مشاهدات زائر افتراضي من داخل كوخ .. في أحد معسكرات اللاجئين الإرتريين : محمد علي صالح هنتولاي
26-Aug-2014
عدوليس
.. شهادتان أو ثلاث .. لشهداء سقطوا في حرب التحرير .. معلقة على جدار كوخ متواضع في أحد معسكرات اللاجئين الإرتيريين … ترى تحتهما صورة لرجل .. من نفس الأسرة.. توحي ملامح وجهه أنه تجاوز الثلاثين بقليل … كان عائلها .. اختطفته .. أجهزة (الحكومة الإرترية المؤقتة) قبل أكثر من عشرين عاماً .. بعد التحرير بعام ونيف .. تهمته الوحيدة حتى الآن .. أنه كان معلماً في أحد المعاهد الإرترية .. لا تعرف عنه الأسرة شيئاً منذ أن غادرها مقيداً ذات صباح ..
ذهب قبل أن تجف دموعه على شهدائه الذين فقدهم من أجل وطن كان يظنه سيفتح له ذراعيه ويضمه إلى صدره ويواسيه في مصابه الجلل .. لكن المفاجأة كانت قاسية .. اختفى في ظروف غامضة ..
تلتفت إلى من بداخل الدار .. يقع بصرك على عجوز تبدو على قسمات وجهها الملائكي الكثير من الندوب التي خلفتها تلك المحطات القاسية..
يذهب بك الخيال بعيداً وأنت تتأمل وجهها .. فيتحول هذا الوجه في مخيلتك إلى نافذة تشاهد عبرها الكثير من الأحداث تمر بك مسرعة.. في وتيرة متلاحقة .. ثم يأتيك صوتها الذي بدا منهكاً : لعلك تسأل .. أين البقية ؟ ثم تفر من عينيها دمعتان .. تعرفان طريقهما جيداً .. عبر ذلك المجرى الذي حفرته الدموع.. دأبت أن تسلكه كل صباح ومساء .. حتى تصب على جوانب شفتيها .. ثم تتساقط على (طرحت هدري متهالكة) .. لا أظنك رأيت مثلها منذ أكثر من أربعين عاماً ..
يأتيك ذلك الصوت المنهك من جديد: لعلك تسأل أين البقية ؟ ..
تبتلع ريقك مرتين ثم تقول .. نعم أين البقية ؟.. من معك الآن يا خالتي؟
كان معي سليمان .. ابني الأصغر .. هربتُ به عبر الحدود .. بعد أن أمضى سبع سنوات متتالية في الخدمة العسكرية حتى كسرت ساقه اليمني .. جئنا إلى هذا المعسكر ..
وبعد عامين قرر السفر للبحث عن حياة أفضل في أوروبا .. أراد أن يلحق بصديقه عمر .. ابن جارتنا جمعية .. الذي وصل إلى السويد قبل خمسة أشهر .. بعت ما كان عندي من بقايا ذهب (خواتم وغوايش) ..أمّنت له مصاريف سفره إلى ليبيا .. سافر إليها قبل شهر .. ثم .. ثم .. ثم ..
تمسك عن الكلام .. وهي تقاوم شهقة مدوية تكاد تهز جسدها المتهالك .. تتمالك نفسها .. تقاوم البكاء بشدة وبمهارة فائقة .. نعم.. تجيد هذه المهارة .. فقد تعودت عليها على مدى عقود من سنوات عمرها التي تجاوزت الستين عاماً ..
تواصل الحديث: وذات مساء .. قبل أسبوع تقريباً .. طرقت جارتي أم محمد الباب ومعها صويحباتها من نساء المعسكر .. جاء خبر من ليبيا … غرق وحيدي وأنيسي في هذه الدنيا .. جئن ليخففن مصابي في سليمان .. لقد غرق به المركب الذي استقله من السواحل الليبية إلى أوروبا …
هذا من نسج الخيال .. على ما يبدو ..
لكن خذ هذه إلى أي معسكر من معسكرات اللاجئين الإرتيريين .. وحينئذ لن تتعب نفسك في توثيق قصة حقيقية وواقعية لأسرة إرترية تعيش في أحد هذه المعسكرات .. فقط ربما تحتاج إلى استبدال الأسماء (سليمان .. عمر .. جمعية .. أم محمد) بأسماء أخرى حقيقية .. وربما تدعم قصتك بشهادتين أو ثلاث من تلك المعلقة على الجدران .. من شهادات شهداء حرب التحرير في إرتريا..
ألا تتفقون معي أننا نملك مأساة تبكي الحجر ؟؟
!!hintolai@gmail.com