مقالات

ودّ الخليفة… ختامُ رحلةٍ في نقد الذاكرة الإريترية وقراءة كتاب الأستاذ محمد نور أحمد

بقلم / محمود ود الخليفة

في نهاية هذا المسار الطويل، تأتي هذه الحلقة الأخيرة كنافذة هادئة نطلّ منها على ما تبقّى من الحكاية. وبين ظلال الخراب وأصوات الفقد، يظلّ الأمل يلمع كخيطٍ خفيف يشقُّ عتمة الأيام. ليست هذه خاتمة لقصّة فحسب، بل محاولة لجمع شتات ما تفرّق، وترميم ما تهشّم من ذاكرة المكان والناس، قبل أن نطوي الصفحة الأخيرة من هذا السرد.

في الفصل السابع والصفحات 97–154 سرد لنا الأستاذ التحوّلات الكبرى في تنظيم جبهة تحرير إرتريا. وأوّل الغيث كان “مؤتمر عنسبا” أو “أروتا” أو “مؤتمر الوحدة الثلاثية”، وكلّها أسماء لحدث واحد دون تحديد مكان انعقاده. ثم “مؤتمر أدوبحا” التاريخي، ثم “مؤتمر عواتي” التحضيري للمؤتمر الوطني الأول بتاريخ 26/2/1970 إلى 13/3/1970، ثم المؤتمر الوطني الأول الذي كان نقطة تحوّل في مسيرة الثورة، من حيث وضع برنامج التحرير، وإقامة نقابات فئوية تصطفّ مع الثورة وتدعمها، وتحديد الصديق والعدو، وتوحيد أدوات الثورة بما يحقّق الوحدة الوطنية، وتثبيت اللغتين الرسميتين، ووضع الحلول لمسألة المليشيات المسلحة في المرتفعات والقاش–سيتيت، واتخاذ المؤتمر القرار التاريخي بتنظيم عمل سياسي مكثف في أوساط جماهيرنا في تلك المناطق وغيرها لرفع مستوى وعي الجماهير بقضيتها، لتدرك معنى ومغزى الثورة والوطن.

وفي موضوع ثورة التوعية الثقافية يمكن إضافة الكثير من فروعها وحيثياتها لتكتمل الصورة التي وضعنا فيها الأستاذ محمد نور. ومن ملاحم التوعية من أجل الوطن نضيف هنا — كمثال — وثيقة المناضل “تسفاي تخلي إزقي” التي وضعها في كتاب ليقرأه جيلنا والأجيال القادمة.

المناضل المخضرم تسفاي تخلي إزقي انضمّ إلى جيش التحرير الإرتري عام 1967، وعرفه كاتب هذه السطور مديرًا للمكتب السياسي عام 1976. وفي عام 1978 نُقل إلى المكتب العسكري قائدًا لكتيبة، وأصيب إصابة بليغة في الرأس عند الهجوم الإثيوبي لاستعادة المدن في جبهة “مِرب”، وحمل منها عاهة لازمته بقية حياته. يعيش اليوم لاجئًا في فرنسا بعد أن فارقته زوجته “أدحنت عندو” بسبب الوفاة قبل بضعة سنين.

كتب المناضل كتابه بعنوان:
«ተመክሮ ሂወተይ – ኣብ ህዝባዊት ውድብ ትጋድሎ ሓርነት ኤረትራ»
وأقرب ترجمة لعنوان الكتاب هي: «تاريخ حياتي… وتجربتي في التنظيم الجماهيري لجبهة تحرير إرتريا».
الكتاب بلغة التغرينية في نحو 200 صفحة، طُبع في مارس 2020. دوّن فيه المناضل تسفاي تجربة حياته ونضاله بدءًا بقرية ميلاده “أمادر” في مديرية “طلّما” بسَرّاي، وانضمامه لجيش التحرير الإرتري، ثم اختياره في لجنة الحوار مع “سلفي ناطنت” بعد المؤتمر الوطني الأول مع رفاقه: إبراهيم محمد علي، والدكتور فصوم قبري سلاسي، والمناضل ملأكي تخلي. ثم اختياره في لجنة إعلامية — تِقرِنية — في بداية عام 1972 من أجل التوعية في المرتفعات مع الدكتور فصوم قبري سلاسي، والمناضل الشهيد ملأكي تخلي، والمناضل قبرو حقوس، والمناضل عثمان عبدالقادر “أبو عفّان”، والمناضل الشهيد مسفن بهلبي، والمناضل الشهيد إسرائيل مسقنا الذي انضم للمجموعة لاحقًا.

وهنا يبدي كاتب هذه السطور ملاحظاته:

أولًا:
هناك لجنة التحضير للمؤتمر الوطني الأول سبقت لجنة الحوار للوحدة الوطنية؛ دعت والتقت بالمنشقّين عن جبهة تحرير إرتريا، وخاصة الشباب المسيحيين الذين تواروا في مناطق “شمال بحري” في منطقة “عد شوما”. وكان فيها المناضل إبراهيم محمود قَدَم والمناضل أحمد محمد ناصر. ثم شُكّلت لجنة أخرى للحوار بعد انعقاد المؤتمر الوطني الأول بقيادة إبراهيم محمد علي والدكتور فصوم قبري سلاسي وآخرين. أذكر ذلك لتلافي الالتباس.

ثانيًا:
نحتاج إلى معرفة الوفود التي أُرسلت لدعوة الأطراف للمؤتمرات التي عُقدت، ولجان الحوار التي أُرسلت بعد المؤتمر الوطني الأول: أعضاؤها، تواريخ اللقاءات، ونتائجها.

ثالثًا:
عند قراءتي لكتاب المناضل تسفاي تخلي إزقي وجدت فيه ملحمة خاضها هو ورفاقه في توعية الجماهير، وخاصة القرى المسلحة والمليشيات والشرطة والكوماندوس. وجدتُ فيه قصصًا عظيمة تروي بطولة وتضحيات وصبرًا ومثابرة. إنها القصة التي أعادت الثقة بين سكان المرتفعات وثورتهم الممثلة حينها في “جبهة تحرير إرتريا”. قصة هُزم فيها المخطّط الإثيوبي الرامي إلى عزل الشعب عن ثورته. ومن ثمرات ذلك النضال انضمام المسؤول العسكري للكوماندوس “الملازم كِداني” في منطقة “منسع” إلى الثورة.

رابعًا:
أثمّن دور الأستاذ في تنويرنا بموضوع “مسألة دنكاليا”، لكنه لم يذكر ما يعرفه — كعضو قيادي — عن أسباب نفور شعبنا في دنكاليا من الثورة، ولم يذكر خلفيات تسليم العضو القيادي في المجلس الثوري من أبناء دنكاليا “شحيم إبراهيم شحيم” إلى العدو الإثيوبي. وكان القارئ يتوق لمعرفة خلفية الصراع هناك، وكذلك موضوع المليشيات المسلحة في القاش، لأن جزءًا مهمًّا من الكناما كان ضد الثورة، وقد كوّنت منهم إثيوبيا مليشيات تحارب الثورة. وكانت معركة “بارنتو” في صيف عام 1977–1978 نموذجًا بارزًا. والحاجة قائمة لمعرفة تفاصيل هاتين المسألتين للتعلم وسدّ ثغرات المعرفة.

وفي الصفحات 97–154
سرد الأستاذ موضوع مدرسة الكادر، وهنا أُبدي ملاحظاتي وإضافاتي إن كانت تُثري الموضوع:

أولًا:
بعد كل تلك الانتصارات والانكسارات والصراعات القبلية والمناطقية والدينية التي ظهرت في أفق الثورة وأعادت عقارب الساعة إلى الوراء سنين وأخّرت الانتصار، جاء المؤتمر الوطني الأول بفكرة “مدرسة الكادر” ليعرف الشباب المنضمّون إلى الثورة حقيقة النضال ودحض الادعاءات الإثيوبية عن الثورة، ومنها الشحن الطائفي وتبعية الثورة لجهات خارجية، وليعرفوا معسكر الأصدقاء والخصوم. وقد نجح التنظيم في خلق كوادر وطنية مؤهلة ساهمت بفاعلية في معركة التحرير. وقد انتسب كاتب هذه السطور إلى دورتين، إحداهما في عام 1976 في معسكر “عليت-تحات” على مسافة ليست ببعيدة من معسكر إدارة المكتب السياسي. وكثير من الرفاق الذين كانوا حضورًا في تلك الدورة أصبح بعضهم مشرفين سياسيين في جيش التحرير وآخرون كوادر ناجحة في الإدارات المختلفة.

وقد ذكر لي عضو إدارة المكتب السياسي حينها المناضل آدم حبيب أن تلك المدرسة — قبل انعقاد المؤتمر الوطني الثاني، وقبل استقرارها في “عليت-السفلى” — كان مقرّها منطقة “كلنتيباي”، ويبدو أن أول من أسسها وأشرف عليها هو الأستاذ محمد نور أحمد بقرار من قيادة المؤتمر الوطني الأول عام 1971.

ثانيًا:
في نهاية هذا الفصل، وفي الهامش، ذكر الأستاذ أعضاء قيادة التنظيم الذين اختارهم المؤتمر، وأورد اسم 42 مناضلًا، بينما الأصل أن القيادة كانت 41 فردًا. والمناضل أحمد إبراهيم نَفّع (حليب ستّي) لم يكن عضوًا في قائمة المجلس الثوري عند انتخابه عام 1975، ولم يرد اسمه في وثائق التنظيم. ولعل الأستاذ يعذرني إن كان المناضل “حليب ستي” احتياطيًا ودخل القيادة بعد استشهاد أعضاء المجلس الثلاثة: عبدالقادر رمضان، وعلي محمد إبراهيم (في دنكاليا – يوليو 1977)، وإدريس رمضان إيلوس (شهيد معركة بارنتو 1978).

ثالثًا:
في الفصل الحادي عشر وثّق الأستاذ محمد نور أحمد رحلته في تمثيل جبهة التحرير الإرترية في الخارج. وليس لدي في هذا سوى التعلم من توثيق هذا المناضل الكبير وتجربته الثرّة وإرادته التي لا تستكين من أجل نصرة قضية شعبه حتى النصر. وكان ينبغي أن يكون مكانه قلب العاصمة الإرترية بين أبنائه وأحفاده، يستأنس الباحثون في تاريخ الثورة بآرائه وإفاداته.

وفي الفصل الثاني عشر
وتحت عنوان جانبي تحدث الأستاذ عن وقوع جبهة تحرير إرتريا في “فخّ الجبهة الشعبية”، على حدّ تعبيره.

أولًا:
صوّر الأستاذ الفخ بدءًا برفض اتفاقية الخرطوم وإقصاء البعثة الخارجية، ثم الحوار مع الجبهة لوحدها. وفي هذا الموقف كنت في بدايات متابعاتي لأخبار الثورة، وعرفتُ أن تلك المسألة كانت موضوع نقاش طويل داخل اجتماع المجلس الثوري الثالث في أغسطس 1976. كان اجتماعًا مفصليًا، وكان عليه أن يجيب عن سؤال: من هو غريمنا في الحوار من طرفَي “قوات التحرير الشعبية”؟

وعندما أتأمل تلك المواقف يتبدّى لي — ربما — أن “جبهة تحرير إرتريا” كانت مخترقة من القمة إلى القاعدة. وقد استمعتُ قبل أشهر إلى مقابلة يجريها الزميل أنتونيو تسفاي في تلفزيون “سند” مع المناضل البريغادير جنرال “تخستي هيلي”، تحدث فيها عن رؤية وتنبؤات المناضل — حينها — أسياس أفورقي عقب انفجار الصراع الداخلي في الجبهة وتمرد أعداد كبيرة من جيش التحرير على قيادتها. قال أسياس وقتها:
“يجب مساندة هذا التيار الديمقراطي المتنامي داخل الجبهة، ويجب أن نعمل بجد لنصرة هؤلاء، لأن الجبهة لن تستمر ولن تبقى طويلًا… إنها مسألة وقت فقط.”

ويبدو أن نظرة تنظيم الجبهة الشعبية للجبهة كانت عدائية متجذّرة، وأن زعيمها كان يعتبر ما قام به عواتي “جهادًا”. (راجع مقابلات المناضل وليسوس عمار مع الإعلامي بيّني سمري – راديو SBC من ملبورن).

ثانيًا:
لا علم لي حتى الآن إن كان للجبهة مخطط لتصفية الجبهة الشعبية بعد قرار إيقاف الحرب الأهلية عام 1974. ويمكن الاستدلال بما ذكره المناضل عبدالله سليمان في مقابلاته التوثيقية مع الأستاذ إبراهيم إدريس سليمان، حين نبّهه قيادي كبير في حكومة اليمن الجنوبي بخطورة تنظيم الجبهة الشعبية على جبهة التحرير والمنطقة، وعرض دعمًا عسكريًا وماديًا لتصفيته. وذكر عبدالله أنه رفض ذلك لأسباب عدة، وأنه لم يبلغ القيادة رسميًا.

ثالثًا:
عن التفوق العسكري وملابسات الانسحابات المستمرة من دنكاليا والمرتفعات إلى بركا، وضع الأستاذ محمد نور حقائق ومؤشرات مهمة. وقد قيل الكثير وسيقال، عن اختلاف التسليح، ومستوى التدريب، وجهوزية المقاتل، وأثر المستوى التعليمي على القدرات القيادية، ومنها قراءة الخرائط. وكل ما تقدم يمثل عوامل القوة والضعف، لكن هناك أيضًا العقيدة القتالية.

ولا زلت أعتقد أن مسألة العلاقة بين الجبهة الشعبية وجبهة تحرير إرتريا تحتاج إلى دراسة أعمق دون الاقتصار على المعارك فقط. فهناك الكثير مما يجب معرفته عن ملابسات الخلاف وجذوره، والتدخلات الأجنبية، وخاصة التدخل السافر لتنظيم الجبهة الشعبية لتحرير تقراي في الشأن الإرتري.

وفي الملاحق
وجدت أربعة، بينها مقابلتان مهمّتان للمناضلين سيد أحمد محمد هاشم وعمر دامر؛ وقد كان نشرهما في الكتاب أمرًا مهمًا. والملحق الرابع كان مقالًا للأستاذ محمد نور حول مسألة التعليم بلغة الأم.

وفي الملحق الثالث، صفحة 170:
وجدت وثيقة مهمة عن أعضاء البرلمان الإرتري لعام 1952 منقولًا عن منشور إلكتروني نقلته الكاتبة الكبيرة عايدة كداني. ورأيت تسجيل الملاحظات التالية:

أولًا:
أعتقد أن الكاتبة عايدة كداني لم تنشر مقالًا بالعربية، بل نقلت وثيقة — لا أدري بأي لغة — ولكن من طريقة كتابتها بالأحرف العربية يبدو أن الوثيقة الأصلية بالإيطالية. ففي رقم (4) ورد اسم:
عبدالقادر تشاساي، غِرازماك، عضو مجلس 26/3/1952 عن “أكريا” بأسمرا.
وهذا دفعني لمراجعة أسماء أعضاء البرلمان الإرتري الأول لدى الأستاذ محمد سعيد ناود في كتابه “حركة تحرير إرتريا—الحقيقة والتاريخ”، ولدى الأستاذ إمنتو تسفاي في كتابه عن حياة الزعيم إدريس محمد آدم، ووجدت أن الاسمين الصحيحين هما:
قِرازماج عبدالقادر كَحساي ممثل “أكريا”.

ويبدو أن صعوبة نطق الأسماء الإريترية بالإيطالية أدّت إلى تحريف “كحساي” و“قِرازماج”.

ثانيًا:
توثيقاتنا — للأسف — ليست أفضل حالًا من قضايانا العالقة الأخرى. فمثلًا: أسماء أعضاء البرلمان الأول والثاني والثالث ليست مكتملة في كثير من المراجع. فالمناضل الكبير محمد سعيد ناود ذكر 60 عضوًا، وطلب ممن يعرفون بقية الثمانية أن يضيفوهم. بينما أورد الأستاذ إمنتو تسفاي 56 اسمًا فقط. وهناك اختلافات بين القائمتين.

كما أن اللائحة التي أوردها الأستاذ محمد نور تحتوي 60 اسمًا فقط، ولم تكتمل لتصل 68، وفيها اختلافات مع ما ذكره الكاتبان.

الاستاذ محمد نور أحمد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى