وداعا أبو خلدون … وتبقى الذكريات حية ! بقلم / احمد أبو تيسير
25-Oct-2019
عدوليس
وداع الأحبة والأصدقاء وزملاء العمل غصة تظل عالقة في القلب طوال العمر، ولو فصل الزمان بيننا وبينهم واوجد فراغ/مسافة عدم التلاقي التي تسمى (الموت) تظل الذكريات بيننا حية لا تموت. يا ليت الزمان يعود واللقاء يبقى للأبد ولكن مهما مضينا من سنين سيبقى الموت هو الانين وستبقى الذكريات قاموسا تتردد عليه لمسات الوداع والفراق. وبين الحين والآخر تفجعنا وسائط التواصل الاجتماعي بخبر عن فقد جلل يهز احشاءنا فتجتاحنا موجة عارمة تبعثر عواطفنا وتضطر اجسادنا ان تتخلص من بعض خلاياها قربانا للفقيد فتنهمر الدموع مدرارا من غير اذن ودون سابق انذار وفاءا لمن احببناهم في حياتنا وفارقونا دون استئذان. الفقيد الذي فجعنا بفراقه الأسبوع الماضي هو الإعلامي والفنان التشكيلي المناضل محمد نور سعيد على رحمه الله رحمة واسعة والهم اسرته وذويه الصبر والسلوان
التقيته لأول مرة في العام 1992، كنا حينها منهمكين في وضع اللبنات الأساسية لوزارة الاعلام بدولة ارتريا للانتقال من مرحلة الإعلام الثوري الى اعلام الدولة المستقلة. انضم الفقيد محمد نور سعيد على -المرحوم بإذن الله تعالى-الى طاقم يضم عددا كبيرا من الزملاء والزميلات-رحم الله من افتقدناهم واطال الله في عمر ممن ما زال منهم على قيد لحياة-لتأسيس نواة التلفزيون الارتري.
كان الجميع مشغول بالدورات التأهيلية والتدريب العملي لتشغيل المؤسسات الإعلامية حيث انخرط الفقيد مع زملاءه في دورة إعلامية حول الإنتاج التلفزيوني أشرفت عليها مؤسسة التر سني (Alter Cine) الكندية استمرت قرابة الثمانية أشهر. تخصص أبو النور -كما كان يناديه صديقه الودود المرحوم محمد إبراهيم دبساي-في مجال المونتاج للقصص الإخبارية التلفزيونية وعمل في هذا المجال لسنوات عديدة تلت ذلك. وفي زخم الواجبات المهنية التي كانت تأخذ جل ساعات اليوم تقريبا بما في ذلك يومي السبت والأحد لم ينسى أبو النور ان يمارس في خلسة هوايته بل مهنته الأساسية وهي الرسم. كانت ينتهز لحظات تناول القهوة في كافتيريا الإعلام ليحضر معه ورقة وقلم ويرسم شيئا وهو جالس بين زملاء العمل. كان غالبا ما يرسم الوجوه التي امامه وهي في لحظة انفعال ليبرز تقاطيع الوجه الناطقة بلغة الفن التشكيلي. وما ان ينتهي من المهمة التي لا تأخذ سوى لحظات حتى يسلم الورقة الى صاحب الصورة فيندهش الأخير بالمفاجأة ويعلق عليها تعليقا ساخرا وينتقل الحديث الى موضوع الصورة والسرعة التي رسم بها أبو النور كل هذه التفاصيل في اقل من دقيقتين. كعادتنا في كل يوم كنا جالسين في الكافتيريا نتبادل أطراف الحديث ولم ننتبه الى أبو النور الذي كان مشغولا برسم شيء ما، حتى فاجأني بمد يده ويسلمني الورقة التي كان يرسم فيها.. انها صورة وجهي، لقد كان يرسمني وانا اضحك بفعل نكتة حكاها لنا المرحوم دبساي.
تأملت الصورة بعناية ولاحظت انه بالغ قليلا في حجم رأسي فقلت معلقا: يا أبو النور ان رأسي ليس بهذا الكبر، هل يبدو لك هكذا ام ان ضرورة الابعاد الفنية للرسم تقتضي ابراز بعض الملامح اكثر من اللازم؟ رد بسخرية بلغة التجري قائلا : (دماغ ودماغ) وتعني اني أبو راس بالفعل، فقلت له ان رأسي ليس اكبر من رأسك فكلانا ينطبق عليه وصف (دماغ). تبدت في وجهه ابتسامة وشرع يحكي لنا عن اول من قال له (انت دماغ). كان ذلك في السبعينيات عندما انتقل من مدينة اغوردات الى مدينة كرن لمواصلة دراسته في مدرسة كرن الثانوية، قال أبو النور: دخل علينا معلم الرياضيات ذات صباح وكان أستاذا قوي الشخصية يهابه جميع الطلاب، حيث استهل الحصة بكتابة بعض معادلات مادة الجبر على السبورة ثم طلب منا ان نحلها بأسرع وقت. وعند انتهاء الوقت المحدد شرع الأستاذ في المرور علينا واحدا واحد ليرى كيف قمنا بالمهمة ولسوء حظي كنت في مقدمة الصف حيث تناول كراستي ووضع عليها علامة خطأ كبيرة بالقلم الأحمر ما يعني انني لم اوفق في حل المسائل الرياضية كلها. وليته اكتفى بذلك بل كان يحمل الكراسة في يده ويحملق في وجهي بنظرة غضب، وبعد هذا العقاب الصامت والقاسي نطق لسانه وليته لم يفعل ذلك، قال لي:
(دماغ ودماغ)
ورغم ذلك لم تحل حتى مسألة واحدة، لماذا رأسك كبير هكذا؟
رغم حالة الخوف والرهبة التي انتابتني قررت ان اجيب على سؤاله بقدر استطاعتي ولا أدرى كيف تمكنت من لملمة ما تبقى لدي من أشلاء شجاعة متناثرة امام شخصيته المهيبة فقلت له متلعثما: ان جدتي من جهة والدتي هي من البلين وهي السبب في كون رأسي كبير.
انفجر الفصل بالضحك المفرط مما اثار حنق الأستاذ واحمرت عيناه من شدة الغضب فتركني وتوجه بنظراته الى طلاب الفصل محذرا إياهم إذا استمروا في الضحك. وبعد لحظات من الصمت عاد الي بنظرته القاسية وقال لي ينبغي عليك ان تحسن من مستوى قدرتك في الرياضيات قبل ان تقفز الى الأنثروبولوجيا. في تلك اللحظة لم افهم ماذا كان يعنى بالأنثروبولوجيا ولكن لاحقا بعد عدة سنوات عرفت انه كان يعنى علم الاجناس والاعراق وعرفت لاحقا أيضا ان الأستاذ كان من قومية البلين وهو السبب الذي جعل الطلاب يضحكون حيث اعتقدوا أنى قصدت الإساءة اليه شخصيا ولكن في الحقيقة عندما اجبت على سؤال الأستاذ لم أكن اقصد الإساءة بل قلت ذلك بكل براءة لأني سمعت والدتي تقول هكذا في احدى المرات فأعدت ما قالته حرفيا ظنا مني انه السبب في كبر حجم رأسي.
ويبدو ان الأستاذ قرأ البراءة في ملامح وجهي فتركني على حالي دون عقاب ومنذ ذلك الوقت ظلت كلمة (دماغ) عالقة بذهني على الدوام. كان أبو النور يحكي لنا مثل هذه الحكايات الجميلة للزمن الجميل ونحن نستمع اليه دون ملل وكانت كرن وسكانها تنال الحيز الأكبر من هذه الحكايات الجميلة. في كل يوم نسمع قصة او نكتة جديدة من تراث كرن الذي لا ينضب فنضحك ثم نعود الى روتين العمل من جديد. موعد تناول القهوة او الشاي في الكافتيريا كان عند العاشرة صباحا او الرابعة عصرا، وعندما يذهب أحدنا الى المقهى في الموعد المحدد يجد ان هناك من سبقوه من الزملاء وغالبا ما كان أبو النور حاضرا في هذه الجلسات. خرجت من مكتبي في عصر أحد الأيام متوجها الى الكافتيريا وفي الطريق قابلني أبو النور خارجا للتو من موقع عمله فقال لي: الي اين؟ فقلت له إني ذاهب الى الحمام فاقترح ان نتناول كوبا من الشاي سويا بعد ان اخرج من الحمام وسيدفع هو تكلفة الشاي فوافقت على الاقتراح وعدت اليه بسرعة فوجدته جالسا في ركن قصي. جلسنا نتبادل أطراف الحديث الى ان جاءت النادلة لتلبي طلباتنا، قال لها أبو النور انه يريد كوبا من الشاي اما انا فقلت لها اريد فنجانا من القهوة.
انتظر أبو النور حتى تذهب النادلة ثم التفت الي وقال:
إني دعوتك الى كوب من الشاي وليس فنجان من القهوة فكيف تتجرأ وتطلب قهوة؟ قلت له: وما الفرق بينهما فكلاهما مشروب ساخن؟
أجاب يقول:
لا لا هناك فرق كبير، كان يجب ان تسألني قبل أن تطلب، ان سعر الشاي هو نقفة واحدة اما القهوة فسعرها نقفة و25 سنتيما ولذا ستدفع بنفسك الـ 25 سنتيما الاضافية.
كنت واثقا تماما انه يمزح معي رغم النبرة الجادة في حديثه ولذا سارعت بالموافقة على دفع القيمة الإضافية لنعرج بأطراف حديثنا الى قضايا أخرى. بعد انتهاء جلستنا جاءت النادلة فأخرج أبو النور ورقة من فئة العشرة نقفة وناولها قائلا خذي من هذه نقفتين وسيعطيك احمد 25 سنتيما، وبالفعل تناولت النادلة ورقة العشرة نقفة واعادت له ثمانية نقفة ثم التفتت نحوي وهي تنتظر حتى ادخل يدي في جيبي.
كنت في تلك اللحظات احملق في وجه أبو النور واتساءل فيما إذا كان يمزح معي ويحاول ان يختبر ردة فعلي ام انه جاد ويعني ما قاله لي. وحتى لا يطول بنا الانتظار بسبب هذا المبلغ التافه اضطررت ان احشر يدي في جيبي واعطي النادلة 25 سنتيما ومن ثم عاد كل منا الى عمله.
عندما وصلت الى مكتبي جلست أفكر في الموضوع واستوعبت الدرس العميق الذي قدمه لي استاذي أبو خلدون فهو شخصية غاية في التهذيب والاحترام واللباقة. صحيح ان مبلغ 25 سنتيما مبلغ تافه ولكنه أراد ان يقول لي هناك آداب وسلوكيات وضوابط ومعايير اجتماعية يجب ان نلتزم بها في المناسبات التي تجمعنا بالآخرين وان اللامبالاة بالتفاصيل الصغيرة مثل عدم الاستئذان او عدم الاعتذار او اغفال التحية او الشكر قد يرسل رسالة سلبية الى الآخرين. ظلت هذه الحادثة عالقة بذهني خلال السنوات التي تلت وقد كانت بالنسبة لي نقطة تحول في ضبط سلوكي الشخصي حتى مع أقرب الناس لي وكان الفضل فيها لأستاذنا الفقيد محمد نور سعيد على أبو خلدون. الإخلاص في العمل والتفاني في أداء الواجبات والانضباط واحترام الوقت كلها صفات تميز بها أبو خلدون بل وكان مثال يحتذى به، فهو كان يعمل يوميا من الساعة الثامنة صباحا وحتى الثامنة مساء أي على مدي 12 ساعة حتى أيام العطل والمناسبات الرسمية دون ان ينتظر شكرا او مكافئة من أحد خاصة خلال السنوات التي عمل فيها مخرجا ومهندس مونتاج لنشرة الاخبار العربية في التلفزيون الارتري. وعلى ذكر عمله في مهمة المونتاج كان هناك زميل له يقوم بنفس المهمة بالنسبة لنشرة الاخبار بلغة التجرينية يدعى (عقباي). بحكم العمل المشترك وضرورة التنسيق بينهما نشأت علاقة خاصة بين الاثنين انعكست على جوانب أخرى من تعاملاتهما خارج نطاق وظيفة المونتاج دون ان يدري الاثنان ذلك. ففي الاجتماعات الدورية التي كان يعقدها وزير الاعلام السابق (براخي قبرسلاسي) -فرج الله اسره-لأعضاء وزارة الاعلام كان يتحدث طويلا عن الأوضاع الراهنة والمستجدات والبرامج الإعلامية الموضوعة ثم يعطى فرصة للأسئلة والاستفسارات والآراء ولكن في غالب الأحيان لا يتقدم أحد بطرح سؤال او استفسار وذلك لعدة أسباب لا يسمح المجال هنا للتطرق اليها، ولكن يمكن تلخيصها في ان ذلك ربما كان نوعا مما يسمى في علم الإدارة العامة بـ (المقاومة السلبية). وحتى لا يذهب المفسرون للسلوك العام في هذا المنحى يبادر كل من محمد نور وعقباي بطرح بعض الأسئلة والاستفسارات على الوزير لينتهي الاجتماع بالإجابة على اسئلتهما. ما كان يلفت نظرنا انه إذا بادر محمد نور بطرح سؤال فإن عقباي بالضرورة سيكون التالي في طرح السؤال وإذا بادر عقباي فإن محمد نور هو التالي وكأنهما يتبادلان الصور في القصص الخبرية اثناء عملية المونتاج.
في أحد الاجتماعات كنت اجلس الى جانب أبو خلدون وكان ذلك اثناء شهر رمضان حيث طال بنا الاجتماع وشعرنا بالملل حتى حانت لحظة البند الأخير وهو الأسئلة والاستفسارات. التفت الى أبو خلدون وقلت له هامسا: (الدنيا صيام والاجتماع طال أكثر من اللازم لذلك ارجوك لا تطرح اليوم أي سؤال حتى لو بادر عقباي)، ابتسم أبو خلدون وقال لي: تحت امرك يا زعيم.
المفارقة الجميلة ان كلانا انتبه الى عقباي الذي كان يجلس في الاتجاه المقابل لنا، لاحظنا انه كان يركز النظر باتجاهنا معتقدا ان أبو خلدون سيرفع يده ليسأل وبشكل تلقائي رفعت صبابتي اليمنى وحركتها بعلامة النفي حتى يراها عقباي ولكن لسوء حظي انتبه لي عدد من الزملاء فانفجروا ضاحكين بحكم ادراكهم لما كنت اقصده.
غضب الوزير وصرخ بصوت عالي ماذا هناك؟ لا احد يجيب..
انتهى الاجتماع لأول مرة دون أسئلة واستفسارات وكانت الحادثة مثار حديثنا في جلساتنا اللاحقة.
ذكرياتنا الجميلة مع أبو خلدون رحمه الله
كثيرة بكثرة الأيام والسنوات التي قضيناها سويا ولا يكفي الحيز هنا لسرد كل الحكايات والتفاصيل ولكني سأعود اليها حتما كل ما جاءت مناسبة توقد ذاكرة الأيام الخوالي إذا امد الله في العمر ونختم بالترحم على روح فقيدنا أبو خلدون.
. اللهم يمن كتابه ، وهون حسابه ، ولين ترابه ، وألهمه حسن جوابه ، وطيب ثراه وأكرم مثواه وأجعل الجنة مستقره ومأواه وانا لله وانا اليه راجعون.