضة له بمداهمتها ليلا والعالم منشغل بأحداث الـ 11 من سبتمبر، استطاع ملس زيناوي بطريقة ذكية تهميش المجموعة المعارضة له دون الاضطرار الى الاعتقالات التعسفية ومن ثم الانفراد بالسلطة. وفي اطار تصفية الحسابات التي أعقبت هذه التطورات كان لا بد من التخلص من العناصر التي وقفت مع الجناح المناوئ لملس زيناوي من قيادات الأحزاب الأخرى (التابعة للمجموعات العرقية) ومن بينها رئيس حزب الحركة الديموقراطية لشعوب الجنوب ( اباتي بليشو) – احد قيادات الاهودق – حيث حبكوا له مسرحية فساد جعلته عرضة للمحاكمة وهي نفس الطريقة التي اُتبعت سابقا للتخلص من تامرات لايني رئيس تنظيم الاهدن بعد ان بدا صوته يعلو معارضة لسياسات جبهة التجراي وسطوتها على تحالف الاهودق. بعد ان ازيح (اباتي بليشو) من قيادة الحزب حل محله نائبه (هيلي ماريام دسالنج) الذي عينه ملس زيناوي مستشارا له في مكتب رئيس الوزراء. وفي العام 2010 وبعد ان فاز ملس زيناوي بدورة رابعة في الانتخابات البرلمانية أصدر قرارا بتعيين هيلي ماريام دسالنج نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للخارجية ولكن بعد اقل من عامين من صدور هذا القرار جاء الموت المفاجئ لملس زيناوي ليتولى دسالنج مقاليد السلطة كرئيس مؤقت للوزراء الى حين ينعقد البرلمان ويختار رئيسا جديدا للوزراء وفقا لما ينص عليه الدستور الاثيوبي. وبالفعل انعقد البرلمان خلال فترة قصيرة واختار دسالنج رئيسا للوزراء. ذلك ان جبهة التجراي لم يكن لديها مرشح جاهز للمنصب كما ان الاتيان بشخص مناسب قد يستغرق وقتا ولقطع الطريق امام المرشحين الآخرين من الامهرا والارومو الذين يشعرون بان المنصب يستحقهم هم دون غيرهم لجأ أنصار التجراي الي ترشيح دسالنج في المنصب.
هكذا وجد دسالنج نفسه على قمة هرم السلطة في اثيوبيا بالصدفة وهو الذي لم يحلم بذلك يوما، فهو من مواليد عام 1965 في منطقة ولايتا من اسرة بروتستانتية بسيطة حيث تلقى تعليمه الاولي والثانوي في بلدته بمنطقة ولايتا وكان يقضي أوقات فراغه في لعب كرة القدم او مساعدة والده في اعمال الاسرة. ثم التحق بجامعة اديس ابابا ليتخرج بشهادة الباكلوريوس في الهندسة المدنية عام 1988. كما نال شهادة الماجستير من جامعة تامبيري الفينلندية ثم عاد الى اثيوبيا وعمل كإستاد محاضر واداري في مختلف المعاهد والجامعات الاثيوبية.
هذه السيرة الذاتية توحي بانه شخص أكاديمي يجيد حساب المثلثات وقوانين العلوم الطبيعية أكثر من كونه سياسي متمرس وله باع في دراسة علم النفس الاجتماعي. لذا عندما يتم تعيينه في منصب رفيع كوزير او رئيس للوزراء فهذا يعني انه يسترشد بتوجيهات من حوله ان لم نقل انه مضطر لتنفيذ ما يصدر اليه من أوامر في لعبة السياسة القذرة.
شهدت الفترة التي تولى فيها دسالنج مقاليد السلطة أي منذ العام 2012 تنامي المعارضة الداخلية للحكومة التي تسيطر عليها اقلية التجراي خاصة من الارومو الذين يشكلون حوالي ثلث السكان تقريبا. وازدادت سخونة المواجهة بين الحكومة ومعارضيها في العام 2015 مع حلول موعد الانتخابات البرلمانية. وفي هذه المرة لم يكن الارومو هم وحدهم ممن يعارضون النظام بل انضم إليهم الامهرا وبكثافة كبيرة رفضا لنتائج الانتخابات البرلمانية التي ظلت تميل في الغالب لصالح تحالف الاهودق على مدار الدورات الثلاثة بنسبة تزيد عن الـ 90 %. ولم تكن نتائج الانتخابات هي وحدها هذه المرة السبب في تفجير موجة الغضب الجماهيري ضد الحكومة في العام 2015 بل ان خطة حكومية لتوسيع خارطة العاصمة اديس ابابا على حساب أراضي الفلاحين في إقليم اروميا حفزت مئات الآلاف من الجماهير الارومية للاحتجاج على هذه الخطوة خاصة وان المشاعر المعادية للحكومة ظلت في تراكم طوال السنوات التي سبقت ذلك.
رد الفعل الحكومي إزاء تلك الاحتجاجات كان عنيفا وقاسيا حيث قتلت الشرطة بالرصاص الحي أكثر من 900 شخص واعتقلت عشرات الالاف من المحتجين حسب تقارير منظمات حقوق الانسان. وقد كان لهذه الخطوة آثار سياسية سلبية على نظام الحكم في اثيوبيا حيث تعرض لانتقادات وادانات واسعة النطاق من قبل منظمات حقوق الانسان مما ادي الى تراجع المساعدات التي كانت تتدفق على اثيوبيا. وفي نفس الوقت نشطت وسائل الاعلام الممولة من قبل أحزاب المعارضة في كشف زيف العملية الديموقراطية التي يدعي النظام انه متمسك بها. وخلال العام 2016 -2017 تواصلت الاحتجاجات الشعبية في إقليم اروميا بل وامتدت الى مناطق الامهرا مثل قوندار وبهردار لتشكل تحدي كبير لحكومة الاهودق. ونتيجة الضغط المتزايد داخليا ودوليا خاصة منظمات حقوق الانسان والمنظمات الداعمة لمشاريع التنمية في اثيوبيا، اضطرت الحكومة في شهر يناير الماضي لإطلاق سراح أكثر من 6 الاف من المعتقلين الذين تم اعتقالهم على خلفية تلك الاحتجاجات لعل ذلك يساعد على تهدئة الغضب الشعبي المتزايد ويرضي الأطراف الخارجية المهتمة بالشأن الاثيوبي. في الجانب الآخر لم يكن الصقور في جبهة التجراي راضين عن هذه السياسة المهادنة من قبل حكومة دسالنج وشرعوا يوجهون سهامهم الى دسالنج شخصيا ويعتبرنه المسؤول عن هذا التدهور الأمني بسبب تهاونه وتردده في استخدام القوة ضد المعارضين للنظام. ورغم ان هذه الانتقادات لدسالنج كانت تتم في الاجتماعات المغلقة للدوائر الحكومية الا ان بعضها تسرب الى وسائل الأعلام التابعة لجبهة التجراي. ومع استمرار هذه الانتقادات لم يكن امام دسالنج الا تقديم استقالته وتبرئة ذمته مما حدث ويحدث في اثيوبيا. فقد كان وجوده في هذا المنصب عن طريق الصدفة كما أشرنا الى ذلك كما ان عقيدته البروتستانتية (البينطي) تفسر شخصيته التي تميل الى الحلول السلمية اضف الى ذلك ان الخلفية الاجتماعية التي ينتمي اليها (شعب الولايتا في الجنوب الاثيوبي) بعيد عن مركز الصراع الرئيسي للحكم في اثيوبيا الذي يعتبر الامهرا والاورومو والتجراي اركانه الأساسية. اما السؤال عن خليفة دسالنج وكيف سيعالج الملفات الساخنة في اثيوبيا فهذا ما سيكشف عنه المستقبل القريب وحينها سيكون لنا حديث آخر.