مقالات

تقرير المصير بين المشروعية الحقوقية والهواجس الإريترية :أبوبكر سليمان إدريس

16-Sep-2010

المركز

ما أن إختتم ملتقى الحوارالوطني الإريتري للتغيير الديمقراطي أعماله وصدور أدبياته – البيان والقرارات والتوصيات – أصبحت مقولة حق تقرير المصير – حتى الإنفصال أو دونه – تتصدر الكتابة الإريترية، رسمية كانت أو إعتبارية، وكأنها عبارة يسمع بها الإريتريين لأول مرة في مفردات لغتهم السياسية والثقافية، رغم أنها كانت عنوانا ثابتا لعقد هام من تاريخنا المعاصر- يبدأ من نهاية الحرب العالمية الثانية وينتهي بالإتحاد الفيدرالي مع إثيوبيا، وتشكل فيه الوعي الوطني والإستقلالي الإريتري، وصارهذا الوعي مرجعية تاريخية للثورة الإريترية في إندلاعها ومنبت دليلها النظري لعقد كامل – مثلما كانت المقولة محل كثير نقاش في يوميات الثورة الإريترية – التي كانت تخوض نضالها تحت شعار ” أن لا بديل عن إستقلال إريتريا التام ” حين كانت تطرح في أدبيات الثورة الإريترية الخارجية عامة، و” البعثة الخارجية ” بصورة خاصة، كحق مكفول للشعب الإريتري إسوة بجميع أقاليم وشعوب المستعمرات، خاصة وأن عوامل محلية وخارجية لم تمكنه من حسم مسألته الوطنية في فترة أربعينيات القرن الماضي .

وطالما كانت المقولة ومدلولاتها بهذا البعد التاريخي في مفرداتنا، فإنه حري أن نقف أمام الإثارة التي تفرضها في واقعنا الحالي، عبر تحليل يتناول الأبعاد التي تحركها، ومن ثم تقديم معالجة بين بعديها النظري والتطبيقي، وهو ما تهدف إليه هذه المقالة في المقام الأول والأخير. •مفهوم تقرير المصير من الوجه التاريخية تشير المصادر التاريخية إلى ظهور هذا المصطلح بإسم مبدء تقرير المصير كبديل ثوري عند بدء إنحسار حقبة القرون الوسطي في أروبا، حيث كانت البلاد والعباد ملكا كليا لأنظمة الحكم التي تستمد مشروعيتها من الحق الإلهي، ويتم الصرف بها وفق مصالح وأهواء هؤلاء الحكام، وكان مضمونه يعبر عن حق وحرية تلك الشعوب في تحديد إنتمائها للدولة وفق إرادتها، وأن لايتم التصرف بها دون مشاركتها في تحديد مصيرها الآني والمستقبلي، وكذلك للحد من الهيمنة الدينية على الدولة المدنية الحديثة الناشئة على مفهوم المواطنة كعقد إجتماعي وسياسي محددين في أروبا . في فترة لاحقة تطور هذا المفهوم ليعني تحديد أيلولة الأقاليم والشعوب التي كانت تتبع الإمبراطوريات الكبرى المهزومة في أروبا– النمسا ، المجر – ثم ليتخذ مفهوم إرتباطه بالأمم لتحديد خياراتها – حقبة عصبة الأمم – كمخرج لمشكلات أروبا وقتها، وللتأكد من إن كانت هذه الأقاليم وسكانها يشكلون مفهوم أمة، حيث كانت الدول تتأسس على الأمة المحددة، ثم إرتبط حق – ظهرت كلمة حق في وثائق الأمم المتحدة لأول مرة، حيث طرحها الإتحاد السوفيتي – تقرير المصير للشعوب بعد الحرب العالمية الثانية، بهدف إتاحة الفرصة لشعوب المستعمرات لبناء خياراتها الوطنية المستقلة، هذا لجهة المرجعيات الدولية. كذلك شهد مفهوم حق تقريرالمصير تطورا كبيرا على المستوى النظري والتطبيقي، بما أسهمت به حركة الإشتراكية الدولية في تطوير مفاهيمه،أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، كما أن التجربة السوفيتية أدخلته في معالجة مشكلات التعدد القومي والثقافي وتفاوت درجة التقدم الإجتماعي والإقتصادي الذي حفلت بها، عبر تطوير نماذج الجمهوريات الإشتراكية، وأنظمة الحكم الذاتي للقوميات والتكوينات ذات صفة الأقلية والتميز الثقافي داخل تلك الجمهوريات. من خلفية السرد التاريخي إن تقرير المصير تدرج من مجرد مبدء عام إلى حق محدد لتحديد الخيارات من هيمنة السلطات الممنوحة إلاهيا، إلى مواجهة الحالات الإستعمارية، وصولا إلى معالجة المشكلات الداخلية للدول، وفق خصائصها التاريخية. بيد أن حق تقرير المصير حتى الإنفصال، إنما طرح لمعالجة مسائل الأمم والشعوب – وهي كلمات ذات مدلول محدد نظريا وتطبيقيا – وإن إمتداد هذا الحق لمعالجة مشكلات التنوع والتعدد القومي في بلدان عالم اليوم يظل محل خلاف حول مداه، وكذلك تجاه كيفية تطبيقه – خاصة حيال القوميات التي تتوزع في أكثر من دولة مثل – الصرب، الأكراد، وغيرهم – حيث لا تخلوا دولة في عالمنا اليوم من خاصية التعدد والتنوع القومي والثقافي، مثلما لا يوجد نموذج محدد لممارسته، وإن البديل الذي تم تطويره هو نظام الحكم الفيدرالي الذي يؤمن مشاركة جميع المكونات وفق نسبتها العامة، وسيادتها على أقاليمها الخاصة تحت سيادة الدولة المعاصرة، عبرتحديد إختصاصات وصلاحيات الحكم الفيدرالي، وحدود صلاحيات الأقاليم وإختصاصاتها، والإختصاصات المشتركة بين المستويين، كضمانة لعدم هيمنة الأغلبيات على الأقليات، أو العكس. •التجارب المستحدثة في تقرير المصير ( التسعينات )شهدت فترة تسعينات القرن الماضي وقائع محددة لممارسة حق تقرير المصير في أروبا، وفي بعض البؤر الساخنة نتيجة للتحولات التي جرت عقب إنهيار المعسكر الإشتراكي، والذي ضم تجارب الإتحاد السوفيتي ويوغسلافيا وتشيكوسلافيا، والتي ضمت وحدة شعوب – تضم عديد قوميات – في كيانات سياسية إشتراكية ، وإن كان للبعد القومي أثر في ذلك، وإن الدول التي جاءت نتاجا لتقريرالمصير– عبر الإستفتاءات المشرف عليها دوليا- إنما أعادت تشكيل أوضاعها السابقة، فالمنظومة السوفيتية صارت دول مستقلة، إما لأنها كانت ذات سيادة معترف بها دوليا – أوكرانيا وروسيا البيضاء- أو ذات وضع خاص – دول البلطيق- أو مارست حقها التاريخي في تقرير المصير، والذي لم تمارسه منذ سقوط الإمبراطورية الروسية – دول القوقاز وجمهوريات آسيا الوسطى – وكذلك للتجربتين الأخريين. في ذات السياق كان ممارسة تقرير المصير عبر الإستفتاء في إريتريا عقب التحرير والذي مثل قانونية الإستقلال الإريتري لأول مرة في تاريخنا الوطني، كما مورس هذا الحق في تحديد مصير تيمور الشرقية وصارت دولة مستقلة وتم إنهاء الإحتلال الأندونيسي لها، حيث سبق لأندونيسيا أن ضمتها إليها بالقوة العسكرية، عقب خروج البرتغال منها عام 1975م. مما سبق يتضح إن المقولة لم تكن غائبة عن خلد الذاكرة الإريترية قديما وحديثا، وإن ظلت فيها تحمل طابعا نقديا، حيث درجنا على تبرير ما حصل فيها من إنقسام لجهة عدم كفاءة القوى السياسية الإريترية وقتها في إنجاز الإستقلال الوطني وإنقسامها بين مطالب بالإستقلال، ومن إختار الإنضمام إلى إثيوبيا، ونتيجة لذلك فإن أدبياتنا – غير المكتوبة – في مرحلة الثورة طبعت بنظرة سالبة لممارسة ذلك الحق بشكل عام، كما إمتد ذلك إلى النظرة الضيقة التي طبعت العمل السياسي عموما – التجارب الحزبية بشكل خاص – في تلك المرحلة، وهو ضلع له إسهامه في التخلف السياسي الإريتري العام الذي يعاش إلى يومنا هذا. بناء على هذه الخلفية إنه من الضرورة النظر إلى تقرير المصير من خلال السياق العام الذي جاء الوطن الإريتري نتاجا له، وعبر التكوينات التي يحتضنها ودرجة تطورها التاريخي، ومن ثم الولوج إلى مشكلات الواقع الإريتري، والهواجس المختلفة التي تثيرها هذه الأطروحة، ومن ثم البحث عن الحلول التي تكون محل توافق بين المكونات، وتحافظ على الوطن ومكتسباته. •الحق وهاجس الوطن الإريتري كنتاج لتشكيل إستعماريإن الوطن الإريتري بحدوده السياسية والسيادية المحددة اليوم هو نتاج التقسيم الإستعماري للمنطقة، وإن الإتفاقات التي جرت بين إيطاليا وكل من : بريطانيا، فرنسا، والحبشة، أنتجت هذه الخارطة الطولية الشكل، وبالتي قسمت وفي كافة الإتجاهات السكان – ودون أن يكون لهم في ذلك خيار- في أكثر من دولة، وبالتالي فإن هذا الوطن إنما هو نتاج مفروض بالقوة، مثلما لم يكن نتاج تطور تاريخي لقوى محلية أو إقليمية فرضت بروز هذا الكيان الجغرافي بخصائصه المتمثلة في التعدد الإنتماء العرقي واللغوي والثقافي والديني، وإنْ كان ذلك لاينفي إرتباطه بتطورات محيطه الإقليمي وتواصله معه، ونعني بهذا خضوعه كله أو جزء منه حسب قدرة القوى المخضعة – بكسر الضاد- من حين لآخر لسلطانها – أباطرة الحبشة، ممالك الطراز الإسلامي، مملكة سنار، وتركيا- مثلما أن هذا لا ينفي وجود أشكال من التنظيم الداخلي بين هذه القوى، وإن لم يرتق إلى نظام حكم متكامل لكل أجزاء الإقليم، ولحقب زمنية معقولة تتيح لمكوناته التمازج والإنصهار الإجتماعي والثقافي الموحد بشكل ظاهر، ولأنها كانت تقع دوما في أطراف الأطراف، ولعوامل ترتبط بنمط العيش فيها – الرعي كمهنة أساسية والحرفيات البسيطة– لم تتحول إلى مركز فاعل على الأصعدة الإقتصادية والثقافية والإجتماعية، وتشكل نمطا حضاريا له مفعلات تطوره اللاحق، وبالتالي لم تنتج مشروعها القيمي المستقل، ولم تشهد حركات توحيدية قوية – كالحركة المهدية مثالا – حتى يفضي ذلك إلى تشكيل إرث تاريخي قادرعلى بناء أيدلوجية وطنية محددة ينتمي إليها الجميع، كركن أساسي في الإنتماء الوطني. ومثلما كانت هذه الخلفية ذات أثر حاسم في وقائع تاريخنا المعاصر، فإنها بالضرورة ستظل تؤثر في وقائع الأحداث الجارية وكذا المستقبلية .. كيف ولماذا .!؟ ليس موضع خلاف إن نشوء وتطور التوجه الإستقلالي في إريتريا، مثلما لم يكن نتاج تطور للقوى المحلية، فإنه أيضا لم يكن نتاجا لتراكم كمي ونوعي لعمل سياسي متواصل طوال الحقبة التي خضعت فيها البلاد للحكم الإستعماري في العهدين التركي والإيطالي، رغم أن البنى التي وفرها ذينك العهدين من تشكيل للمدنية الحديثة في إريتريا، وقدر من الإستقرار الإداري والإجتماعي الذي أوجد مساحة من النماء والتقدم الإقتصادي في حياة الناس، إلا أن ذلك لم يولد قوى إجتماعية لها المصلحة في إدارة البلاد، وتقود العملية السياسية فيها بشكل حاسم عبر حشد المجتمع خلفها. إن الركنيني الأساسيين اللذين إنطلق منه هذا التوجه السياسي الإستقلالي تمثلا في : 1.الخشية من الذوبان في إثيوبيا هيلي سلاس – الإمبراطورية المستحدثة بموروث تاريخي وديني أرثوكسي- ومايمثله من هاجس للمكونات الإسلامية وبقية المكونات الإريترية . 2.الوعي المكتسب في سياقيه، الإستعماري، وما بعد الحرب العالمية الثانية. بالتالي إن هذا التكوين الهش للكيان الإريتري يجعل من الطبيعي وجود خشية دائمة من تفكك وإندثار الوطن الوطن الإريتري الذي أتى عبر تضحيات جسيمة، وإنه من السهولة بمكان أن يثار الشكوك بأقل جهد تجاه أي مطالب تتخذ صفة الخصوصية لأي من مكوناته الإجتماعية والثقافية والدينية، أما البعد الأكثر خطورة في المشهد الإريتري يتمثل في النتيجة المعاشة اليوم – وبعد سبعة عقود من نشوء وتطور الفكر الإستقلالي الإريتري – ما يعكس أيضا في وجهه العام ذات الخشية والهاجس، جراء السياسات الممنهجة التي تنفذها السلطة القائمة في البلاد عبر إقصاء الآخر أولا، ومن ثم تقرنة الدولة الإريترية الوليدة والمجتمع في آن، وفرض التهميش والتهجير على بقية المكونات الإريترية، وبالتالي إن هاجس التذويب في الآخر تعزز- رغم إن مرحلة الثورة في محصلتها النهائية أنتجت إرثا أكد رغبة العيش بين هذه المكونات – خاصة حين لا تبدي القوى السياسية والمجتمعية والثقافية، ذات الأغلبية التقرنياوية، والمناهضة للنظام اليوم موقفا واضحا وصريحا من تلك السياسات الممنهجة – وليس مجرد ممارسات كما نشير إليها في كثير أدبياتنا – وترى في وصف طائفية النظام وشوفينيته إنتقاصا وتشويها للتقرنية كمكون إجتماعي إريتري، عوض أن تتبرأ منه وبصورة تتيح مساحة مقدرة لترجيح عوامل تنمية الثقة بين قوى النضال من أجل التغيير، ومن ثم إنعكاس ذلك على جميع المكونات الإجتماعية الإريترية، هذا في وقت تطرح فيه هذه القوى مجرد القول بإن هذا الوضع سيتغير بمجرد قيام نظام حكم ديمقراطي في البلاد، دون أن تقدم سياقا ودليلا نظريا – برامج تفصيلية تلتزم بالحقوق وتضع خارطة طريق تحدد وسائل تكريسها في دستور البلاد مسبقا – في ظل إستمرارية النظام في سياساته، وعدم وجود أفق منظور لتغييرفيها، ما يجعل الآخرين يرون توحدا في الموقف التقرنياوي بشكل عام في تعامله مع حقوق ومصالح بقية القوى الإجتماعية الإريترية. هذا البعد في الواقع الإريتري يلعب دورا حاسما في بلورة المواقف السياسية الحالية لقوى المقاومة الإريترية، خاصة تلك التي تهضم حقوق قواها الإجتماعية، واحدا إثر آخر وبصورة يومية .ثم إن منتج معادلة إنتصار الثورة وقيام الدولة في إريتريا يعد عودة عكسية لنقطة البدء التي دفعت القوى الإجتماعية الإريترية التي رفعت الإستقلال شعارا كمهرب من الهيمنة والذوبان في الآخر، وكأن النتيجة هي إستبدال هيمنة خارجية بأخرى محلية، لكنها أكثر قهرا وتنكيلا ببقية المكونات الإريترية ، فكيف لا يتجدد الهاجس ويعود أكثر عصفا في الحياة الإريترية العامة .!؟ إن تواصل غياب المعالجة – النظرية والعملية – في الواقع الإريتري الحالي يعمق من حجم الإشكالات، بل إن تطورها اللاحق ينذر بواقع أكثر قتامة وضبابية للمستقبل الإريتري، وإن تطور أزمة النظام مرشحة للتصاعد، وإن إنهيار الأوضاع في البلاد يعد أحد الإحتمالات القائمة، في ظل توفر كل عوامل الدولة الفاشلة في إريتريا. وعليه فإنه ليس في مقدورنا الجزم بعدم تكرار النموذج الصومالي في ظل المظالم الجارية برغم الفوارق القائمة بين الصومال وإريتريا- فالصومال له عوامل وحدة تكوينية أقوى تتمثل في وحدة أصول عرقية، لغة، دين، وإرث تاريخي برغم واقعه المؤلم الحالي– بيد أن القاسم المشترك البلدين يتمثل في المظالم – وظلم ذوي القربى أشد مضاضة من ضرب الحسام المهند – فكيف يبعد عن خلدنا إن تراكمية الأزمات في بلادنا يمكن أن يطورها لما هو دون الوضع الصومالي .!؟ وكيف لايستقيم طرح قضية الحقوق في بلادنا كقضية أساسية في أدبياتنا وبرامجنا العملية، ومنها بالتأكيد مبدأ وحق تقرير المصير لمكونات القوى الإجتماعية الإريترية ، في سياق بحثها لحلول مستمرة لقضايا ومعضلات عيشها المشترك وتنميته لآفاق أرحب .!؟ •الحق ومعضلات التركيبة الإريترية منذ المؤتمر الوطني الأول لجبهة التحرير الإريترية – أكتوبر1971م – ظهر في التوجه السياسي الإريتري أولى المحاولات لتقديم تحليل سياسي للتكوين الإجتماعي الإريتري، على خليفة تحديد الهوية الإريترية وتحديد إنتمائها الثقافي والجغرافي، بين العروبة والأفرقة، حيث إعتبر المؤتمر إن التكوين الإجتماعي الإريتري برغم تنوعه الإثني واللغوي أقل من أن يعد تعددية قومية – وفق شروط التكوين القومي في النظرية الماركسية – واصفا التكوين بـ (شبه القومي) أي ناقص الإكتمال لجهة تكوين القومية / الأمة – والتي تتضمن شروطها الوحدة الجغرافية المحددة للقومية والسوق المشترك المستقل بها دون بقية المكونات – كافلا للقوى الإجتماعية الإريترية حقها في تطويرثقافاتها المحلية، ومكرسا شراكتها الفعلية في تكوين هياكل جبهة التحرير الإريترية القيادية، وفي كافة المستويات، مع رسمية اللغتين (العربية والتقرنية ) في تعامل الثورة والدولة لاحقا، ومثبتا للعلاقات التاريخية والمصيرية لإريتريا بالأمة العربية، وربط الثورة الإريترية تحديدا بقواها الثورية. وللحقيقة فإن الأطروحات التي تلت هذا التوصيف العام للتكوين الإجتماعي الإريتري لم تقدم – إلى يومنا هذا – ما ينقض ماذهب إليه المؤتمر الوطني الأول لجبهة التحرير الإريترية، سوى مجرد إبداء الهواجس كي لا يشرع للتفكك الإريتري، أوالسعي لتجاوزه إلى مفهوم تمام التعدد القومي في إريتريا – تجربة يسار قوات التحرير الشعبية – والذي لم يتجاوز عكسها لهذا التعدد سوى تقديم الرقصات الفلكلورية والبث الإذاعي، ليكون في التحولات النهائية التي شهدها هذا التنظيم – من قوات التحريرإلى الجبهة الشعبية- أداة لتفتيت المكون الإسلامي الإريتري، ويتيح للقوى المسيطرة فرض ثقافتها ولغتها على بقية المكونات كما هو حاصل في تجربة الدولة الإريترية . مما سبق تظل قضية التعددية الإثنية والثقافية واللغوية والدينية حاضرة في الثقافة الإريترية – المكوتوبة والشفهية – تجاه التكوين الإجتماعي، لكن الإختلاف يجري في نعتها بالقومية، وبالتالي مدى الحقوق المترتبة على ذلك( نوعية ودرجة الحكم الذاتي، وتوفر عوامل ممارسة حق الإنفصال وكيفيته)، وكذلك للنتائج التي كرسها الإستغلال السياسي لمسألة الإقرار بالتعدد القومي ( منح الصفة لمكون إجتماعي ذي مشاركة هامشية في الحياة الإريترية-الرشايدة- وتحريمها على آخر – الجبرتة – له إسهامه المقدر في نشوء الفكر الإستقلالي وتاريخه النضالي في الثورة، والمشاركة الفلكلورية فقط وليس السلطة الفعلية، وفرض لغة الأم كسياسة تعليمية لطمس الثقافة العربية في إريتريا، والنتائج المترتبة عليها من تجهيل بقية المكونات الإريترية، وتذويبها ثقافيا في التقرنية ) . هذه الخلفية جعلت من الإقرار بالتعدد والتنوع في إريتريا مربط فرس الرهان في الصراع اليومي، فالقوى التي تتوجس من الإقرار بالتعدد والحقوق تنقسم هواجسها بين الخشية من قفدان البعد الجماهيري – التقرنياوية – رغم سطوح المظالم الجارية في وضح النهار، فيما إن القوى الإسلامية ترى فيها تفكيكا للنسيج الإسلامي الإريتري لتكون التقرنية القوى الأكثرعددا، إضافة للهواجس التاريخية من نزوع بعض القوى للإرتباط بإثيوبيا، كالتقرنية و الكوناما، أو السعي لقيام دولة مستقلة – العفر- بيد أن المسألة ترتبط بما هو أكبر في الواقع الإريتري، حتى في الأحوال العادية، فالإقرار بالتنوع أوالتعدد للموكنات الإجتماعية والثقافية، ونصية حقوقها في العقود الإجتماعية والسياسية، هو ركن أساسي لمفهوم المواطنة في الدولة الحديثة لمجتمعات تماثل واقعنا الإريتري، وبالتالي يكون واجب القوى السياسية إيجاد الحلول المستحدثة للمشكلات التي يأتي بها هذا التعدد، وإن إيجاد الحلول لذلك يمر عبر تقديم التنازلات الواضحة لجهة تنمية عوامل العيش المشترك بين هذه المكونات، وليس مجرد تجييش المشاعر وإستجداء العواطف عبر تذكير الناس بالتضحيات المشتركة نضاليا، بينما يقوم بعض آخر بفرض سيادته على الدولة وتذويب الآخرين في ثقافته . كذلك إن العقود العامة لا تقف عند المشاعر والأحاسيس لهذه القوى أو تلك، وإنما أمام المصالح الدائمة والحيوية للناس، فالنسيج الإسلامي الإريتري – وإن لايغفل دوره في نشوء مفهوم الوطن الإريتري وإستقلاليته- لم يقوى في مرحلة تالية أن يحافظ على وحدة الثورة وأدواتها، مثلما لم يوفر لقوى إسلامية خالصة في تكوينها وحدتها التنظيمية في واقعنا الحالي . وعليه فإنه لا مناصة من تقديم معطيات ملموسة لجهة إستمرارية الرغبة في العيش المشترك بين مكونات المجتمع الإريتري، ويكون لزاما على القوى السياسية الإريترية تقديم ذلك في الوضع الطبيعي ، ناهيك أن تعاني البلاد مما تعاني ، لتضع بذلك أسسا يبنى عليها ثوابت وطنية إريترية حديثة تكون مادة دافعة لقوى المجتمع للتواصل مع المشروع السياسي القائم، وقد يقول قائل إن العمل السياسي لا يعرف الثوابت، وإنما المتغييرات، ورغم صحة المقولة، إلاّ أن الوحدة الوطنية في مرحلة ما – كمفهوم يقوم على المصالح والواجبات المشتركة – لا يتحقق إلاّ بما تكتسبه قوى الوحدة الوطنية من مشاريع مصالح متبادلة بينها، وهو ما يفترض أن تقوم به قوى النضال الإريتري حاليا بكل مشاربها السياسية والمجتمعية والثقافية . •الحق بين المشروعية والتطبيق أشرنا في البدء إن حق تقرير المصير للأمم والشعوب يأخذ مشروعيته بما لديها من عوامل لبناء دولة قادرة على توفير الإستقرار لمكوناتها الداخلية ، وكذا لقدرتها على تنظيم العلاقة مع محيطها الجغرافي، لما يمثله ذلك من أركان أساسية لممارسة سيادتها، وصيانة السلام والتعاون المشترك مع محيطها، وإن مسألة حق تقرير المصير على المستوى القومي أو دونه يظل محل خلاف نظريا وعمليا لجهة قيام كيانات دول مستقلة تماما – لا يوجد نموذج له إلى يومنا هذا – إذ يصعب حصر قومية واحدة في رقعة جغرافية واحدة – إن لم ذلك في جزر منقطعة عن الآخرين بوسط المحيطات – حيث أن الدول الحالية في أغلبها هي نتاج تعدد وتمازج قومي وعرقي وثقافي، وبالتالي إن ممارسة هذا الحق بصورة تؤدي إلى نشوء دولة القومية الواحدة، إنما يتطلب تفكيك نظام الدولة السائد عالميا اليوم، وهو أمر بعيد التحقيق نظريا وعمليا، ولذلك فإن البعد المعني بحق تقرير المصير للقوى دون مستوى الأمة أو الشعوب، إنما يعني عكسها لإردتها الحرة في الإنتماء للدولة المعاصرة، وعليه ذلك يترتب على الدولة صيانة حقوقها المرعية، ومن أهمها: الأرض والثقافة واللغة، وكذلك نصيبها في هياكل الدولة وإداراتها، وفق خصوصيتها ونسبتها العددية، وهذه الحقوق تعتبر من الشروط التكوينية للدولة، وتقر بها الشرعة الدولية الحالية – خاصة في تلك الدول التي نشأت في أغلبية دول العالم الثالث كنتاج للحركة الإستعمارية، إضافة لقيمة الإرادة الحرة في ترسية أسس قوية لها مرجعية في صيانة العيش المشترك بين المكونات المختلفة للدولة.نتاجا لذلك كان تطور مفاهيم أنظمة الحكم الفيدرالي على المستويين الجغرافي والإثني – مناطق الحكم الذاتي داخل الأقاليم الفيدرالية للدولة الواحدة – وهو ما يحقق للمكونات المتعددة إستمرارية تعايشها المشترك الذي ينمو ويتطور بقدرما يوفر هذا النظام من عوامل الدولة الناجحة، والتحديث المستمر لمهماته توافقيا. ومن ثم فإن كفالة الحقوق المشروعة كل لا يتجزء، وإن قدرتنا على إيجاد قواسم مشتركة بين مكوناتنا الإجتماعية، وتطويرها المستمر، هو مربط الرهان الحقيقي لحل معضلات وطننا، ليست الحالية فقط ، وإنما المستقبلية أيضا، وإن عجزنا اليوم أو في المستقبل عن بناء نظام حكم يجد فيه الجميع وجهه، ليس هو من يفرض تفكك الوطن الإريتري، وإنما يمهد الأرضية لما هو أسوء، فالأوطان خيار حرللمواطنين وفق إنتماءاتهم العرقية والثقافية والجغرافية، أما الإنهيار الكامل منتوج الفشل، وهنا الفارق الكبير بين السعي لإنتاج الحلول مسبقا ، وبين إنتظار الكوارث ، وحينها” لن يفلح العطار في إصلاح ما أفسده الدهر” كما يقول المثل . •الخلاصات عليه إن إقرار قضيتي حق تقرير المصيرللمكونات الإريترية – قومية كانت أو دونها- ونظام الحكم الفيدرالي في إدارة إريتريا المستقبل، إنما يأتي كأساس لوحدة وطنية يتم التراضي عليها ، وليس فرضا مسبقا يجب ينتزع من هذه المكونات بقوى خارجية أو محلية، وهو شرط أساسي للتطور الديمقراطي الذي ينشد ، حيث من لا إرادة حرة ومستقلة له، لهو أعجز من يكون شريكا في كيان أو دولة، أنى كان منشأ الحكم والإدارة فيها . إن تكريس مفاهيم إن الإقرار بالتعدد والتنوع في المجتمع الإريتري إنما هو مقدمة لتمزيق إريتريا، لا يختلف كثيرا عن دور من يوفر عوامل الدولة الفاشلة في إريتريا، وإن النتيجة الطبيعية لذلك يعني البناء على أرضية تمور البراكين من تحتها، وهو ما يتوجب على قوى التغيير في إريتريا – وفي مقدمتها بالضرورة السياسية – إداركه الآن وقبل فوات الأوان. كذلك إن كثيرا من خفوت بريق القوى السياسية في بلادنا إنما مرجعه هو بعدها عن تقديم رؤى حديثة للمجتمع الإريتري في معالجتها لقضاياه الموروثة والمستحدثة، ولذلك نتج عزوفه عنها، وإن المقدمة الطبيعية لتغيير واقع الجمود الذي نعاني إنما يتم بطرق القضايا الأكثر تأثيرا في الواقع الإريتري، ولذلك كان من الطبيعي أن تطرح القضايا مثل حقوق القوميات ومظالم المسلمين وضرورة تحديد نمط الحكم المراد قيامه في إريتريا في ملتقى الحوار الوطني للتغيير الديمقراطي ، ومن المستغرب إن حقائق الجلسات التي جرت في الملتقى تثبت إن هذه القضايا وجدت قبولا كبيرا من كل المشاركين، أنى كانت مشاربهم الإجتماعية والثقافية والتنظيمية، ومحاضر جلسات اللجان الخمسة والجلسات العامة شاهد على ذلك- يفترض أن تقوم المفوضية بمراجعة تلك الوثائق وتحدد مواطئ الإجماع وتنشر النسخة المعتمدة لديها – وأن دوافع موقف القوى التي إرتأت تحريك هذا الواقع، لصالح كفالة الحقوق وتحديد إدارة الدولة المرتجاة باللامركزية الدستورية – أي الفيدرالية حكما – والإقرار السياسي بالمظالم الجارية، في مداولات الملتقى ونتائجه، لتضعه – في الحد الأدنى – كمادة تواثق بين القوى المشاركة في الملتقى، كمقدمة لتعميمها بين قوى النضال الديمقراطي الجاري، بينما تعرضت تلك الأوراق والنتائج للنسف المباشر– للأسف وبوقائع ملموسة قبيل وبعد الجلسة الختامية للملتقى – في إعلان الملتقى أو يجري تبرأ بعضنا من بعضها، بدل أن يقدم ما هو أكثر جدوى منها ، علنا نجد فيها مخرجا مما نحن فيه . تحدث كثيرون وكأن الملتقى تم فيه إقرار دستور البلاد القادم- في إسقاط متعمد لطبيعته ، حيث أن الملتقيات كورش عمل تقدم أوراق تبلور مرئيات تساعد في إعداد برامج عمل لمرحلة لاحقة – على الرغم من أن معظم نصوص قراراته تتحدث عن دستور إريتري قادم يجب أن يكفلها ، إلاّ أن البعض آثر الكسب الآني أو الحفاظ الشكلي لما هو قائم، بينما كان يفترض أن يكون المستقبل ديدن الجميع، خاصة القوى السياسية التي يفترض أنها القائدة لنضال التحول الديمقراطي اليوم ، والتي يفترض أنها تقود الدولة في المرحلة التالية المنشودة.! إن ما ذهبت إليه الأجيال من أحكام على القوى السياسية أثناء فترة تقرير المصير في أربعينات القرن الماضي ، لكأنه يجد في بعض مفردات الواقع الحالي تكرارا لما جرى – برغم أن التاريخ لا يكرر نفسه – إلاّ أن وجود مساحة كهذه قد تفضي إلى مزيد من التشرزم السياسي، وإن ذلك يعني في نتيجته النهائية تكريس لمفعلات الضعف السياسي في المجتمع الإريتري، ويكفي واقعنا اليوم دلالة عليه . إن مسؤولية قوى النضال الإريتري اليوم تتعاظم بتعاظم درجة المظالم المكرسة في الواقع ، وإن مواجهة القضايا الساخنة يعد أحد أركان النضال الأساسي في هذا الواقع ، ليتم التوصل إلى تفاهمات وتوافقات تجمع بين البعدين النظري والعملي في حركة القوى السياسية ونضالها اليومي، ويأتي في مقدمة ذلك تحديد القضايا التي يجري مواجهتها ووضع الحلول المنتظرة لها، وأساسها قضايا الوحدة الوطنية والتي يأتي ضمنها المسائل الحقوقية العامة والخاصة، وشكل الحكم المنشود، وأن تأخذ طريقها إلى البلور في برامج محددة بين هذه القوى، ومن ثم تكريسها في الدستور المنشود. لتتفرغ هذه القوى – السياسية وغيرها – إلى مهامها المرحلية التي تنتظرها، ويأتي في مقدمتها تشكيل قوى سياسية قوية وفاعلة لتحقيق التحول الذي تريد، ولكي تكون قادرة على إدارة البلاد في المرحلة الإنتقالية، ومن ثم الشروع في بناء دولة الشراكة والعدالة التي نعد بها. وعلى المؤتمر الوطني الجامع الذي يرتجى عقده تقديم إجابات محددة تجاه هذه القضايا ، بما ينص على إلزاميتها لقوى التغيير الديمقراطي في إريتريا، إلى أن تجد طريقها إلى الدستور الإريتري المرتجى . إن الثوابت الوطنية الإريترية التاريخية والتي أثمرت بروز الكيان الإريتري المستقل أدت مهمتها التاريخية، وإن النقص الذي كانت تتسم لجهة تحديد طبيعة النظام المراد قيامه في إريتريا المستقلة أنتج ثمارا من المرارة إبتلاعها اليوم، وهذا يحتم على قوى التغيير إستكمال هذا النقص في بعض جوانب هذه الثوابت ، وأنها أيضا مطالبة أن تبين بوضوح الفارق بين ثوابتها الوطنية التاريخية ، وثوابت النظام التي تنج كل يوم مزيد أزمات، وهو بعد يلمس جوهر موقفها المعارض ومدلولاته الآنية والمستقبلية . وإذا كانت سمة العمل السياسي هو التغير، فإن ذلك لن يكون دون تطويرتلك الثوابت، وبما يعالج قضايا الموروثات والمستحدثات، خاصة لدى تلك القوى التي تميز نفسها بالحداثة والتطور والتقدم، وعلى ذلك تتوقف قدرتها على جذب القوى الحديثة في المجتمع. إن الدفاع الحقيقي عن موروث الثوابت الوطنية يتم عبر تحديث هذا الموروث ، وتقديم الحلول الممكنة في قضايا الواقع القائم، وهذا هو واجب القوى الثقافية والسياسية في المجتمع، وبه تتطور كقوى قائدة له، آنى كان هذا المجتمع، ولسنا كإرتريين إستثناء عن التجارب الإنسانية الأخرى .. فهل نتعظ من إرثنا السابق لصالح ما ننشد من مستقبل !؟ وهذا هو بيت القصد والقصيد ..! وإلى لقاء !abukito1@yahoo.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى