ماذا يجري في القرن الافريقي؟ بقلم/ صالح م. تيدروس
21-Jan-2018
عدوليس ـ ملبورن
خلال الأسابيع الماضية حظيت منطقة القرن الافريقي بتغطية إعلامية واسعة من قبل وسائل الاعلام العالمية عامة والعربية على وجه الخصوص وذلك نتيجة عدة تطورات سياسية وتحركات على الأرض وتصريحات صحفية لشخصيات معنية بإدارة الملفات الساخنة. ابرز التحركات التي فجرت الفتيل هي زيارة الرئيس التركي اردغان الى السودان وحصوله على امتياز بإدارة جزيرة سواكن الى امد غير محدد – على الأقل بالنسبة لنا- ثم زيارة الرئيس
افورقي الى الامارات ومن بعدها الى مصر ولقاءاته بزعماء البلدين هناك. وفي الجانب الاخر انعقدت اجتماعات عسكرية بين السودان واثيوبيا في كل من اديس ابابا وكسلا توجت بارسال السودان لوحدات من جيشه الى ولاية كسلا المتاخمة للحدود مع ارتريا والاتفاق على ارسال وحدات اثيوبية الى داخل الأراضي السودانية في إطار التنسيق العسكري بين البلدين.
في الجانب الإعلامي شنت وسائل الاعلام المصرية والامارتية حملة شعواء على السودان لسماحه للجانب التركي بإدارة جزيرة سواكن وصلت الى حد الشتم بالألفاظ العنصرية البغيضة. الاعلام السوداني الذي كان مهتما بالرد على افتراءات الاعلام المصري والاماراتي لم ينسى بدوره ان يوجه بعض الأسهم نحو ارتريا التي اتهمها بالتآمر ضد السودان. فماذا يجري بالضبط؟ وماذا وراء هذه الحملات الإعلامية المسعورة؟
ذهبت التحليلات في أكثر من منحى، حيث رجح البعض بأن هناك بوادر تحالفات جديدة في المنطقة حيث تقف مصر والسعودية والامارات من جانب والسودان وقطر وتركيا في الجانب الاخر بينما تصطف ارتريا في المحور الأول وتصطف اثيوبيا في المحور الثاني. التحركات والزيارات المتبادلة بين الأطراف المختلفة تدعم هذه الرؤية ولكن ذلك لا يعني الجزم بصحة هذا التفسير لان هناك تداخلات ومصالح متبادلة بين الأطراف المختلفة بين أطراف هذا المحور او ذاك لا تسمح او على الأقل تحد من المضي قدما في مثل هكذا تحالفات.
آخرون ذهبوا الى ان هناك محاولة لتصدير النزاع الخليجي الى منطقة القرن الافريقي حيث تتسابق بلدان الخليج الى دعم مختلف دول القرن الافريقي للتحارب نيابة عنها كما هو الحال في اليمن عندما أرسل الرئيس السوداني وحدات من جيشه الى هناك لخوض القتال نيابة عن الامارات والسعودية مع الحوثيين او فيما بينها أحيانا إذا تقاطعت مصالح الامارات والسعودية كما حدث في الجنوب اليمني. هذه الرؤية أيضا يجانبها الصواب خاصة اذا كنا نعرف طبيعة الأنظمة الخليجية وقدرتها على التفكير بهذا الشكل كما ان هناك نوع من المبالغة والتضخيم للدور الخليجي اذا استثنينا قطر الي بدأت تدير ملفاتها بشكل منهجي خلال السنوات الماضية.
البعض -من الارتريين خاصة -تخوف من ان تكون هناك مؤامرة من قبل السودان واثيوبيا ضد الوطن الارتري وذلك بعد تحركات الجيش السوداني بالتنسيق مع الجيش الاثيوبي في شرق السودان ومرافقة ذلك بحملة إعلامية معادية لارتريا في كل من السودان واثيوبيا. وفي هذا الجانب من حق الارتريين ان يتخوفوا خاصة وان حكومة الخرطوم لم تصارح شعبها بحقيقة المهمة التي كلفت بها قوات التدخل السريع الي أرسلت الى ولاية كسلا. ففي البداية أعلنت الخرطوم حالة الطوارئ في الولاية ومن ثم أرسلت الوحدات العسكرية بذريعة جمع السلاح ومكافحة التهريب ولكن لاحقا شرع بعض المسئولين السودانيين في الإعلان صراحة بان هناك تحركات مصرية داخل ارتريا تهدد السودان. هذا الارتباك والتناقض في التصريحات يولد بالفعل حالة من الشك والريب حول المهمة الحقيقية للقوات السودانية المرابطة على الحدود مع ارتريا. وربما يتساءل موطن سوداني بسيط اما كان الاجدى ان ترسل هذه القوات الى منطقة حلايب اذا كانت بالفعل ستتصدى للقوات المصرية!!؟ بعيدا عن هذا وذاك دعونا نقر¬أ التطورات من زاوية أخرى، والملف الحاضر دائما هو ملف سد النهضة الاثيوبي الذي ظل وما يزال يؤرق النظام المصري على مدار السنوات الماضية. والحديث عن هذا الجانب والتفاصيل المتعلقة به كثيرة ولا يسعنا هنا للتطرق اليها ولكن في خلاصة القول ان مصر وصلت الى طريق مسدود في معالجتها وتفاعلها مع هذا الملف خاصة وان اثيوبيا ماضية في مشروعها لإكمال السد، عليه وجد المصريون أنفسهم امام خيارات صعبة فهم لا يستطيعون ان يخوضوا حربا مباشرة مع اثيوبيا نسبة لبعد المسافة وعدم وجود حدود مشتركة بين البلدين. اللجوء الى المعارك الجوية أيضا غير ممكن نسبة لان الطائرات الحربية تحتاج أيضا الى مسارات لتمر فوق الأجواء السيادية لدول أخرى وهذا يفقدها عنصر المباغتة كما ان الاثيوبيين يمكن ان يردوا على القصف الجوي بقصف مماثل يصيب المصريين في المقتل.
إزاء ذلك كان لا بد من البحث عن خيار آخر للضغط على اثيوبيا من خلال تأجيج الصراع السياسي والاستفادة من المجموعات العرقية المختلفة داخل اثيوبيا لإثارة القلاقل وجعل الحكومة الاثيوبية منشغلة ولو الى حين. اللجوء الى هذا الخيار كان واضحا من خلال رصد بعض التصريحات المتعمدة او العبارات التي تنفلت من افواه النخبة المصرية بين الحين والأخر. في مثل هكذا حال من الطبيعي ان يلجأ المصريون الى صديقهم افورقي الخصم اللدود للنظام الحاكم في اثيوبيا حتى يعينهم في دعم وتسليح جماعات المعارضة المسلحة داخل اثيوبيا.
وكان افورقي على استعداد كالعادة للتعاون مع المصريين في هذا الجانب خاصة وان لديه قسما او فالنقل جهازا للتعامل مع حركات المعارضة الاثيوبية حيث ظل هذا الجهاز يشرف على تمويل وتدريب وتسليح جماعات المعارضة الاثيوبية في ضواحي (قلوج) ومن ثم ارسالهم الى العمق الاثيوبي من خلال التسلل عن طريق الأراضي السودانية أي عبر المنطقة الواقعة شمال ام حجر والحمرا وهي أراضي سهلية مفتوحة يصعب السيطرة عليها بسهولة حيث ان كل التحركات كانت تتم اثناء الليل. عندما تواترت معلومات استخباراتية عن هبوط طائرات عسكرية مصرية تحمل مؤنا عسكرية في مطار (ساوا) لم تكن الحكومة الاثيوبية بحاجة الى ذكاء لتستدرك بان تلك المؤن في طريقها الى داخل اثيوبيا عبر تلك الثغرة التي أشرنا اليها، فتحركت بسرعة على محورين، إعلاميا وميدانيا. في المحور الإعلامي تم تلقين الخبر الى مكتب الجزيرة في اديس ابابا ذي الصلة الوثيقة مع مكتب رئيس الوزراء الاثيوبي بإضافة بعض المشهيات والمفردات المثيرة لتتلقفه الجزيرة وتصبح صاحبة السبق الإعلامي ومن ثم يتم ترديده في وسائل الاعلام العالمية الأخرى. اما على المحور الميداني فقد توجهت انظار الحكومة الاثيوبية الى السودان حيث عقدت اجتماعات عسكرية مشتركة على مستوى رئيس الأركان للبحث عن طريقة يمكن بها سد الثغرة التي يتسلل بها المعارضون المناوئون للحكومة الاثيوبية من ارتريا الى العمق الاثيوبي وبالفعل تم الاتفاق على ان ينشر الجانبان بعضا من وحداتهما في تلك المنطقة داخل الأراضي السودانية درء ا لأي محاولات للتسلل. بالنسبة للحكومة الاثيوبية فان التخوفات والتحركات التي قامت بها لها ما يبررها، اما من الجانب السوداني وحتى لا يبدو كشرطي يحرس الحدود الاثيوبية فقد كان يحتاج الى غطاء يفسر به تحرك قواته نحو كسلا سواء بالنسبة لإرتريا او بالنسبة للشعب السوداني. فالنظام السوداني يعلم تمام العلم ان نشر قوات على الحدود الارترية سيدفع افورقي المعروف بالعنجهيه الى ردة فعل مماثلة مما سيؤدي الى اشتباك غير محمود بين الطرفين. وللحيلولة دون حدوث ذلك اوفدت الحكومة السودانية بوفد يترأسه الفريق بكري صالح الى اسمرا لتطمينها والتأكيد لها بان التحركات القادمة للجيش السوداني لا يقصد منها ارتريا. هذه التطمينات المسبقة هي التي جعلت افورقي في مقابلته الأخيرة مع التلفزيون الارتري مرتاح البال ويتحدث عن نشر الجيش السوداني على الحدود مع ارتريا وكأنها مسألة عادية او كأن تلك الحدود لا تعني بلاده كثيرا. اما بالنسبة للشعب السوداني فقد تذرعت الحكومة السودانية بإعلان حالة الطوارئ في ولاية كسلا وسعي الحكومة لجمع السلاح ومحاربة التهريب. وعندما اكتشفت ان ذلك غير كافي لتبرير وجود كل هذه القوات في ولاية كسلا اضطر بعض المسئولين السودانيين للحديث عن وجود مهددات امنية قادمة من اريتريا خاصة وان الخبر الذي تم صياغته في مكتب الجزيرة باديس ابابا يتحدث أيضا عن وجود جماعات معارضة سودانية مسلحة داخل اريتريا.
نستخلص من ذلك ان التكهنات الذي ذهبت الى حد ان المنطقة قاب قوسين او أدني من الانفجار غير صحيحة وان الأطراف المختلفة غير مستعدة نفسيا وعسكريا واقتصاديا لخوض حروب شاملة على الأقل في الوقت الراهن. اما المساعي المصرية لإزعاج الحكومة الاثيوبية قطعا لن تتوقف خاصة وان اثيوبيا مليئة بالثغرات التي يمكن التسلل منها بوجود حدود طويلة مع كل من السودان وجنوب السودان وكينيا والصومال وجيبوتي وإريتريا.