منطقة غرب تيغراي.. قراءة في أبرز معضلات محادثات السلام الإثيوبية
بقلم/ عبد القادر محمد علي / باحث ومحلل سياسي متخصص في شؤون القرن الأفريقي .
بواسطة /تريندز
لطالما كان تحديد تبعية منطقة ولقايت أو غرب تيغراي[1] للأمهرا أم للتيغراي محركاً رئيسياً للصراع في إثيوبيا في السنوات الأخيرة، في حين مثل عقبة كأداء أمام الأطراف المتصارعة في حرب تيغراي نتيجة وضعها ضمن قائمة المطالب غير القابلة للتفاوض ضمن أجندة كل من التيغراي والأمهرا أيضاً. وبنظرة أوسع تكثف هذه القضية مصفوفة الأزمات التي تعانيها إثيوبيا، والمرتبطة بالهوية والصراع العرقي وتفسير التاريخ والنزاع على الأرض وتقرير المصير، بالإضافة إلى البحث المستمر عن السبيل الأنجع لحكم بلاد تزخر بتنوع عرقي كبير.
من جهة أخرى تكتسب مسألة ولقايت/غرب تيغراي أهمية مضاعفة باعتبارها نموذجاً لقضايا مشابهة ولجيوب عرقية ضمن الأقاليم الإثيوبية تفجّرت حولها العديد من أعمال العنف الدامية المهددة بتوسع الشروخ بين مكونات المجتمع الإثيوبي الفسيفسائي.
وبالنظر إلى ما سبق، يبدو إيجاد الآلية المناسبة لبناء صيغة سلمية توافقية لحل هذه المعضلة مؤشراً إلى انفراجة حقيقية وانتقال في الحالة الإثيوبية خطوات نحو حلول مستدامة لمشكلات البلاد المزمنة. وعليه فإننا سنقوم من خلال هذه الدراسة بالتعرض لأبعاد أهمية منطقة ولقايت أو غرب تيغراي، وخلفيات النزاع حول غرب تيغراي بين التيغراي والأمهرا، ثم نتعرض للوضع الميداني للمنطقة، وفي الختام سنحاول وضع سيناريوهات متوقعة للأزمة الحالية وكيفية الخروج منها.
1- أبعاد أهمية المنطقة:
ولقايت أو غرب تيغراي[2] كما يبدو من اسمها تقع في شمال غرب الإقليم حيث يحدها السودان من الغرب، وإرتيريا من الشمال، وإقليم أمهرا من الجنوب والشرق، وتتألف من ثلاث مقاطعات من الشمال إلى الجنوب: الحُمَرة، ولقايت، وتسيغيدي.
تتمتع هذه المنطقة بأهمية فائقة يمكن إجمالها ضمن الأبعاد الآتية:
أ- بُعد الأمن الغذائي: تمتاز المنطقة بتربة خصبة وبموارد مائية مهمة كنهر تيكيزي، ووفقاً لدراسة منشورة عام 2019 بلغ إجمالي الأراضي المزروعة فيها نحو 554996 هكتاراً[3]، كما تنتج محاصيل غذائية واستراتيجية من أهمها السمسم والقطن والذرة الرفيعة، والخضراوات والفواكه والبقوليات، حيث توفر منطقة الحُمَرة وحدها نحو 30% [4]من إجمالي الناتج الوطني من محصول السمسم، كما أن أراضي المنطقة هي الأكثر ملاءمة للميكنة الزراعية[5] بما يؤدي إلى زيادة المحاصيل المزروعة كماً نوعاً.
تزداد أهمية هذه النقطة بالنظر إلى مجموعة عوامل رئيسية يمكن إجمالها في التالي:
1- الهشاشة الغذائية المزمنة التي يعانيها إقليم تيغراي شبه القاحل، الذي يعتمد سكانه على زراعة الكفاف البعلية[6] (المحاصيل الأساسية التي تساعد السكان على تحقيق الاكتفاء الذاتي) ، مما سهّل وقوعه في أزمات تصل إلى المجاعة بشكل متكرر نتيجة عوامل طبيعية أو بشرية، لعل أشهرها المجاعة المأساوية في ثمانينيات القرن الماضي.
2- آثار الحرب المدمرة على الأراضي الزراعية[7] واستراتيجيات الحصار المتبعة من قبل الحكومة الفيدرالية على إقليم تيغراي أكدت الحاجة الاستراتيجية إلى السيطرة على أكبر قدر من المساحات الزراعية، حيث أسهمت المحاصيل المحلية بقدر كبير في بقاء سكان الإقليم مع تعذر وصول المساعدات الغذائية إلى ربع المحتاجين البالغ عددهم 4.5 مليون شخص. [8]
3 – حاجة إقليم أمهرا إلى الأراضي الزراعية بالنظر إلى معاناته من انعدام الأمن الغذائي نتيجة العديد من العوامل كندرة الأراضي الزراعية والجفاف المتكرر والضغط السكاني[9]، وممّا يزيد هذا الأمر إلحاحاً استعادة السودان لسيطرته على منطقة الفشقة الخصبة التي كان يستفيد منها المزارعون الأمهرا خلال عقود.
4- الآثار الكارثية لتغير المناخ حيث تعاني منطقة القرن الأفريقي حالات جفاف أكثر تواتراً وشدة، ومنذ عام 2008 سجلت المنطقة حالة جفاف كل عام تقريباً[10]، وهو ما يدفع بأطراف الصراع الثلاثة (التيغراي، والأمهرا، والحكومة) إلى الإصرار على عدم التفريط بالسيطرة على المنطقة.
ب- البُعد الاقتصادي: إلى جانب أثرها المهم في صيانة الأمن الغذائي فإن منطقة غرب تيغراي تتمتع بميزات اقتصادية لا تقل أهمية، ويمكن اختصارها في الجوانب التالية:
1- تصدير المحاصيل الزراعية: وهو ما يسهم في توفير مبالغ كبيرة من العملة الصعبة، حيث بلغت عائدات تصدير السمسم المزروع في منطقة الحُمَرة وحدها 71 مليون دولار بين عامي 2018 و2019 خلال 7 أشهر فقط[11]، حيث يتم تصدير 95% من المحصول في تلك المنطقة بشكله الخام إلى دول كالصين وتركيا وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية.[12]
2- تعزيز الاقتصاد المحلي: إدخال الأساليب الزراعية الحديثة وتوفير البنية التحتية والتشريعات المناسبة يوفر الفرص للمنطقة للتحول من مصدِّر للمواد الزراعية الخام إلى الدخول في قطاع الصناعات الغذائية بشكل واسع، بما يخلق فرص العمل ويسرّع التنمية المحلية. على سبيل المثال، وفي ظل التنمية الاقتصادية الملحوظة التي شهدها إقليم تيغراي خلال العقود الثلاثة الماضية كان من المتوقع أن يزود مشروع حديقة بايكير للصناعات الزراعية المتكاملة جنوب الحُمَرة مناطق تيغراي الغربية والشمالية الغربية بالمواد الخام، مع جذب الاستثمارات وتوفير فرص العمل وتنمية المناطق الريفية.[13]
3- التجارة الحدودية: يضم غرب تيغراي أحد أهم المعابر التجارية بين السودان وإثيوبيا، وهو ما يمنح المنطقة أفضلية في الاستفادة من التبادل التجاري بين طرفي الحدود سواء من خلال الضرائب والجمارك، أو من خلال التجارة غير المشروعة المنتشرة بشكل كبير وفقاً لبرنامج التعاون عبر الحدود التابع لمنظمة “الإيغاد”[14].
ج- البُعد الجيوسياسي: حيث تعني السيطرة على منطقة غرب تيغراي الوصول إلى منفذ حدودي مع السودان، وهو هدف استراتيجي للتيغراي المحاصرين داخل إثيوبيا بين إقليمي عفر وأمهرا من الشرق والجنوب، وإرتيريا من الشمال على التوالي، وبالتالي فإن الوصول إلى الحدود السودانية يمنح الإقليم قناة للإمدادين اللوجستي والغذائي سواء استمر الصراع المفتوح بين الإقليم والحكومة الفيدرالية من جهة، أو صراعات أخرى بين الإقليم وإقليمي أمهرا وعفر والنظام الإرتيري، تمنع انسياب الاحتياجات عبر أراضيهم من جهة أخرى، وقد كانت هذه القناة الممر الأساسي لإمداد الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي خلال قتالها لنظام الدرغ (نظام الرئيس منغستو هايلي مريام) الإثيوبي خلال ثمانينيات القرن الماضي[15]، كذلك، وفي ظل تصاعد الخيارات الانعزالية داخل الإقليم للتمايز عن إثيوبيا، وصولاً إلى طرح خيار الانفصال عنها لدى قطاعات واسعة التي اكتسبت تأييداً كبيراً في أعقاب الحرب المتواصلة منذ نحو عامين، فإن الحصول على حدود مع العالم الخارجي يمنح فكرة إنشاء كيان تيغراي شبه المستقل وذي صلاحيات الحكم الذاتي الموسعة (في المدى المنظور) أو دولة تيغراي (على المدى البعيد) قدراً كبيراً من الإمكانية والمعقولية[16].
د- البُعد الرمزي: وهو مرتبط بشعور الأمهرا بالظلم الواقع عليهم في أثناء حكم الجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب إثيوبيا بقيادة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي بين الأعوام 1991 و2018، حيث يعتبر القوميون الأمهرا أن قضية غرب تيغراي تمثل ذروة المحاولات للاستيلاء على أراضيهم التاريخية من جهة ومحو هوية سكانها الأمهرا من جهة أخرى[17]، ومن هنا تكتسب هذه القضية عمقاً رمزياً وعاطفياً لدى الأمهرا، حيث كانت أحد عوامل انفجار احتجاجاتهم عام 2016 في وجه الحكومة الفيدرالية المسيطر عليها من قِبل التيغراي[18]، متأثرة باحتجاجات الأورومو، لتؤدي في النهاية إلى إسقاطها والإتيان بآبي أحمد رئيساً للوزراء، كما كانت أحد العوامل الرئيسية في التحالف معه في مواجهة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي ومحاولات محو إرثها السياسي لا سيما إلغاء نظام “الفيدرالية الإثنية” الذي شرعن دستورياً كل ذلك كما سيأتي لاحقاً، وبالتالي استبداله بالمشروع السياسي لحزب “الازدهار الإثيوبي” الذي يقوم على رابطة المواطنة والذي حل محل الائتلاف الحاكم سابقاً (الجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب إثيوبيا)، وصولاً إلى التحالف بين الطرفين (أي القوميين الأمهرا ورئيس الوزراء آبي أحمد) الذي بلغ ذروته من أجل شن الحرب على التيغراي في 4 نوفمبر 2020.
2- خلفيات النزاع حول غرب تيغراي بين التيغراي والأمهرا
ظهرت معضلة غرب تيغراي إلى الوجود مع دستور عام 1995 في إثيوبيا الذي أُقر في ظل حكم الجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب إثيوبيا (EPRDF)، وهي ائتلاف من الأحزاب هيمنت عليه الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي (TPLF) وحكم إثيوبيا ما بين الأعوام 1991 و2018. وتبنّـى هذا الدستور “الفيدرالية الإثنية” فلسفة لحكم البلاد، وتمت إعادة تقسيم أقاليم إثيوبيا وفقاً لخطوط العرق واللغة، وعلى ضوء هذا تم ضم منطقة ولقايت/غرب تيغراي إلى إقليم تيغراي استناداً إلى تعداد عام 1994 الذي نص على أن 97% من السكان من التيغراي.
ومن الناحية التاريخية كانت هذه المنطقة كتلة إدارية واحدة في العهد الإمبراطوري تتبع مقاطعة بيغيمدير أو غوندر في إقليم أمهرا، وظلت كذلك تحت حكم نظام الدرغ الذي أسقط الإمبراطور هيلاسيلاسي عام 1974. بخلاف ذلك تتوارد الحجج والتفسيرات ونظيراتها المضادة بين كل من الأمهرا والتيغراي، والتي تتنوع ضمن مجالات مختلفة منها التاريخ والديموغرافية واللغة.
على سبيل المثال إن نظرنا إلى المنحى الديموغرافي سنجد أن المؤيدين لضم المنطقة إلى إقليم أمهرا يرون أن هناك فجوة كبيرة بين نتائج تعداد عام 1984 الذي خلص إلى أن عدد التيغراي في إقليم أمهرا يبلغ 6%، وتعداد عام 1994 الذي حدد نسبة التيغراي في منطقة شمال غوندر بـ97%. هذه الفجوة يتم تفسيرها بتطبيق الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي سياسة التغيير الديموغرافي من خلال ثلاث قنوات رئيسية:[19]
1- توطين “مئات الآلاف” من التيغراي، الذين لجؤوا إلى السودان إبان الحرب مع نظام الدرغ الإثيوبي، في المنطقة، وإسكان عشرات الآلاف من جنود الجبهة المسرحين في الحُمَرة[20].
2- دفع أبناء الأمهرا من سكان المنطقة إلى مغادرتها باستعمال وسائل كالترهيب والإخفاء القسري ما أجبر الكثيرين على الفرار إلى إقليم أمهرا[21] .
3- “تغرنة المنطقة (أي جعلها تنتمي للقومية التيغرانية)” من خلال إجبار أبناء الأمهرا المتحدثين للغتين على قبول الهوية التيغراوية من خلال فرض التغرينية لغة رسمية وحيدة للتعليم مثلاً[22].
في المقابل يحاجج المؤيدون لتبعية المنطقة إلى إقليم تيغراي بأن فرضية التغيير الديموغرافي لا تستند إلى أسس صلبة لأن تعداد عام 1984 لا يؤيدها بالنظر إلى:
1- هذا التعداد نص على أن بعض المناطق في شمال إثيوبيا لم تتم تغطيتها ومنحَ سكانها حجماً تقديرياً، ومن هذه المناطق ولقايت وتسيغيدي وسيتيت وتسيلمتي الواقعة في ما يسمى الآن بغرب تيغراي[23] .
2- أن سكان المناطق الأربع المذكورة يشكلون 7% من مجموع سكان غوندر فقط، وبالتالي فحتى لو كان جميع سكان هذه الأراضي من التيغراي، فإن نتائج الإحصاء ستنص في النهاية على أغلبية سكانية ساحقة من الأمهرا[24].
بالإضافة إلى ذلك، فإن عمليات إعادة التوطين التي تمت قبل تعداد عام 1994 أدت إلى إسكان 14.288 لاجئاً في المنطقة، ما رفع نسبة السكان التيغراويين الذين تم تسجيلهم في غرب تيغراي في تعداد عام 1994 من 80.7% إلى 87.9%، في حين أن برنامج توطين المقاتلين السابقين في الحُمَرة تم أواخر عام 1994 وبالتالي فإنه لم يؤثر على التعداد[25].
وقد انتقلت قضية غرب تيغراي إلى ساحة الفعل السياسي العلني عام 2015 مع الحراك السياسي الذي أوجدته احتجاجات قومية الأورومو التي اندلعت حينها على الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي المهيمنة على البلاد، حيث انتقلت روح التمرد إلى الأمهرا الذين كانوا يشعرون “بالتهميش والقمع على أساس الهوية”.[26] وهذا التبلور للأمهرا كتيار سياسي قومي منظم وضع غرب تيغراي في قلب اهتمامات هذه القوى، حيث وصفت أزمة ولقايت بأنها “انعكاس لظهور الأمهرا كقوة واعية سياسياً، [و] نقطة اشتعال لنسخة الأمهرا من الصحوة الوطنية”[27].
وقد شهد عام 2015 تشكيل “لجنة قضية هوية ولقايت” التي طالبت بالاعتراف بهوية الأمهرية لسكان المنطقة، ووجهت عريضة إلى المؤسسات الإقليمية والفيدرالية ذات الصلة مطالبة الحكومة بالاعتراف بهوية السكان الأمهرا في المنطقة ومنحهم الحق في ممارسة ثقافتهم، وطعنت في قرار ضمها إلى إقليم تيغراي باعتباره خرقاً من قِبل الحكومة “للقوانين التي وضعتها هي نفسها”.[28] في حين شكلت محاولة السلطات اعتقال دمكي زويدو[29]، وهو شخصية بارزة في لجنة قضية ولقايت، عام 2016 نقطة انعطاف لحراك الأمهرا، أدت إلى انتشار الاحتجاجات في مدن الإقليم، ومنحت حراك الأورومو بُعداً وطنياً ما أدى إلى إسقاط حكم الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي في النهاية.
ويعتبر اعتقال زويدو نموذجاً لطريقة تعامل السلطات مع المطالبات المتعلقة بإعادة النظر في هوية منطقة غرب تيغراي، حيث قرر مجلس الاتحاد بعد تلقيه العريضة معالجة القضية على المستوى الإقليمي وأرسل خطاباً إلى حكومة إقليم تيغراي، التي تجاهلت الأمر في حين ردت السلطات الحكومية، ولا سيما في أديس أبابا وغوندر، بإجراءاتقمعية تضمنت اعتقال قادة اللجنة وحظر الاجتماعات العامة.
وبهذه “التكتيكات الاستبدادية من قِبل سلطات الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي/ الجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب إثيوبيا أُهدرت فرصة حاسمة للتعامل مع القضية من خلال الوسائل الدستورية والسلمية”[30].
يضاف إلى ما سبق أن المعالجة الأمنية وتصاعد الخطاب القومي الأمهري المتطرف أديا في النهاية إلى اندلاع أعمال عنف على أساس عرقي طوال السنوات الماضية في المنطقة، بلغت ذروتها في مرحلة ما بعد اندلاع حرب تيغراي حيث وثقت المؤسسات الحقوقية أعمال تطهير عرقي وتهجير جماعي وانتهاكات حقوقية قام بها أطراف الصراع في العديد من مناطق غرب تيغراي[31].
3– الوضع الميداني للمنطقة:
مع بدء المعارك في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2020 انتزعت القوات الأمهرية الخاصة وميليشيات الإقليم السيطرة على منطقة غرب تيغراي من قوات الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي[32]، ولا يزال هذا الوضع مستمراً وإن تقدم دور الجيش الفيدرالي على حساب الميليشيات المحلية. وبالنظر إلى هذا التغير تحولت السيطرة/إعادة السيطرة على منطقة غرب تيغراي إلى عقبة كبرى في المفاوضات بين أطراف الصراع الإثيوبي، إذ تضعها الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي بشكل متكرر ضمن شروطها غير القابلة للتفاوض[33]، في حين تطالب الحكومة بالتفاوض دون شروط مسبقة كتعبير دبلوماسي عن مخاوفها من أن تمكن مثل هذه الخطوة أعداءها من التيغراي من فتح قناة إمداد لوجيستي عبر السودان.
هذه المخاوف تكتسب بُعداً إقليمياً، حيث ترابط قوات إرتيريا الحليفة للحكومة الإثيوبية على الأراضي الإرتيرية المحاذية للمنطقة للحيلولة دون سيطرة التيغراي عليها في حال شنهم أي حملة عسكرية لاستعادتها[34]، في حين تؤكد تقارير صادرة عن المعارضة الإرتيرية أن أربع فرق إرتيرية كانت موجودة بالفعل داخل غرب تيغراي[35].
وضمن هذا السياق يفسر الباحث تقدم قوات دفاع تيغراي ضمن إقليمي عفر وأمهرا صيف العام الماضي وخريفه بأنه كان مناورة استراتيجية لاستدراج الكتلة الكبرى من القوات المنتشرة في غرب تيغراي بما يسهل عليهم التقدم نحوها، وهي الخطة التي لم تصب النجاح في النهاية نتيجة البسالة التي أبدتها القوات العفرية الخاصة والدعم الإرتيري لها، ما كبد قوات دفاع تيغراي خسائر فادحة واضطرها إلى الانسحاب إلى داخل إقليمها في نهاية الأمر[36] .
4- السيناريوهات المتوقعة:
السيناريوهات المتوقعة لقضية غرب تيغراي لا يمكن فصلها عن التطورات المتعلقة بالمعضلة التي تعيشها إثيوبيا حالياً، والطريقة التي ستعتمدها أطراف الصراع لإخراجها من مأزقها التاريخي الحالي. ومن الممكن بلورتها في إطار سيناريوهين هما:
أ- سيناريو الحل العسكري: يتوقع في حال اندلاع جولة ثالثة من القتال الشامل هجوم قوات دفاع تيغراي في حملة مستميتة على منطقة غرب تيغراي لاختراقها وإنشاء قناة تصلهم بالسودان، ما قد يفتح باب الإمداد اللوجيستي من خصوم أديس أبابا المتطلعين إلى إسقاط حكم رئيس الوزراء، آبي أحمد، أو إضعاف إثيوبيا عموماً، وفي مقدمتهم مصر. لكن الاستعدادات الدفاعية الكبيرة التي وضعتها الحكومة الفيدرالية وشراسة الأمهرا المتوقعة في القتال نتيجة الأهمية الرمزية للمنطقة في الوجدان الأمهري[37]، إلى جانب الموقف الإرتيري الحاسم بالحيلولة دون هذا التحول، سيجعل التكلفة البشرية لمثل هذا السيناريو باهظة، بالإضافة إلى أن امتلاك الجيش الفيدرالي للطائرات المسيّـرة من دون طيار (درونز) ظل نقطة أفضلية أظهرت قدرتها على إلحاق الخسائر الفادحة بقوات دفاع تيغراي في المرحلة الماضية. وإن تمكنت قوات دفاع تيغراي من الوصول إلى الحدود السودانية فإن ذلك سيمهد لإعلان استقلال تيغراي أو تحولها إلى كيان مشابه لحالة غزة، ويكرسها كنموذج للعديد من القوى الانفصالية الإثيوبية. بالمقابل فإن قدرة الحكومة الفيدرالية وإصرارها على الحشد والتعبئة والتسليح سيدخلان البلاد في حلقة من العنف المستمر، قد يؤدي إلى سقوط المجتمع الإثيوبي، الذي يعاني الكثير من التناقضات بين مكوناته العرقية، في “حرب الكل ضد الكل” ما يقود إلى انهيار الدولة الذي سينعكس حالة من عدم الاستقرار في الإقليم بأسره.
ب- سيناريو الحل السياسي: يعتمد تحقق هذا السيناريو على وصول أطراف الصراع إلى تسوية سياسية مرضية، تشكل مدخلاً لعقد اجتماعي وسياسي جديد مؤسَّس على مصالحة شاملة، ويتضمن توافقاً على الفلسفة الملائمة لحكم بلد يعاني الكثير من التعقيدات كإثيوبيا، وعلى آليات صناعة سلام مجتمعي مستدام.
ضمن هذا السيناريو يمكن أن تُحال قضية غرب تيغراي إلى لجنة لمعالجة النزاعات على الحدود الإدارية تكون منبثقة عن مؤتمر المصالحة، وتقوم هذه اللجنة بوضع الآليات الكفيلة ببناء حلول نهائية، بالتشاور مع أصحاب المصلحة والمؤسسات المختلفة ذات الصلة، وتتضمن معالجة قضايا النازحين وتأمين عمليات العودة الطوعية والآمنة أيضاً. في حين يقوم المجتمع الدولي بتقديم الدعم الضروري لأي اتفاق من هذا النوع، بما قد يتضمن نشر قوة أفريقية في المرحلة الانتقالية نحو الحل الشامل الذي قد يكون عبر استفتاء بإشراف دولي، أو أي آلية أخرى يتم التوافق عليها.
في النهاية يبدو من المتعذر ترجيح أحد السيناريوهين نظراً إلى تعقيدات المشهد الإثيوبي الذي تتموضع قضية غرب تيغراي كجزئية مهمة فيه، لكنها في النهاية مرتبطة بحل كلي عسكرياً كان أو سياسياً، ورغم إعلان هدنة استمرت 5 أشهر بدأ التمهيد فيها لخلق أرضية مشتركة بين الحكومة والتيغراي، فإن حالة عدم الثقة العميقة والتباعد في المطالب وضعف الوساطة الأفريقية تزيد صعوبة الاستمرار في المسار السياسي، في حين يظل المشهد مفتوحاً على الاحتمالات كلها.